لم يتفاجأ المتتبعون للسياسة الخارجية الجزائرية من محتوى وتوجه تقرير نشرته جريدة الخبر، المقربة من السلطات الجزائرية، عنونته بـ"الشر القادم من الإمارات.. إلى الجزائر ثم السودان".
التقرير الذي نُشر بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول 2023 لم يكُن الأول، الذي ينتقد فيه الإعلام الجزائري دولة الإمارات، فجريدة الخبر الجزائرية وحدها نشرت 6 تقارير في الأشهر الـ3 الأخيرة فقط.
بالمقابل تتهم صحف وقنوات تمولها الإمارات أن الجزائر تعتمد سياسة عدائية في منطقة شمال أفريقيا والساحل، وتتسبب في تقويض الأمن لدى دول الجوار.
ومما أكد وجود أزمة بين الإمارات والجزائر، التصريحات السياسية الجزائرية البارزة، لويزة حنون، زعيمة حزب العمال اليساري، التي هاجمت عقب لقاء لها مع الرئيس عبد المجيد تبون الإمارات.
وقالت لويزة حنون إن "الإمارات أعلنت الحرب على الجزائر خدمة للكيان الصهيوني، وتُغرق بلادنا بالمخدرات عبر ليبيا، وتحرّض على الحرب بين الجزائر والمغرب، وتريد عزلة الجزائر عبر دفع موريتانيا وتونس للتطبيع".
في هذا التقرير، تواصل "عربي بوست" مع مجموعة من المصادر الدبلوماسية والسياسية في الجزائر، وحاول الكشف عن أبرز الملفات التي تسببت في تعميق الأزمة بين بلد خليجي وآخر شمال أفريقي.
تخفيض التمثيل الدبلوماسي
كشفت مصادر دبلوماسية مطلعة تحدّثت لـ"عربي بوست" عن أن الأزمة بين الإمارات والجزائر وصلت حد تخفيض التمثيل الدبلوماسي بينهما في الفترة الأخيرة.
ورفض المصدر نفسه، لأسباب لا تُخول له الحديث للإعلام لحساسية منصبه، تفاصيل هذا التخفيض الدبلوماسي المؤكد بين الإمارات والجزائر.
وقال المصدر نفسه إن العلاقات الثنائية بين أبوظبي والجزائر مرشحة للتصعيد إلى حد القطيعة، وذلك بسبب ما تعتبره الجزائر "تطاولاً وعملاً ضد مصلحتها في مختلف المجالات وعديد المناطق".
وتعيش الإمارات والجزائر أزمة غير مسبوقة، تلت مجموعة من التراكمات بدأت منذ تراجع الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة عن الترشح للولاية الخامسة.
أزمة البريكس
مطلع أغسطس/آب 2023 كانت الجزائر تنتظر إعلان دخولها البريكس، وهو تكتل خرج إلى العلن عام 2006، وعقد أول اجتماعاته عام 2009، ويضم الصين والبرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا، ويعتبر نفسه بديلاً عن الهيمنة الاقتصادية الغربية.
لكن المفاجأة كانت في إعلان رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا موافقة مجموعة "بريكس" على انضمام 6 أعضاء جدد إليها، بينهم مصر والسعودية والإمارات، ليرتفع عدد أعضائها إلى 11.
لم تكُن الجزائر ضمن لائحة الأعضاء الجدد، الأمر الذي اعتبرته، حسب مصادر "عربي بوست" مؤامرة حيكت ضدها منعتها من دخول المجموعة الاقتصادية، رغم الدعم الروسي الذي حظيت به.
وقالت مصادر"عربي بوست" إن الجزائر متيقنة من أن الإمارات، التي دخلت البريكس مؤخراً، لعبت دوراً حاسماً في إفشال مساعيها لدخول تكتل البريكس، وذلك بالتنسيق مع الهند.
وأضافت المصادر نفسها أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، صرّح في لقاء إعلامي لم يُبَث أن الإمارات دفعت الهند للعب دور الفيتو ضد دخول الجزائر مجموعة البريكس الاقتصادية.
ويعتبر حُكام الجزائر، حسب المصدر نفسه، أن التواطؤ الهندي الإماراتي أفشل مساعي روسيا والصين اللتين حاولتا بكل الطرق إقحام الجزائر، لكنهما لم تنجح بسبب الفيتو الهندي.
