وصلت سفينة الشحن الروسية "أيه تي-27" إلى غينيا على الساحل الغربي لأفريقيا الشهر الماضي، وكانت تحمل شحنة نموذجية: 25 ألف طن من القمح الروسي متجهة إلى مالي، وهي دولة مجاورة تواجه انعداماً حاداً في الأمن الغذائي.
ومع ذلك لم تكن البضائع جزءاً من أي تجارة عادية. وكانت السفينة التي يبلغ طولها 170 متراً، والتي ترسو في العاصمة الغينية كوناكري واحدةً من عدة سفن ترسل حبوباً مجانية وعد بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لست دول أفريقية، لكن السخاء يأتي بسعر مختلف كما يقول تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
روسيا توسع علاقاتها في أفريقيا على حساب الغرب
إلى جانب المساعدة الأمنية وإمدادات الأسلحة وغيرها، تُعَد التبرعات جزءاً من جهود الكرملين لتوثيق العلاقات مع أفريقيا أثناء شن الحرب في أوكرانيا. وما تحصل عليه روسيا في المقابل هو دعم طموحاتها والوصول إلى الأسواق التي يمكن أن تخفف المزيد من تأثير العقوبات الأمريكية والأوروبية. ويحقق الكرملين تقدماً مُطرداً، مستفيداً من عدم الاستقرار في البلدان التي اعتادت الاعتماد على العلاقات الاستعمارية السابقة مع أوروبا.
وخلال القمة الروسية الأفريقية العام الماضي، وعد بوتين بما يصل إلى 50 ألف طن من الحبوب المجانية لكل من بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا، والتي عزز بعضها منذ ذلك الحين علاقاته مع موسكو. وقالت وزارة الزراعة الروسية هذا الأسبوع إنه تم تسليم 200 ألف طن من "المساعدات الإنسانية لأفريقيا".
وفي الأشهر الماضية، شهدت بوركينا فاسو وصول القوات الروسية وافتتاح موسكو سفارة لها. وتحصل مالي على مصفاة للذهب برعاية روسية.
وتخطط جمهورية أفريقيا الوسطى لاستضافة قاعدة عسكرية روسية، وقد حصلت على الأسلحة والخبرة الأمنية والتدريب. وصوَّتت إريتريا ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يطالب روسيا بسحب قواتها من أوكرانيا.
وقال صديق أبا، الذي يرأس مركز أبحاث CIRES الذي يركز على منطقة الساحل الأفريقي، إن المساعدات الروسية تذهب إلى أولئك الذين يُعتبرون "أفضل حلفاء روسيا" مثل إريتريا الفقيرة والمصممة على معارضة الإمبريالية الغربية.
القمح مقابل المنافع السياسية
أقامت موسكو علاقات مع الدول الأفريقية خلال فترة إنهاء الاستعمار في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث قامت بتدريب مقاتلي التحرير الزيمبابويين وتقديم المساعدات العسكرية والمنح الدراسية للطلاب من مالي وبوركينا فاسو للدراسة في الجامعات السوفييتية.
وقد سلط قادة تلك الدول الضوء على تلك العلاقات السابقة عندما تحركوا لقطع العلاقات مع الغرب -وخاصة فرنسا- وأيضاً سلطوا الضوء على أن روسيا لم تستعمر تلك البلدان قط مثل الغرب الاستعماري.
تذكِّرنا تبرعات موسكو الأخيرة أيضاً بالطريقة التي استخدمت بها واشنطن الغذاء كأداةٍ في إدارة شؤون الدولة لعقودٍ من الزمن، وفقاً لجنيفر كلاب، الأكاديمية التي ألفت كتاباً عن المساعدات الغذائية.
والآن أصبحت روسيا أكبر مُصدِّر للقمح في العالم، وأصبحت قادرةً على تقديم هذا الفائض من الحبوب مجاناً، ويرجع ذلك جزئياً إلى نجاح الكرملين في إعادة بناء روسيا على مدار العقدين الماضيين لتصبح قوةً زراعية.
وقالت كلاب، الأستاذة في جامعة واترلو في كندا: "تتبع روسيا بعض تلك الأنماط التي اعتاد كبار المانحين عليها. إنها تعطي مبالغ ضئيلة وتحاول الحصول على منفعة سياسية كبيرة".
