لطالما عارض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنشاء دولة فلسطينية مستقلة مهما كان حجمها على الأرض، ولم يتوانَ الرجل اليميني المحاط بالجدل والانتقادات عن الاعتراض طيلة سنوات على إقامة دولة لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، بل وعمل على تقويض الحركة الوطنية الفلسطينية بترسيخ الانقسام بين حركة حماس في غزة والقيادة الضعيفة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وتحالف نتنياهو كذلك مع حركة الاستيطان اليهودية اليمينية المتطرفة التي جعلت منهجها قطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية في المستقبل، وتقويض أي فرصة لها في التمكين والحياة.
"لن نسمح أبداً بإقامة دولة فلسطينية"
تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية، إنه بينما تشن إسرائيل الآن حربها العقابية على سكان قطاع غزة، إذ بالنداءات الدولية تعود لحثِّ نتنياهو على المضيّ قدماً في مسار إحياء "حل الدولتين"، أي إقامة دولتين منفصلتين، واحدة للإسرائيليين والأخرى للفلسطينيين. ويشيع تبني هذا الحل في أوساط ما يُعرف بالمجتمع الدولي، ومنه الولايات المتحدة.
في غضون ذلك، أوضحت الحكومات العربية أنها لن تستثمر في إعادة إعمار غزة وتوطيد الاستقرار بها بعد الحرب -التي قتلت إسرائيل فيها حتى الآن أكثر من 25 ألف فلسطيني وسوَّت معظم مباني القطاع بالأرض- إلا إذا انخرطت إسرائيل في مسار سياسي ذي مغزى مع الفلسطينيين. ويؤيد البيت الأبيض كذلك، ولو بالكلام على الأقل، ما يصفه بـ"تطلعات الشعب الفلسطيني"، ويريد أن تدير السلطة الفلسطينية غزة بعد الحرب ضمن تسوية واسعة تُحيي إمكان حل الدولتين، وتعزز اندماج إسرائيل في جوارها العربي.
وقدم كبار مسؤولي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن هذه الخطة بعيداً عن العلن إلى نظرائهم الإسرائيليين والعرب. وأوردت التقارير أن بايدن تطرق في مكالمته الهاتفية مع نتنياهو، يوم الجمعة 19 يناير/كانون الثاني، إلى فكرة إقامة دولتين على أساس أن تكون إسرائيل "مضمونة الأمن" في هذا المسار.
غير أن تحقيق هذه الفكرة يعني مواجهة نتنياهو شكوكه طويلة الأمد بشأن الخطر الذي يشكله أي كيان فلسطيني مستقل على "إسرائيل". وحين سأل أحد الصحفيين الرئيسَ الأمريكي يوم الجمعة عما إذا كان حل الدولتين مستحيلاً في ظل حكم نتنياهو، أجاب بايدن: "لا، ليس كذلك".
إلا أن نتنياهو لم يتمهل إلا بضع ساعات في الرد على بايدن وسارع بمناقضة ونفي ما قاله الرئيس الأمريكي، فكتب على وسائل التواصل الاجتماعي يوم السبت 20 يناير/كانون الثاني: "لن أساوم على السيطرة الأمنية الإسرائيلية الشاملة على كامل المنطقة الواقعة غرب [نهر] الأردن، وهذا أمر يتعارض مع [إقامة] دولة فلسطينية"، وهكذا وأد نتنياهو تصريحات بايدن المستبشرة في مهدها.
ثم أصدر نتنياهو بياناً باللغة العبرية في اليوم التالي، أشار فيه إلى سجله الحافل في إحباط حل الدولتين. وقال: "إصراري هو الحاجز الذي منع -على مر السنين- إقامة الدولة الفلسطينية التي لو أقيمت لكانت خطراً وجودياً على إسرائيل". و"ما دمت أنا رئيساً للوزراء، فأنا عازم أشد العزم على منع ذلك".
كان نتنياهو قد صرح يوم الخميس 18 يناير/كانون الثاني، أي قبل التحدث مع بايدن، بأنه يعارض مساعي البيت الأبيض في هذا السياق. وقال في مؤتمر صحفي: "على مدى 30 عاماً، كانت تصريحاتي [في هذا الموضوع] متسقة للغاية، وما أقوله واضح تمام الوضوح"، وهو أن أي كيان فلسطيني ذي سيادة يمثل خطراً أمنياً غير مقبول على إسرائيل؛ لأن "هذا الصراع لا يدور حول عدم وجود دولة، أي دولة فلسطينية، بل حول وجود دولة، وهي دولة يهودية".
ولم يلبث أن أيَّد تصريحات نتنياهو على وسائل التواصل الاجتماعي طائفة من نواب الكنيست المنتمين إلى ائتلافه اليميني، ووافقوه جميعاً في رفضه لإقامة دولة فلسطينية، وتعلل بعضهم بالهجوم الذي نفذته حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وقال ميكي زوهار، وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي، في تغريدة على موقع إكس (تويتر سابقاً): "أقولها بوضوح لكل من لا يزال عالقاً في يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول: لن نسمح أبداً بإقامة دولة فلسطينية".
