بعد 85 يوماً من القصف الذي أسفر عن استشهاد ما يقرب من 22 ألف فلسطيني في قطاع غزة، 70% منهم أطفال ونساء، وتهجير نحو 1.9 مليون نازح، وتدمير أكثر من 60% من المساكن في القطاع، قدمت جنوب أفريقيا -وليس دولة عربية- طلباً إلى محكمة العدل الدولية لبدء إجراءات ضد إسرائيل؛ لقيامها بأعمال إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، حسبما أعلنت المحكمة الدولية، في 29 ديسمبر/كانون الأول 2023.
لكن اللافت بعد أيام من مهاجمتها لجنوب أفريقيا هو قرار إسرائيل، الذي وصفته يديعوت أحرونوت بـ"غير العادي"، بالمثول أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، للمطالبة برفض الدعوى المرفوعة ضدها من جنوب أفريقيا، الأمر الذي يتطلب التعليق الفوري لعملياتها العسكرية بغزة، بحسب ما قال مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي للصحيفة العبرية، الثلاثاء 2 يناير/كانون الثاني 2024.
فماذا قد يترتب على الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا على إسرائيل بمحكمة العدل الدولية، ولماذا قررت تل أبيب مواجهتها؟
ما أهمية الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا على إسرائيل بـ"العدل الدولية"؟
تعد محكمة العدل الدولية، ومقرها لاهاي بهولندا، الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، وتقوم بتسوية النزاعات بين الدول وإبداء الرأي الاستشاري في المسائل القانونية الدولية.
وبعد تقديم طلبها إلى محكمة العدل الدولية، قالت رئاسة جنوب أفريقيا في بيان لها إن البلاد ملزمة "بمنع حدوث الإبادة الجماعية للفلسطينيين". وأضافت الرئاسة أن "جنوب أفريقيا تشعر بقلق بالغ إزاء محنة المدنيين المحاصرين وسط الهجمات الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، بسبب الاستخدام العشوائي للقوة والتهجير القسري للسكان".
ويقول خبراء بالقانون الدولي إن الخطوة التي أقدمت عليها جنوب أفريقيا، والتي طال انتظارها، تعكس اعترافاً حاسماً بالدور الذي يلعبه المجتمع الدولي في حل الصراعات وحماية حقوق الإنسان، حيث يمكن أن يمثل قرار دعم الإجراء القانوني الذي اتخذته جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية خطوة مهمة نحو دعم القانون الدولي والعدالة، ومحاسبة إسرائيل على أفعالها.
ويقول المحامي البريطاني، الطيب علي، مدير المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين في لندن، بمقال له بموقع MEE البريطاني، إن الطلب الذي تقدمت به جنوب أفريقيا ليس مجرد اتهام؛ بل وثيقة شاملة مكونة من 84 صفحة ومتاحة للجمهور، وترتكز على تحليل واقعي وقانوني مفصل، يمكنه منع المزيد من الخسائر في الأرواح لدى الفلسطينيين من خلال إصدار محكمة العدل الدولية تدابير مؤقتة عاجلة لإسرائيل تكبح جماح حربها.
ويضيف علي أن اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية يشكل ادعاء خطيراً عليها، وهو ادعاء تتمتع محكمة العدل الدولية بمؤهلات فريدة لتقييمه دون أي تحيز سياسي. ومن الأهمية بمكان أن نفهم أن مُساءلة دولة ما أمام القانون الدولي، كما تسعى جنوب أفريقيا، لا يشكل عملاً من أعمال التشهير، بل سعياً لتحقيق العدالة.
حيث إن القرار الذي اتخذته المحكمة البريطانية في عام 2009 بإصدار مذكرة اعتقال بحق الوزيرة الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني، بتهمة ارتكاب جرائم حرب غزة حينها، شكَّل شهادة على ضرورة التدقيق القانوني فيما يتعلق بالحصانة السياسية للمسؤولين الإسرائيليين.
خاصةً أن التصريحات الأخيرة التي أطلقها الساسة الإسرائيليون المتطرفون، والتي يحمل بعضها تهديدات محتملة للإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، قد تدين إسرائيل بالفعل، ولا بد أن تخضع أيضاً للفحص القضائي من قبل محكمة العدل الدولية.
