لأول مرة تهبّ إسرائيل للدفاع عن نفسها في محكمة العدل الدولية؛ حيث تُحاكَم بتهمة "الإبادة الجماعية" في غزة، فما الذي يخشاه الاحتلال، في ظل الدعم الأمريكي والغربي الذي يتمتع به؟
كانت جنوب أفريقيا، التي رفعت الدعوى أمام المحكمة التابعة للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، قد طلبت، الخميس 11 يناير/كانون الثاني، من هيئة المحكمة المكونة من 15 قاضياً، فرض إجراءات عاجلة تأمر إسرائيل بالوقف الفوري لحربها على القطاع، فيما يعرف باسم "الإجراءات الاحترازية العاجلة"، وهذا هو الشق العاجل في الدعوى.
واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، التي بنت جنوب أفريقيا الدعوى على أساسها، تعرف الإبادة الجماعية بأنها "أفعال مرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية".
وفي هذا السياق، منذ أن شنَّت إسرائيل حربها الجارية على غزة، اضطر كل سكان القطاع تقريباً، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، إلى النزوح عن منازلهم مرة واحدة على الأقل؛ ما تسبَّب في كارثة إنسانية تندد بها أغلب دول العالم وشعوبه.
قلق إسرائيل من دعوى جنوب أفريقيا
على الرغم من الدعم اللامحدود الذي تتمتع به إسرائيل من حلفائها بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الأمور تبدو مختلفة بشكل لافت هذه المرة. "يجب أن نقلق: إسرائيل تواجه الخطر أمام محكمة العدل الدولية في قضية الإبادة الجماعية بغزة"، تحت هذا العنوان، رصد تقرير شارح لصحيفة The Times of Israel التداعيات التي تنتظر دولة الاحتلال.
إذ تجد إسرائيل نفسها لأول مرة في تاريخها في قفص الاتهام أمام محكمة العدل الدولية تواجه تهمة الإبادة الجماعية، بحسب الصحيفة العبرية، التي أضافت في تقريرها أنه "على الرغم من أن فكرة أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في حربها على غزة، أي أنها تقتل المدنيين عن عمد، قد تبدو غريبة بالنسبة للبعض، فإن الادعاءات خطيرة جداً، وحتى في حالة صدور حكم مؤقت ضد إسرائيل ستكون لذلك تداعيات حادة على الوضع الدولي وسمعة إسرائيل، وربما تكون هناك أيضاً تداعيات دبلوماسية وسياسية."
المقصود بالحكم المؤقت الذي قد تصدره المحكمة، التابعة للأمم المتحدة، والتي تعرف أيضاً بأنها محكمة العالم، هو أن تقرر المحكمة الوقف الفوري لحرب إسرائيل على غزة، كما طلبت جنوب أفريقيا في دعواها، وهذا هو الشق العاجل. أما الشق الموضوعي فقد يستغرق سنوات، وهو الشق الخاص بالحكم في تهمة "الإبادة الجماعية" بحق الفلسطينيين في غزة.
إذ قالت جنوب أفريقيا، الخميس 11 يناير/كانون الثاني، إن الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي، الذي دمر مساحات واسعة من قطاع غزة وتسبب في استشهاد أكثر من 23 ألف فلسطيني، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء والمدنيين بشكل عام، يهدف إلى "القضاء على السكان" في القطاع.
كانت إسرائيل قد شنَّت منذ عملية "طوفان الأقصى" العسكرية، يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قصفاً جوياً وبحرياً على قطاع غزة، تبعه اجتياح بري، معلنةً عن هدفين رئيسيين هما: تدمير المقاومة، وتحرير الأسرى بالقوة العسكرية.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر ذلك اليوم، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني". ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنَّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وحتى الخميس، ارتقى أكثر من 23 ألف شهيد فلسطيني، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، إضافةً إلى إصابة عشرات الآلاف وتدمير كامل لغالبية مباني القطاع وبنيته التحتية المدنية، بخلاف الحصار المطبق وحرمان أكثر من 2.3 مليون فلسطيني فيه من أساسيات الحياة، فيما يصفه خبراء قانون دولي بأنه "عقاب جماعي" بحق سكان القطاع ترتكبه إسرائيل.
عزلة دبلوماسية وربما عقوبات أيضاً
تعتبر قرارات محكمة العدل الدولية نهائية ولا تقبل الاستئناف، لكن المحكمة التابعة للأمم المتحدة لا تملك وسائل لإنفاذ أحكامها. ومن المتوقع أن تصدر المحكمة حكماً بشأن إجراءات عاجلة محتملة هذا الشهر، لكنها لن تصدر حكماً في ذلك الوقت متعلقاً باتهامات الإبادة الجماعية إذ يمكن لتلك المسألة أن تستغرق سنوات.
لكن إسرائيل تخشى من التداعيات المترتبة على صدور قرار من المحكمة يطالبها بالوقف الفوري لحربها على غزة، أو إدانتها بتهمة الإبادة الجماعية لاحقاً. فالحكم قد تكون له عواقب مباشرة تتمثل في عزلة دبلوماسية وضرر كبير بسمعة إسرائيل، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من الضغوط السياسية، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
وبالإضافة إلى الإضرار بمكانة إسرائيل الدولية، قد يمثل أي قرار بالإدانة أرضية قانونية للبدء في ملاحقة مسؤولين في حكومة الاحتلال، أبرزهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت، وغيرهما من الوزراء، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، والأمن الداخلي إيتمار بن غفير، وغيرهم. إذ صدرت عنهم جميعاً تصريحات تظهر "النية لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية" بحق الفلسطينيين في غزة، كما تظهر مستندات الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا.