ما الذي يريد نتنياهو إقامته من النهر إلى البحر؟
من جهة أخرى، أثار شعار "من النهر إلى البحر" جدلاً في كل من إسرائيل والولايات المتحدة، فقد رفع المتظاهرون المؤيدون لفلسطين هذا الشعار، وقالوا إنه نداء مطالبةٍ بالحرية والحقوق للفلسطينيين الذين يعيشون بين نهر الأردن والبحر المتوسط. إلا أن كثيراً من الإسرائيليين يزعمون أن هذه المطالب تعني السعي إلى محو الدولة الإسرائيلية، وتحجَّجوا بأن حماس كانت تتداول هذا الشعار كذلك. وبناءً على ذلك، طالب بعض أعضاء مجلس النواب الأمريكي بتشريع ينسب هذا الشعار إلى "معاداة السامية".
ومع ذلك، فإن نتنياهو وحزبه الحاكم (الليكود) لديهما تصور راسخ عن الكيان الذي لا بديل عن وجوده بين النهر والبحر، فالبرنامج الأصلي لحزب الليكود يشدد على أنه "لا سيادة بين البحر المتوسط ونهر الأردن إلا السيادة الإسرائيلية". أما الواقع الذي ترسخ في ظل حكومات نتنياهو المتعاقبة، فهو واقع تفوق اليهود على غيرهم من الأجناس، وتوطيد السيطرة الإسرائيلية على أكبر عدد ممكن من السكان الفلسطينيين، وتكبيل معايشهم بالضرورات الأمنية الإسرائيلية.
في المقابل، بات كثير من المسؤولين الدوليين يرون أن هذا المسار في التعامل مع الفلسطينيين غير مقبول. وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هذا الأسبوع: "إن رفض حل الدولتين للإسرائيليين والفلسطينيين، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقه في إقامة دولة، أمر غير مقبول"، "فالشعب الفلسطيني لديه الحق في بناء دولته، ويجب أن يقر الجميع بهذا الحق".
وذكرت صحيفة The Financial Times البريطانية أن مسؤولين بالاتحاد الأوروبي تداولوا وثيقة قبيل اجتماع مقرر لوزراء خارجية الاتحاد يوم الاثنين 22 يناير/كانون الثاني، يدعو فيها دول الاتحاد إلى التفكير في الخطوات التي يجدر بالاتحاد اتخاذها إذا تمسكت حكومة نتنياهو برأيها في منع إقامة دولة فلسطينية. وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن "بروكسل اقترحت أن تحدد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي العواقب التي تتصور حدوثها سواء بالمشاركة أم عدم المشاركة في خطة السلام المقترحة".
"نتنياهو يراوغ الجميع حتى عودة ترامب"
يكافح نتنياهو للبقاء في سدة الحكم، بينما تتزايد الاحتجاجات المطالبة باستقالته. وينتقد كثير من الإسرائيليين سياساته التي بثَّت الانقسام بين الإسرائيليين قبل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وقد ساءهم قلة اكتراثه لعائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة.
قال نائب بارز في التيار المحافظ بالكنيست الإسرائيلي، لمراسل مجلة The New Yorker الأمريكية: "لطالما روّج [نتنياهو] نفسه سياسياً في صورة (رجل الأمن)، إلا أن هذه الصورة طُمست في السابع من أكتوبر/تشرين الأول"، ومن ثم فهو يقدم نفسه الآن في صورة "الرجل الذي يقف في وجه أمريكا التي تريد أن تفرض علينا دولة فلسطينية. إنه يراوغ، لأنه يحتاج إلى رواية جديدة عن نفسه بعد النكسة التي وقعت. وهو يحاول أن يروج للناس أن المؤسسة الأمنية هي التي أخفقت، وليس هو، بل هو الوحيد المؤهل لقتال المساعي المطالبة بإقامة دولة فلسطينية".
لطالما وصف نتنياهو بالخبث السياسي، وقد يرى الرجل أن سبيله للتشبث بالسلطة هو إبقاء الحرب مشتعلة في انتظار العودة المحتملة لصديقه، الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى منصبه، وتغيير النظام السياسي في واشنطن. وفي الوقت نفسه، يرى منتقدو إدارة بايدن من التيار اليساري أن البيت الأبيض متواطئ على الدمار الهائل الذي أنزلته إسرائيل بقطاع غزة، وأن الإدارة الحالية أضعف من الوقوف في وجه خطة نتنياهو اليمينية المتشددة.
كتب دانييل ليفي، مفاوض السلام الإسرائيلي السابق، في مقال بصحيفة The Washington Post الأمريكية: "على الولايات المتحدة أن تأخذ على محمل الجد الرفض القاطع لحكومة [نتنياهو] لإقامة دولة فلسطينية، وأن تنتبه إلى البنود الواردة في اتفاق الائتلاف الحكومي الإسرائيلي القائم، والتي تشدد على أن "للشعب اليهودي حقاً حصرياً وغير قابل للتغير في أراضي إسرائيل كافة"، و"ما يجدر بواشنطن فعله أن تتحدى إسرائيل وتقدم مبادرة تضمن المساواة وحق التصويت والحقوق المدنية الأخرى لجميع الناس الذين يعيشون تحت سيطرتها".