وأضاف المصدر عينه أن عدم دخول الجزائر إلى بريكس كاد أن يتسبب في توتر العلاقات بين الجزائر وروسيا، التي كانت قد وعدتها بالتواجد في التوسع الاقتصادي، ولم تفِ بوعدها.
بداية الأزمة بين الإمارات والجزائر
كان كل شيء يسير على ما يُرام بين أبوظبي وحُكّام قصر المرادية في عهد الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة، فالعلاقات التي كانت تربط البلدين توصف بالعصر الذهبي في تاريخ العلاقات.
وكان يُطلق على اسم الإمارات في الجزائر لقب "المدللة" في فترة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، ما يدل على العلاقات المتميزة بين البلدين.
ومما يُؤكد متانة العلاقة بين حكام البلدين، الزيارات المتتالية التي قام بها قائد أركان الجيش الجزائري السابق، الفريق الراحل أحمد قايد صالح، والحاكم الفعلي للبلاد بعد استقالة بوتفليقة فترة الحراك الشعبي.
وزار أحمد قايد صالح الإمارات 3 مرات خلال أشهر قليلة، وهو ما أثار الجدل في الشارع الجزائري، باعتبار أن أبوظبي عُرفت بعرابة الثورات المضادة.
وحتى بعد إعلان تراجع بوتفليقة عن الترشح لولاية خامسة، كانت مكانة الإمارات محفوظة في الجزائر، لكن تصريح الرئيس عبد المجيد تبون في حوار متلفز غيذر كل شيء.
وسُئل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في حوار متلفز بتاريخ 20 سبتمبر/أيلول 2020، عقب توقيع اتفاقية أبراهام بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، ثم المغرب، عن رأيه في ذلك، فقال إنه "يرى هرولة نحو التطبيع ومحاولة لتصفية القضية الفلسطينية".
الرئيس الجزائري، من خلال التصريح نفسه، أكد أن الجزائر لن تشارك في الطريق نحو التطبيع، ولن تدعمه ولن تباركه، معتبراً القضية الفلسطينية قضية مركزية، واصفاً إياها بأم القضايا.
تصريحات الرئيس الجزائري أغضبت الإمارات، حسب ما أكدته مصادر مطلعة لـ"عربي بوست"، واعتبرتها تحدياً وتأليباً للرأي العام العربي ضدها، لا سيما وأنها كانت راعية اتفاقيات أبراهام عربياً.
رد الإمارات
بعدها بشهر فقط، جاء الرد من أبوظبي على تصريحات الرئيس الجزائري، إذ أعلم محمد بن زايد ملك المغرب محمد السادس بقرار فتح قنصلية في مدينة العيون بإقليم الصحراء المتنازَع عليه، لتكون بذلك أول دولة عربية تقدم على هذه الخطوة.
وكانت الإمارات تتجنب الخوض أو الانغماس في صراع الصحراء الغربية، والاكتفاء بالعبارات البروتوكولية الداعمة للوحدة الترابية للمغرب، وعدم الاعتراف بجبهة البوليساريو، شأنها في ذلك شأن الدول العربية الأخرى.
وكشف المصدر أن الجزائر عملت مرتين على ترميم العلاقات بينها وبين الإمارات، واحدة منها كانت عند سفر الوزير الأول السابق أيمن بن عبد الرحمان إلى أبوظبي للقاء الرئيس محمد بن زايد؛ لتقديم التعازي في وفاة شقيقه الراحل خليفة بن زايد.
وحسب المصادر نفسها، فإن مبادرة الجزائر الثانية كانت عبر رسالة خطية سُلّمت من سفير الجزائر لدى الإمارات إلى نائب الرئيس منصور بن زايد آل نهيان شهر أغسطس/آب 2023.
وحسب المصدر ذاته، فإن "المحاولتين الجزائريتين لم تؤتيا أكلهما، واصطدمتا بتعنت الإمارات وإصرارها على إلحاق الضرر بمصالح الجزائر في محيطها الإقليمي".
ليبيا والساحل..