ومن التداعيات الأخرى التي تخشاها إسرائيل اكتساب الرأي العام الدولي المعارض لما تقوم به بحق الفلسطينيين، ومن ثم زيادة المقاطعة الدولية للاحتلال. وإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تواجه إسرائيل أيضاً مزيداً من قطع العلاقات الدبلوماسية معها وتحولها إلى دولة منبوذة على المسرح الدولي.
وفي هذا الإطار، كان معهد "ديمقراطية إسرائيل" قد نشر تقريراً جاء فيه أن "قضية جنوب أفريقيا تمثل تحدياً كبيراً لإسرائيل، وتتعامل معه تل أبيب بجدية، وتستثمر موارد قانونية ومالية كبيرة في القضية"، وأن "خسارة القضية يمكن أن تضع إسرائيل في موقف إشكالي للغاية على الساحة الدولية.. والمحكمة تتمتع بسلطة إصدار "تدابير (أوامر) مؤقتة" في الحالات العاجلة، وقد تكون هذه التدابير غامضة إلى حد ما".
أما صحيفة "إسرائيل هايوم" فقد حذرت من أنه على الرغم من أن إسرائيل قد لا تنصاع لأمر تصدره المحكمة بالوقف الفوري للحرب على غزة، إلا أن مثل هذا الأمر قد يدفع بعض الدول إلى "الاستشهاد به في مجلس الأمن في جهودها لفرض عقوبات عسكرية واقتصادية على إسرائيل".
وأشارت الصحيفة أيضاً إلى أنه من المحتمل أن تنظر دول ومنظمات مختلفة إلى أي قرار تصدره المحكمة ضد إسرائيل على أنه تأكيد على أن دولة الاحتلال ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، وقد تستخدمه كذريعة لقطع العلاقات السياسية والاقتصادية، واصفة المحاكمة بأنها "مثل كرة ثلج خطيرة".
ومن جانبها، حذرت صحيفة هآرتس من أن قراراً من المحكمة بوقف الحرب على غزة "من شأنه أن يُثبت أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية، مما يتسبب في عزلتها ومقاطعتها وفرض عقوبات عليها أو ضد الشركات الإسرائيلية"، مضيفة أنه "يمكن للإجراءات غير الرسمية في المحكمة أن تؤثر على الإجراءات في المحكمة الجنائية، فإذا تقرر في محكمة العدل أن إسرائيل ترتكب أعمالاً تشكل إبادة جماعية، فيمكن للمدعي العام في المحكمة الجنائية النظر في اتخاذ خطوات ضد كبار المسؤولين الإسرائيليين لتورطهم في هذه الأعمال".
هل حطمت جنوب أفريقيا دفاع إسرائيل؟
من جانبها، رفضت إسرائيل، الجمعة 12 يناير/كانون الثاني، الاتهامات التي وجهتها إليها جنوب أفريقيا ووصفتها بأنها "قصة مشوهة بشكل صارخ"، وطالبت المحكمة برفض إصدار أمر بوقف العملية العسكرية في غزة، زاعمة أن "مقدمة الطلب تسعى إلى تقويض حق إسرائيل الأصيل في الدفاع عن نفسها… وتركها عاجزة عن الدفاع عن نفسها"، بحسب رويترز.
إذ استندت مرافعات فريق الدفاع عن إسرائيل على "حق الدفاع عن النفس"، وهي الذريعة التي تتمسك بها إسرائيل وداعموها، وبخاصة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن.
لكن البروفيسور البريطاني، فوغان لو، أحد أفراد فريق جنوب أفريقيا، كان قد تعرض لهذه النقطة بالتفصيل، من وجهة النظر القانونية البحتة، وهو ما يحطم أساس دفاع إسرائيل عن نفسها، بحسب تقرير لصحيفة هآرتس.
"يجب هنا أن أتناول سؤال الدفاع عن النفس. في رأيها الاستشاري في قضية الجدار العازل، أقرت المحكمة (محكمة العدل الدولية) أن ما تقوله إسرائيل بشأن وجود تهديد يبرر بناء الجدار لم يكن نابعاً من دولة أجنبية، ولكنه (التهديد) نابع من أراض (الأراضي الفلسطينية المحتلة) تسيطر عليها إسرائيل. ولهذه الأسباب قررت المحكمة أن حق الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لا ينطبق على هذه الملابسات في ظل تلك الظروف"، بحسب ما قاله فوغان لو، أحد أعضاء فريق الادعاء.
"وقبل 20 يوماً أكد مجلس الأمن الدولي مرة أخرى أن قطاع غزة هو أرض محتلة. ورغم أن إسرائيل تشير إلى انسحابها الكامل من غزة، إلا أنها استمرت في السيطرة على القطاع من خلال حصاره براً وبحراً وجواً بشكل كامل، إضافة إلى التحكم في المهام الحكومية الرئيسية وإمدادات المياه والكهرباء. قد يكون مستوى السيطرة على القطاع قد تنوع من وقت لآخر، لكن لا أحد لديه شك في حقيقة استمرار حصار إسرائيل على القطاع. ومن ثمَّ، فإن موقف المحكمة القانوني من وضع غزة خلال الحكم الصادر عام 2004 يظل منطبقاً على أرض الواقع حتى اليوم"، أضاف فوغان لو.
"إذ إن المنطق نفسه ينطبق على قضية اليوم. إن ما تفعله إسرائيل في غزة هي إجراءات تتخذها بحق أرض تابعة لسيطرتها. إن أفعالها هي تأكيد لسلطة الاحتلال في القطاع. ومن ثمَّ فإن قانون الدفاع عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لا ينطبق على إسرائيل دولة الاحتلال".