ينظر الأمريكيون بقلق إلى إحدى نتائج حرب غزة وهي تراجع الخلافات بين السنة والشيعة بالمنطقة، والتي كانت وصلت لذروتها بسبب دور إيران في وأد الثورة السورية ودعمها للحوثيين ضد الحكومة المعترف بها دولياً في اليمن والتوتر بين الرياض وطهران.
تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية عرض لأسباب تراجع الخلافات بين السنة والشيعة، والدور التوحيدي لفلسطين بالمنطقة، ولماذا قد يمثل ذلك خسارة للولايات المتحدة الأمريكية؟
هكذا أدت حرب غزة لتراجع الخلافات بين السنة والشيعة بالمنطقة
يقول تقرير المجلة الأمريكية إنه من الواضح أن الحرب في غزة لم تعد مقصورةً على إسرائيل وحماس فقط. إذ إن هناك خطراً حقيقياً يتمثّل في أن تؤدي المناوشات الجارية في المنطقة إلى صراع عسكري أمريكي مباشر مع إيران.
وكما لاحظ الكثيرون، تكشف نقاط التوتر الحالية عن تنامي نفوذ محور ما يعرف باسم الممانعة الذي يمثل مجموعة فضفاضة من الميليشيات المدعومة من إيران، والتي تهاجم المصالح الإسرائيلية والأمريكية بطول منطقة الشرق الأوسط. لكن الأمر غير الملحوظ بالدرجة نفسها هو مدى تغطية هذا الصراع الأوسع على الانقسامات الطائفية التي كانت تشكل المنطقة في المعتاد. حيث تحدّت الحرب في غزة التوترات القائمة. إذ يشكل المسلمون السنة الغالبية العظمى من الفلسطينيين، وقد خرجت حماس من رحم الإخوان المسلمين، وهي أهم حركة إسلامية سنية تنبع جذورها من مصر. ومع ذلك وجدت حماس أقوى حلفائها في الجماعات والأنظمة التي يقودها الشيعة في إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن؟
"قوة توحيد".. قضية فلسطين تحظى بمكانة خاصة لدى السنة والشيعة
وبعيداً عن محور المقاومة، يكمن التفسير في المكانة الخاصة التي لطالما حظيت بها قضية التحرر الفلسطيني في أوساط السنة والشيعة العاديين، وكيف حوّلت الحرب تلك المشاعر إلى قوة توحيد جبارة، حسب وصف المجلة الأمريكية.
إذ لطالما كان الفلسطينيون يمثلون نقطة التقاء مشتركة بين جميع أرجاء العالم الإسلامي، وذلك حتى عندما كانت التوترات الطائفية تشتعل في أي مكان.
وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، ومع سعي القادة العرب السنة إلى صفقات "التطبيع" مع إسرائيل وتجاهلهم المتزايد للقضية الفلسطينية؛ أصبحت الحكومة الإيرانية وحلفاؤها الشيعة الداعمين الرئيسيين للمقاومة الفلسطينية المسلحة.
الانقسامات الطائفية كانت قد تراجعت قبل الحرب عبر التقارب الإيراني السعودي
وفي المقابل، أدت التحولات الإقليمية إلى جعل الانقسام الطائفي أقل ظهوراً على السطح، بما في ذلك إعادة التقارب بين السعودية وإيران في مارس/آذار 2023، ومحادثات السلام الحوثية السعودية الجارية، والديناميات المتغيرة في العراق ولبنان.
والآن، بعد نحو أربعة أشهر من الحرب الكارثية، أيقظ العدوان الإسرائيلي على غزة جبهةً إسلامية موحدة تضم الشعوب العربية السنية المعارضة للتطبيع العربي بأغلبية ساحقة، إلى جانب الجماعات الشيعية المسلحة التي تشكل جوهر قوى المقاومة الإيرانية.
هذا التطور يشكل تحدياً استراتيجياً لأمريكا
وبالنسبة للولايات المتحدة وشركائها، يشكل هذا التطور تحدياً استراتيجياً يتجاوز نطاق مواجهة الميليشيات العراقية والحوثيين بالقصف المستهدف.
