في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وضع المنتصرون نظاماً دولياً جديداً للعالم، هو النظام القائم على القواعد أو على القانون الدولي، وهذه القواعد التي تبنتها واشنطن هي الأعراف الأساسية الحاكمة للعلاقات الدولية، التي تستند إلى مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
وتصف أمريكا النظام الدولي القائم بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم بأنه "قائم على القواعد"، وتعتبر محاولات تغييره أو حتى تعديله مدخلاً للفوضى الدولية. وهذا أمر لا تتفق حوله دول عديدة وتكتلات دولية وازنة، ترى في النظام الدولي القائم وقواعده تجسيداً للمصالح الأمريكية والغربية فقط، وأنه مجحف ويضع الحل والعقد بيد الغرب فقط، ولا يراعي مصالح بقية دول العالم.
ولا شك أن هناك تعارضاً واضحاً بين أهداف هذا النظام المعلنة "النبيلة"، والإشكال الذي تنطوي عليه هيكلة وتركيبة مؤسسات هذا النظام وقواعد عملها مثل مجلس الأمن والأمم المتحدة، ما يجعل تمسك واشنطن بهذا النظام، وتكرار الرئيس الأمريكي جو بايدن الحديث عنه عند الحاجة، ينطوي على نفاق واضح بين الواقع المجحف لحقوق كثير من الشعوب والدول، وما تريده واشنطن، التي تحابي حلفاءها الذين ينتهكون هذه القواعد، مثل إسرائيل على سبيل المثال.
وترى الكثير من دول الجنوب العالمي على سبيل المثال أن الولايات المتحدة تتعمد إبقاء تعريف مصطلح "النظام الدولي القائم على القواعد" غامضاً، لأنه كلما كانت القواعد المزعومة أقل تحديداً زادت قدرة الولايات المتحدة على التلاعب بها في أي وقت تشاء.
نهاية "النظام القائم على القواعد" في غزة وأوكرانيا
تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية خلال العامين الماضيين شهد العالم تحديات كبيرة "للنظام القائم على القواعد"، في كل من أوكرانيا وغزة. إذ أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى صراع مدمر، تسبب في خسائر فادحة في الأرواح وتشريد الملايين. واحتشد الغرب خلف أوكرانيا، معتبراً إياها رمزاً للديمقراطية في مواجهة العدوان الروسي، لكن الإرهاق من هذه الحرب والتشكك في جدواها يتناميان باستمرار، وخاصةً في الولايات المتحدة، التي يعيق بعض مشرّعيها من الجمهوريين مواصلة تمويل دفاع أوكرانيا.
ومن ناحية أخرى، تثير الحرب في غزة المخاوف من ازدواجية المعايير في النظم الدولية؛ إذ أدى هجوم إسرائيل على غزة، الذي تسبب في دمار هائل وخسائر فادحة في أرواح المدنيين الفلسطينيين، إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة، وأثار دعم الولايات المتحدة لإسرائيل انتقاداتٍ واتهامات بمشاركتها في معاناة الفلسطينيين وقتلهم. وتعرَّض وزير الخارجية أنتوني بلينكن لانتقادات في اجتماع لمجموعة العشرين مؤخراً، لاستخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد دعوات مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزة.
فشل "النظام القائم على القواعد" وانكشاف نفاقه في غزة
يمكن القول إن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فشل في كلا الصراعين، حيث أدى استخدام حق النقض من الولايات المتحدة وروسيا إلى إحباط الجهود الدولية الجماعية. وأعرب وزير الخارجية البرازيلي ماورو فييرا، الخميس 22 فبراير/شباط، عن أسفه "للشلل غير المقبول الظاهر" في الأمم المتحدة، وقال إن "المؤسسات متعددة الأطراف القائمة ليست مجهزة بشكل مناسب للتعامل مع التحديات الحالية".
وقال ريتشارد غاون، مدير شؤون الأمم المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية: "حقيقة أن الولايات المتحدة تستخدم حق النقض بشكل متكرر في المجلس تجعل من الصعب انتقاد استخدام روسيا لحق النقض. وبينما تزعم الولايات المتحدة أن على المجلس أن يتجنب التصويت على غزة، حتى يتوصل إلى إجماع، لم تشعر الولايات المتحدة بأي تأنيب ضمير في إجبار روسيا على استخدام حق النقض مع أوكرانيا. وإذا سُمح للولايات المتحدة بإجبار روسيا على استخدام حق النقض، فالدول الأخرى ستفعل الشيء نفسه مع الولايات المتحدة بشأن غزة".
وأضاف غاون أن الروس يرون فرصة ذهبية لإبراز نفاق الولايات المتحدة. و"النظام القائم على القواعد" فكرة عزيزة على الزعماء الغربيين، وخاصةً بايدن، ويستشهدون بها باستمرار حين يحددون مواقفهم من الشؤون العالمية. وقد يرون في أوكرانيا دفاعاً عن "النظام القائم على القواعد" في وجه الوحشية الروسية، ولكن في الكارثة الحاصلة في غزة، من السهل أيضاً أن نرى انهيار ذلك النظام ونفاقه.
ويقول عمال الإغاثة وجماعات حقوقية إنهم يتعاملون مع أزمة غير مسبوقة، أزمة عزَّزتها الولايات المتحدة بصدها جهود الأمم المتحدة لفرض وقف إطلاق النار. وقال كريستوفر لوكيير، الأمين العام لمنظمة أطباء بلا حدود، أمام مجلس الأمن في مؤتمر صحفي: "الاستجابة الإنسانية في غزة اليوم مجرد وهم، وهم مريح يعزز رواية أن هذه الحرب تتماشى مع القوانين الدولية".
وأضاف لوكيير أن "القوانين والمبادئ التي نعتمد عليها لتمكين المساعدة الإنسانية تآكلت الآن إلى حد أنها أصبحت بلا معنى"، وأن إسرائيل تشن "حرب عقاب جماعي، حرباً بلا قواعد، حرباً بأي ثمن" على حساب سكان غزة كافة.
النظام القائم على القواعد في طريقه للاندثار
تقول الصحيفة الأمريكية إن إسرائيل دخلت بالفعل قفص الاتهام في محكمة العدل الدولية، بعد اتهامها بارتكاب إبادة جماعية في غزة. وبدأت هذا الأسبوع جلسات استماع في تحقيق منفصل في شرعية الاحتلال الإسرائيلي وسيطرته على الأراضي الفلسطينية التي استولت عليها إسرائيل، في أعقاب حرب عام 1967 على مدى أكثر من نصف قرن.
لكن رغم ذلك، فإن الواقع يقول إننا نحيا بالفعل في عالم "انتقائي"، يتراجع فيه نفوذ الولايات المتحدة، وتتغير التحالفات، ويتآكل القانون الدولي والمبادئ العالمية التي يقوم عليها.
وكتبت أنييس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، في مقال "موجع" نشرته مجلة Foreign Affairs: "خطر الإبادة الجماعية، وخطورة الانتهاكات المرتكبة، والمبررات الواهية التي يقدمها المسؤولون المنتخبون في الديمقراطيات الغربية، تنذر بتغيُّر في العصور. والنظام القائم على القواعد الذي يحكم الشؤون الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في طريقه إلى الاندثار، وربما دون عودة".