ما الذي يمكن أن تحققه الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا؟
الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية (ICJ) يمكن أن تكون النتائج المحتملة لهذه الدعوى إذا استمرت ذات أهمية، ولكنها تظل غير مؤكدة، لكن هناك بعض النتائج المحتملة لهذه الخطوة، تشمل التالي:
- من المرجح أن تحدث جلسة لطلب أمر مؤقت لحماية حقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة ومنع ومعاقبة جريمة الإبادة في الأيام أو الأسابيع القادمة، إذا تم منحه يمكن أن يصدر أمر مؤقت لوقف الحرب خلال أسابيع.
- إجابة نهائية حول ارتكاب جريمة الإبادة: يمكن أن تقدم القضية إجابة نهائية حول ما إذا كانت إسرائيل ترتكب جريمة الإبادة ضد الشعب الفلسطيني.
- عملية قانونية طويلة: إذا تقدمت القضية، فقد تستغرق سنوات للفصل فيها، في هذه الحالة، قد تأمر المحكمة إسرائيل باتخاذ تدابير معينة لوقف الجرائم، مثل وقف حملتها العسكرية في غزة، أو تقديم تعويضات للضحايا، والأخطر هو وصم إسرائيل للأبد بأنها دولة مدانة بارتكاب عمليات إبادة جماعية، ما قد يزيل غطاء الدعم الدولي عنها.
- تحقيقات موازية: يمكن أن تتطور التحقيقات فيما تقدم لمحكمة العدل الدولية، بالتوازي مع التحقيقات بالمحكمة الجنائية الدولية (ICC) التي تحقق بالفعل في إمكانية ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة والضفة الغربية.
- وبشكل عام، يمكن أن تؤدي الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في المحكمة الدولية للعدل إلى عواقب قانونية ودبلوماسية كبيرة على تل أبيب، ولكن النتائج الدقيقة تظل غير مؤكدة حتى يتم النظر في القضية واتخاذ قرار من قبل المحكمة.
إسرائيل وجدت نفسها مجبرة بالمثول أمام "العدل الدولية"
وكانت إسرائيل قد هاجمت جنوب أفريقيا، بعد رفع الأخيرة دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، تتهم فيها تل أبيب بارتكاب "جرائم إبادة جماعية" في قطاع غزة. حيث قالت وزارة الخارجية الإسرائيلية في بيان إن إسرائيل ترفض (باشمئزاز) ما وصفتها بـ"مؤامرة الدم التي قامت بها جنوب أفريقيا في طلبها المقدم إلى محكمة العدل الدولية".
وزعمت يوم السبت 30 ديسمبر/كانون الأول 2023، أن "حجة جنوب أفريقيا تفتقر إلى أساس واقعي وقانوني، وتشكل استغلالاً رخيصاً لمحكمة العدل الدولية". وادَّعت الخارجية الإسرائيلية أن جنوب أفريقيا "تتعاون مع منظمة إرهابية تدعو إلى تدمير دولة إسرائيل (في إشارة إلى حركة حماس)".
لكن تل أبيب عادت وقررت، الثلاثاء 2 يناير/كانون الثاني 2024، المثول أمام العدل الدولية، حيث قال مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي ليديعوت أحرونوت إن "الخطوة غير معتادة"، مضيفاً أن "دولة إسرائيل قررت المثول لأنها وقّعت على اتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية منذ عقود، ونحن بالتأكيد لا نقاطعها، سنقف وسنردّ الدعوى العبثية التي تشكل مؤامرة دموية"، حسب تعبيره.
وأضاف هنغبي: "لقد عانى الشعب اليهودي أكثر من أي أمة أخرى من الإبادة، لقد ذُبح ستة ملايين من شعبنا بقسوة لا نهاية لها، لقد استُخدمت قسوة مماثلة ضد مواطني إسرائيل في مجزرة 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أننا هذه المرة لدينا القدرة على الدفاع عن أنفسنا ضد أولئك الذين يسعون لتدميرنا". وأضاف أن "الادعاء الذي لا أساس له ضد حق الضحية في الدفاع عن نفسه هو وصمة عار، ونتوقع من جميع الدول المتحضرة أن تتعاطف معنا"، على حد وصفه.
إسرائيل تخشى من التبعات وتريد إحباط قرار وقف إطلاق نار محتمل من "العدل الدولية"
وتقول يديعوت أحرونوت قد تستمر جلسات الاستماع في الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل ما بين أربع وست سنوات، إلا أن الجهود الإسرائيلية تهدف الآن إلى إحباط أمر مؤقت من المحكمة قد يُجبر إسرائيل على التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة بشكل فوري.