إذ تهدد الحرب في غزة بتقويض النفوذ الأمريكي عن طريق توحيد المنطقة التي ظلت منقسمة لوقتٍ طويل، ما قد يجعل العديد من المهام العسكرية الأمريكية في المنطقة غير قابلة للاستمرار على المدى البعيد.
كما أن هذه الوحدة الجديدة تثير عقبات كبيرة في وجه أي جهود تقودها الولايات المتحدة لفرض اتفاق سلام يستبعد الإسلاميين الفلسطينيين من المعادلة، حسب المجلة الأمريكية.
الجماعات الموالية لإيران لديها جذور عميقة بالمنطقة وتستفيد من التدخلات الغربية
لا يجب تفسير القوة المتنامية لقوى المقاومة باعتبارها مجرد تعبير عن الأصولية الدينية أو الهوية الطائفية، أو حتى تعبيراً أساسياً عن تلك الجوانب.
إذ ترجع تلك القوة المتنامية إلى عدة عوامل تشمل مستويات التمويل المستدامة، والهيكلة التنظيمية الملتزمة والمنضبطة، والأيديولوجية المتماسكة، والدعم المجتمعي الكبير لتلك الجماعات داخل مجتمعاتها. لكن جذورها ترتبط كذلك بالتداعيات غير المقصودة للتدخلات الغربية والإسرائيلية، وكذلك سياسات الأنظمة العربية الموالية للغرب. والأهم من كل ذلك هو ارتباطها بالتقارب التدريجي بين حماس، التي تمثل أقوى حركة إسلامية فلسطينية، من جهة وبين حلفاء إيران الشيعة من جهة أخرى.
لكن علاقة حماس بإيران وحزب الله لم تكن سلسة دائماً
وقد تشكّل محور المقاومة خلال السنوات التي تلت هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول. حيث عززت إيران وسوريا تحالفاتهما وعلاقاتهما مع الجماعات المسلحة في لبنان والعراق والأراضي الفلسطينية لردع الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، وذلك مخافة التحول إلى الهدف التالي لجهود تغيير النظام التي تقودها الولايات المتحدة. ومع انزلاق المنطقة في هوة العنف الطائفي، لعب الدعم الإيراني المتزايد للحركات الإسلامية الفلسطينية دوره في السماح لإيران بالحفاظ على شيءٍ من شرعيتها الإسلامية العامة.
ومع ذلك، استغرق بناء التحالف الإيراني مع حماس سنوات، ولم تكن العلاقات سلسةً دائماً.
كما أن العلاقة بين حماس وإيران وباقي المجموعات الشيعية توترت بسبب اختلاف الموقف حول الثورة السورية، حيث دعمت إيران والميليشيات الموالية لها، الأسد عسكرياً، بينما نأت حماس بنفسها عن الصراع، وإن لم تخفِ تعاطفها مع المعارضة السورية التي كانت أغلبها من العرب السنة وكثير من فصائلها إسلامي التوجه.
فرغم هذا التحالف، ظلت حماس عضواً هامشياً بعض الشيء بالنسبة لأعضاء المحور الأساسيين من الشيعة، والذين تعتمد أيديولوجيتهم المشتركة على العقيدة الشيعية المرتبطة بإيران وعلى مفهوم الاستشهاد الذي يحمل دلالات شيعية قوية. ولهذا كانت علاقات حزب الله مع إيران أعمق بكثير من علاقات حماس.
وتجدر الإشارة إلى أن حركتي حماس والجهاد تعتبران أنفسهما جزءاً من محور المقاومة ضد إسرائيل، ولكن ليس جزءاً من المحور الشيعي ذي الأهداف المتعلقة بالهيمنة الطائفية وتعزيز النفوذ الإيراني، بل هما حريصتان دوماً على النأي بأنفسهما عن السياسات الإيرانية المثيرة للجدل بالمنطقة، وتجنيب القضية الفلسطينية تداعيات الخلافات بين السنة والشيعة.