صادرات القمح الروسي تصل إلى مستويات قياسية بعد الحرب
وتتمتع روسيا بوفرةٍ من الحبوب بعد عدة مواسم حصاد وفيرة، والإجمالي الذي وعد به بوتين لا يشكل سوى حصة بسيطة من صادرات روسيا البالغة 60 مليون طن، لكن الدعاية حول التبرعات المباشرة للحبوب ساعدت في إعطاء الانطباع بأن روسيا تقف إلى جانب أفريقيا، وفقاً لأبا من CIRES.
وتستورد نصف دول القارة تقريباً ما لا يقل عن 30% من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، وفقاً للمركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة. وارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل كبير بعد أن أدى غزو بوتين إلى قطع صادرات أوكرانيا عن طريق البحر. وتعطلت الشحنات بشكل أكبر بسبب انسحاب الكرملين العام الماضي من صفقة تسمح لكييف بالشحن عبر البحر الأسود، فضلاً عن الضربات المتكررة على مرافق الموانئ. وأدى التضخم إلى احتجاجات واسعة النطاق في أفريقيا.
ولا تستهدف العقوبات الغذاء، رغم أن بعض مصدِّري المنتجات الزراعية الروسية واجهوا مشكلات تمويلية ولوجيستية في أعقاب الغزو مباشرة. ومنذ ذلك الحين وصلت صادرات القمح الروسي إلى مستويات قياسية وانتعشت شحنات الأسمدة أيضاً، ما أدى إلى انخفاض الأسعار.
وقال أبا: "عندما رفضت روسيا تجديد اتفاق الحبوب خاطرت بالظهور بمظهر الشيطان". وأضاف أن روسيا، من خلال تبرعاتها، حتى لو لم تكن كمية كبيرة، هي التي تعترف حقاً بكفاح الأفارقة، والتي ترى الصعوبات التي يواجهونها.
وبالعودة إلى كوناكري، من المرجح أن تغطي الحبوب المخصصة لمالي احتياجات الاستيراد لمدة أسبوعين فقط، وفقاً لسوياي كوناتي، المسؤول في وكالة الحبوب الحكومية OPAM. بالإضافة إلى ذلك، تأخرت الشحنة بسبب انفجار كبير في الميناء الغيني، وعدم دفع الرسوم في الوقت المحدد.
ومع ذلك، قطعت الحكومة التي يقودها المجلس العسكري في مالي علاقاتها العسكرية مع حلفائها الغربيين السابقين وتقترب أكثر من روسيا. وكما هو الحال في بلدان أخرى في جميع أنحاء المنطقة، أصبحت الأعلام الروسية رمزاً للمشاعر المعادية للغرب.
وقال زعيم المعارضة المالية عمر ماريكو في مقابلة أُجرِيَت معه في أبيدجان، العاصمة التجارية لساحل العاج: "بالنسبة لروسيا، الأمر يتعلق بحسن النية، وفي النهاية هذه علاقات عامة جيدة لكلا البلدين. يحتاج المجلس العسكري إلى إظهار أنه لا يزال لديه أصدقاء أقوياء بعد قطع العلاقات مع حلفائه القدامى".
"هدية من الاتحاد الروسي"
وفي بوركينا فاسو، وصل حوالي 100 جندي روسي إلى العاصمة واغادوغو الشهر الماضي، في أول انتشار للفيلق الأفريقي، وهي قوة مسلحة تحل محل مرتزقة مجموعة فاغنر المنحلَّة الآن في أفريقيا.
وأظهر التلفزيون الحكومي الروسي، الشهر الماضي، أكياساً بيضاء من القمح الروسي مكتوب عليها "هدية من الاتحاد الروسي إلى بوركينا فاسو" ومطبوع عليها أعلام البلدين.
وقال ناندي سوم-ديالو، وزير التضامن والعمل الإنساني في بوركينا فاسو، في حفل بمناسبة التبرع، في يناير/كانون الثاني: "يُظهِر ذلك تضامن روسيا مع شعب بوركينا فاسو والعلاقات الطيبة والقوية بين بلدينا".
وفي الصومال، لم تكن روسيا لاعباً مؤثراً منذ نهاية الحرب الباردة، لكنها الآن تتنافس مع تركيا والمملكة السعودية وقطر والإمارات والدول الغربية على موطئ قدم هناك، وفقاً لنزار ماجد، الذي يدير برنامج الصومال في كلية لندن للاقتصاد، وقد تلقت البلاد شحنتين مجانيتين من الحبوب.
وقال ماجد: "إن الحرب في أوكرانيا والبيئة العالمية المُستقطَبة الحالية يمكن أن تندلع في أجزاء مختلفة من أفريقيا، بما في ذلك الصومال". وأضاف: "تصبح المساعدات الغذائية هنا مجرد جزء من تلك اللعبة".