ترى مصادر دبلوماسية رفيعة أنه من بين الملفات التي عمّقت الأزمة بين الإمارات والجزائر، اختلاف سياسة البلدين تجاه الملف الليبي، وأيضاً بؤر الصراع في الساحل الأفريقي.
وتعتقد الإمارات، حسب مصادر "عربي بوست"، أن "التحول الجزائري يهدد مصالحها في المنطقة العربية، وهو ما جعلها تنتهج نهجاً عدائية تجاهها في مختلف بؤر الصراع، لا سيما في الساحل الأفريقي وليبيا".
وفي الملف الليبي تدعم الإمارات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في الوقت الذي تُساند فيه الجزائر حكومة طرابلس، وسبق لها أن هددت بالتدخل العسكري قبيل محاصرة طرابلس من طرف خليفة حفتر.
مقابل ذلك كانت الإمارات قد عارضت تعيين وزير الخارجية الجزائري السابق صبري بوقادوم، مبعوثاً أممياً إلى ليبيا، باعتبارها كانت عضواً غير دائم في مجلس الأمن.
كما قالت مصادر مطلعة لـ"عربي بوست" إن توتر العلاقات الجزائرية بجارتيها مالي والنيجر كانت بسبب تحريض إماراتي، فضلاً عن وقوفها وراء تحرشات خليفة حفتر في ليبيا ضد الجزائر.
وكانت صحيفة الخبر المقرّبة من دوائر السلطة قد كشفت نقلاً عن مصادر أن المسؤولين الإماراتيين يريدون، بأي ثمن وبأي طريقة، فرض تواجد بلادهم في منطقة الساحل، حتى لو كان ذلك على حساب أمن الجزائر.
المصادر التي تحدثت مع "عربي بوست" أكدت أن العداء الإماراتي للجزائر، ليس سببه الأول تصريحات الرئيس الجزائري عن التطبيع، وإنما التحالفات التي اختارت الجزائر أن تسير فيها بعد 2019، وهي التوجه نحو الشرق، لا سيما مع تركيا وقطر والصين.
توقيف الاستثمارات
قُدرت الاستثمارات الاقتصادية الإماراتية في الجزائر خلال فترة بوتفليقة بمليارات الدولارات، حيث دخلت في شراكة كبيرة لتطوير الموانئ، وشراكة في مجال التبغ، وشراكة في الصناعات العسكرية، فضلاً عن الحصول على مشروع "دنيا بارك" (مشروع سكني وترفيهي كبير غربي العاصمة) بعقد امتياز لمدة 99 سنة.
أوقفت الجزائر استثمارات ضخمة للإمارات، ترجمة لسوء العلاقات بين البلدين، رغم ضخامة هذه الاستثمارات وأهميتها للطرفين، بالنظر إلى تركّزها في مجالات استراتيجية.
وكان أول ما أنهته الجزائر هو فض الشراكة مع موانئ دبي العالمية التي كانت تعمل على إدارة وتطوير موانئ جزائرية، لكنها لم تقدّم أي إضافة تُذكر، ثم أوقفت الشراكة العسكرية التي امتدت لسنوات.
وكان البلدان يصنعان عربة النمر المدرعة في المصانع العسكرية الجزائرية بالشراكة مع ألمانيا، وذلك بسبب قرار الجزائر التوجه للتصنيع منفردة، والشيء نفسه بالنسبة للإماراتيين، وفي السياق ذاته ألغت الجزائر مشروعها مع أبوظبي، الذي كان بصدد الدراسة يخص صناعة للمروحيات العسكرية، ويبدو أن إلغاء المشروع له صلة مباشرة بالأزمة السياسية بين البلدين.
أما الضربة الموجعة التي تلقتها الاستثمارات الإماراتية في الجزائر، فكانت فض الشراكة في مصانع التبغ التي تُعد من أهم الشركات العمومية الرابحة في الجزائر، وكانت تدر فوائد كبيرة على المستثمر.
وقامت الجزائر بتغيير القوانين والنصوص من أجل استعادة الشركة وطرد الإماراتيين منها.
وكانت زعيمة حزب العمال، لويزة حنون، قد هاجمت الاستثمارات الإماراتية، معتبرة إياها لم تجلب أي فائدة للجزائر، وإنما العكس لا سيما في مصانع التبغ.