قادة إيران وحزب الله لم يكونوا على علم بطوفان الأقصى
ويثير هذا الأمر التساؤلات حول مدى تنسيق إيران لأنشطة المحور. فعلى سبيل المثال، لا يبدو أن نصر الله أو خامنئي -أو حتى قادة حماس السياسيين في الخارج- كانوا على علمٍ بتفاصيل هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بالرغم من أنهم أثنوا عليه.
وهناك أيضاً مسألة تتعلق بمدى استعداد أعضاء المحور للمشاركة في صراع حماس مع إسرائيل. فبرغم وجود بعض النشاط العسكري على كل الجبهات منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تجدر الإشارة إلى أن إيران لم تتدخل بشكلٍ مباشر، وأن حزب الله اكتفى بإرسال الصواريخ العادية عبر الحدود اللبنانية -بدلاً من تنفيذ غزو بري أو شن هجوم صاروخي أكبر حجماً.
ونتيجةً لذلك، لا يزال المراقبون عن كثبٍ للمحور منقسمين حول ما إذا كانت عقيدة توحيد الجبهات تجري كما هو متصور؛ لأن الحرب لا تزال في مرحلةٍ مبكرة من الصراع الأوسع المحتمل، أم أن الأعضاء الشيعة الأساسيين في المحور -وخاصةً إيران وحزب الله- يحاولون إظهار الدعم لحماس دون الانجرار إلى حرب شاملة. وتشير العديد من خطابات نصر الله إلى الاتجاه الأخير، كما هو حال الإشارات الصادرة عن إيران بأنها لا تسعى لتصعيد أكبر.
فيما يشير الإجماع الأكاديمي عامةً إلى أن المحور ربما يتمتع بمركزٍ وتنسيقٍ إيرانيين، لكن أعضاء المحور لا يتلقون الأوامر من إيران بالضرورة. حيث إن الجماعات البعيدة عن إيران جغرافياً وأيديولوجياً ومذهبياً، مثل حماس والحوثيين، تتمتع باستقلالٍ أكبر عن إيران. وعلى النقيض، سنجد أن بعض الميليشيات الشيعية الاثني عشرية، مثل حزب الله وميليشيات العراق الشيعية، مرتبطة مباشرةً بالدولة الإيرانية وبقيادتها -وذلك على أساس سياسي وعسكري ومذهبي أيضاً. لكن تلك الجماعات لديها مصالحها ومصادر تمويلها المحلية الخاصة أيضاً. إذ تبنّت المقاومة الإسلامية في العراق -حديثة التشكيل- المسؤولية عن الهجمات على القواعد الأمريكية، وهي جماعة تحالفية تتألف من ميليشيات شيعية أقدم على الأرجح، ما يزيد الغموض المحيط بمستوى تنسيقها مع طهران.
طهران ظهرت كداعم لفلسطين والغرب متواطئ بينما الحكومات العربية موقفها محرج
انتقد البعض في الشرق الأوسط ميليشيات المحور الإيراني بسبب توسيعها لرقعة الحرب، لكن استطلاعات الرأي والشبكات الاجتماعية العربية تظهران دعماً عربياً كبيراً لحماس وعقيدة مقاومتها المسلحة. وأظهرت استطلاعات الرأي نفسها تراجعاً كبيراً في دعم الولايات المتحدة والأنظمة المرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً، بما فيها الأنظمة التي طبّعت مع إسرائيل عام 2020.
وفي السعودية، تُظهر استطلاعات الرأي الآن أن الأغلبية العظمى من السكان (أكثر من 90%) يعارضون إقامة علاقات مع إسرائيل. وفي مؤشر الرأي العربي لشهر يناير/كانون الثاني، الذي يستطلع آراء سكان 16 دولة عربية، اتفق أكثر من ثلاثة أرباع المشاركين على أن نظرتهم للولايات المتحدة أصبحت أكثر سلبية منذ بدء الحرب.