وتضيف الصحيفة أن إسرائيل ستستخدم أيضاً أدوات الضغط الدبلوماسي لتعبئة الدول ضد جنوب أفريقيا وضد هذه الخطوة. مضيفة أن "لدى إسرائيل حججاً قانونية قوية لرفض ادعاء جنوب أفريقيا، أحدها هو الادعاء بأن إسرائيل لم ترتكب إبادة جماعية في غزة، وأنه حتى جنوب أفريقيا لم تقدم مثل هذا الادعاء في الماضي".
وتقول الصحيفة العبرية لم يتضح بعدُ من هو الممثل الإسرائيلي الذي سيمثل أمام المحكمة، سواء أكان دبلوماسياً أو محامياً أو حتى مسؤولاً إسرائيلياً آخر.
من جهتها٬ قالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية٬ إن حقوقيين إسرائيليين لفتوا إلى وجود مخاوف في تل أبيب من إدانتها بارتكاب إبادة جماعية في غزة، بعد تقديم جنوب إفريقيا شكوى ضدها٬ مضيفة أن المؤسسة الأمنية ومكتب المدّعي العام يعشرون بالقلق من أن محكمة العدل الدولية في لاهاي ستتهم إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.
وبحسب الصحيفة "حذّر خبير قانوني كبير (لم تذكر اسمه) في الأيام الأخيرة، ضبّاط الجيش الإسرائيلي، بمن فيهم رئيس الأركان هرتسي هاليفي، من وجود خطر حقيقي بأن تصدر المحكمة أمرا قضائيا يدعو إسرائيل لوقف إطلاق النار، مشيراً إلى أن إسرائيل ملتزمة بأحكام المحكمة".
ولفتت الصحيفة إلى أن الجيش ومكتب المدّعي العام بدأوا بالفعل الاستعداد للتعامل مع الشكوى، وسيتمّ عقد جلسات استماع حول الأمر بوزارة الخارجية الإسرائيلية. مضيفة أنه وفقاً لخبراء القانون الدولي، فإن هذا الإجراء قد يعزز مزاعم الإبادة الجماعية ضد إسرائيل، وبالتالي يؤدي إلى عزلتها الدبلوماسية ومقاطعتها أو فرض عقوبات عليها أو ضد الشركات الإسرائيلية.
إسرائيل تخسر صورتها وحرب العلاقات العامة
وفي حربها الجارية على غزة لم تتمكن إسرائيل من إحراز تقدم كبير فيما يتعلق بهدفها العسكري الأساسي؛ القضاء على حماس، وبينما تواجه إسرائيل انتكاسات عسكرية عديدة في غزة فإنها تكافح أيضاً لحشد الدعم العالمي لقصفها العشوائي للفلسطينيين، لكن يبدو أنها خسرت معركة العلاقات العامة وصورتها العالمية، التي تُوجت بالدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا ضدها.
ولا شك أن استطلاعات الرأي العامة في أوروبا الغربية تكشف لنا عن الكثير، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن 35% فقط من الألمان يؤيدون موقف حكومتهم المؤيد لإسرائيل، وأن الشعب في إسبانيا أكثر ميلاً إلى تأييد فلسطين من تأييد إسرائيل، وأن الأغلبية الساحقة من الأيرلنديين تُعارض العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة.
فالبريطانيون منقسمون فعلياً بشأن إسرائيل وفلسطين، وهو الواقع الذي يمثل ابتعاداً عن الدعم الشعبي البريطاني الساحق السابق لإسرائيل. وتحكي بيانات استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة قصة مماثلة. على سبيل المثال أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة هارفارد وهاريس مؤخراً، أن الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 24 عاماً منقسمون بالتساوي بين دعم حماس ودعم إسرائيل.
ولعل الأمر الأكثر دلالة هو أن حوالي 60% من الشباب الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً يشعرون بأن هجوم حماس على إسرائيل، في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان مبرَّراً، حيث يشعر ما يقرب من نصف أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عاماً و40% من الذين تتراوح أعمارهم بين 35 و44 عاماً بالشعور نفسه.
في النهاية، يبدو أن إسرائيل تدرك أنها تخسر أرضها في معركة الرأي العام وصورتها بين الدول. على المدى الطويل، هناك خطر حقيقي من أن تفقد إسرائيل كل ما تبقى لها من مكانة، وهو أمر يمكن أن يؤثر على الحقائق السياسية على الأرض، خاصةً إذا تمت محاكمتها في العدل الدولية.