وليس من الصعب فهم الكيفية التي تكونت بها هذه الانطباعات. إذ لم تقدم الحكومات العربية الموالية للغرب الكثير على صعيد جهود وقف الحرب، بينما استطاعت إيران وقوات محورها تقديم أنفسهم كقادة إقليميين وكداعمين رئيسيين للفلسطينيين بعد سنوات طغى فيها في المنطقة تأثير الخلافات بين السنة والشيعة على النظرة لطهران وحلفائها.
حرب غزة وحَّدت العالم الإسلامي أكثر من أي صراع آخر منذ عقود
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن الحرب في غزة حققت الوحدة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي وقللت الخلافات بين السنة والشيعة بقدر قد يكون أكبر من أي صراع آخر في العقود الأخيرة.
وفي أعقاب اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، أشارت إيران إلى أنها سترد بتعزيز جهودها لطرد القوات الأمريكية من المنطقة. ومن المفارقات أن التصرفات الأمريكية الحالية في حرب غزة قد تعجّل بتحقيق ذلك الهدف -ومن بينها الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل وخطواتها العسكرية والدبلوماسية التي تستهدف كسب المزيد من الوقت لتل أبيب-، خاصةً مع وجود دعم يتنامى على مستوى المنطقة لمقاومة الغرب وإسرائيل اليوم.
إذ حظي أعضاء المحور بنفوذٍ كبير في أرجاء الشرق الأوسط لمجرد أنهم دعموا حماس، ولمجرد استعدادهم لتصعيد المقاومة المسلحة.
ويعتقد أن الحوثيين تحديداً، سيستفيدون من هجماتهم البحرية لاستعادة شعبيتهم المتضائلة وتعزيز سمعتهم لدى الشعب اليمني والعربي، حسبما ورد في تقرير لمجلس الشرق الأوسط في الشؤون العالمية (Middle East Council on Global Affairs)، الذي يوجد مقره بالدوحة.
وقد يؤدي ذلك إلى تشديد قبضتهم على حكم اليمن.
بينما وقفت الحكومات العربية في دور المتفرج بدرجةٍ كبيرة، حسب وصف الصحيفة الأمريكية.
نفوذ إيران سيزيد في المنطقة ولا حل بدونها
وبغض النظر عما سيحدث لاحقاً، من المرجح أن تستمتع إيران مع حلفائها بنفوذ وسطوة أكبر. وبالنسبة للدول العربية الموالية للغرب، فسوف يتعين عليها محاولة تقليص الفجوة المتسعة بين سياساتها وبين مشاعر مواطنيها المتعاطفين مع الفلسطينيين.
وبعد سنوات من التجاهل، ستحتاج تلك الدول أن تضغط بشكلٍ عاجل من أجل حلٍّ عادل للقضية الفلسطينية، حتى لا تجد أنفسها في مواجهة موجة جديدة من الانتفاضات العربية.
من الصعب تصور قيام دولة فلسطينية، ونجاحها، دون أن تحظى بدعم جميع الفصائل الفلسطينية وكافة القوى الإقليمية الكبرى -بما فيها السعودية والدول العربية الأخرى، وكذلك تركيا وإيران وقوى المقاومة. ولو لم يحدث ذلك؛ فسوف تكون قائمة المفسدين بلا نهاية. ولا شك أن عقبات هذا النهج ستكون مهولة، وخاصةً بالنظر إلى موقف الحكومة الإسرائيلية المُعلن من هذه المسألة. لكن الشرق الأوسط لن يحقق السلام الدائم أو التعاون السياسي والاقتصادي الذي لطالما حلم به الكثيرون، وذلك في غياب حل عادل واسع النطاق للقضية الفلسطينية. أما البديل فسيكون دائرة عنف لا تنتهي، مع تراجعٍ للشرعية والهيمنة الغربية وخطرٍ يهدد بحربٍ أوسع نطاقاً، فضلاً عن تكامل المنطقة بطريقةٍ مختلفة تماماً لتصبح منطقة معاديةً للغرب نفسه في جوهرها.