يتعرض اليهود في ألمانيا، المناهضون للصهيونية، لتضييق غير مسبوق، سواء أكانوا منظمات أم أشخاصاً، فقد لحقتهم اعتقالات وطُردوا من وظائفهم، بمجرد تنديدهم بمجازر الاحتلال الصهيوني على غزة.
ولعل من أبرز المنظمات الحقوقية المدافعة عن السلام في أرض فلسطين التاريخية وعن حقوق الشعب الفلسطيني، منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام في الشرق الأوسط".
ولا تعطي هذه المنظمة اليهودية التقدمية المناهضة للصهيونية حلاً سياسياً للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، بل تناضل من أجل حقوق الشعبين، وخاصة حق الشعب الفلسطيني في أرض فلسطين التاريخية.
وتعرّض نشطاء هذه المنظمة للتضييق الممنهج في ألمانيا، وصاروا عرضة للاعتقال وفقدان وظائفهم واحداً تلو الآخر، كما صارت نشاطاتهم ومظاهراتهم تُلغى بقرارات الشرطة.
قصة اليهودية إيريس
ومن أمثلة هذا التضييق المفرط، وأكثره شهرة في الأسابيع الأخيرة، اعتقال واحدة من أبرز نشطاء المنظمة، اليهودية إيريس هيفيتس، من قبل شرطة برلين، بعد حملها لافتة وسط ساحة عمومية، كتب عليها "بصفتي يهودية وإسرائيلية.. أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة".
إيريس هيفيتس قالت في تصريحات لـ"عربي بوست": "على الرغم من أن إسرائيل تدعي أنها تتحدث نيابة عن اليهود، إلا أن معظم اليهود في هذا العالم لا يعيشون في إسرائيل".
وأضافت المتحدثة: "من الخطير جداً أن تُروّج إسرائيل لفكرة أنها دولة يهودية، وأن ما تفعله هو معتقد يهودي، إنها أفكار بروتستانتية، لذلك تلقى دعماً من الغرب وليس بمحض الصدفة".
وشددت المتحدثة على أن "هناك خطاب كراهية يراد له أن يسود في ألمانيا، ومحاولة لخلق كراهية بين اليهود والمسلمين، ووصم المسلمين بتهمة معاداة السامية".
وأشارت المتحدث في تصريحها لـ"عربي بوست" أن "ألمانيا تُروّج لفكرة قمع المسلمين من أجل إنقاذ اليهود، وأنا أرفض هذا الخطاب تماماً وأقول إن اليهود يعيشون في الدول العربية أفضل بكثير من الدول الأوروبية".
التضييق على المنظمة
التضييق على المنظمة ليس جديداً، فخلال عام 2019 احتج جوزيف شوستر، رئيس المجلس المركزي لليهود، على فوز المنظمة التي تنتمي لها إيريس بجائزة مدينة غوتنغن الألمانية للسلام.
واحتج شوستر على هذا التكريم، مرجعاً ذلك لدعمها حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس) "المعادية للسامية"، ما جعل العديد من مُمولي الحفل وبلدية المدينة ينسحبون من الحدث، لكن اللجنة لم تسحب الجائزة من المنظمة.
وقبل هذا الحدث بسنة، أغلق بنك ألماني حساب الجمعية للسبب نفسه، حسب نشطاء الجمعية، ما اعتبروه هجوماً على حقوق دستورية، وخرقاً سافراً وتضييقاً غير مشروع على حريتهم في ألمانيا.
كما لحق الطرد من العمل الشهر الماضي، واحداً من النشطاء اليهود في المنظمة، ويتعلق الأمر بأودي راز، الذي عمل لسنوات مرشداً للسياح داخل المتحف اليهودي في برلين، والسبب وصفه لإسرائيل بدولة الفصل العنصري أمام مجموعة من زوار المتحف.
وسبق للمنظمة اليهودية الألمانية، أن اتهمت رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد ووزير الدفاع بيني غانتس، بارتكاب جرائم حرب إبان العدوان الأخير على غزة في أغسطس/آب 2022.
حينها رفعت المنظمة دعاوى قضائية ضدهما على خلفية العدوان على غزة، وطالبت في بيان بمحاسبتهما عن معاناة الفلسطينيين، وشددت على وجوب محاسبة كل مجرمي الحرب بالطريقة نفسها، بمن فيهم الإسرائيليون.
حركة BDS المقاطعة لإسرائيل
ومن بين المنظمات التي تعرضت للقمع في ألمانيا حركة مقاطعة إسرائيل "بي دي إس" (BDS)، وهي منظمة تضم يهوداً ومسلمين صنفها البرلمان الألماني معادية للسامية، بقرار غير ملزم تم التصويت عليه سنة 2019.
وفي أعقاب هذا القرار، اضطر مدير المتحف اليهودي في برلين بيتر شيفر إلى الاستقالة من منصبه؛ إذ شُنت ضده حملة تشهير كبيرة ومستعرة، لأنه شارك عبر حسابه على تويتر، عريضة وقّعها 240 أكاديمياً يهودياً وإسرائيلياً، يعارضون فيها قرار المؤسسة التشريعية الألمانية ضد الحركة.
وسبق أن كتب عضو منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام في الشرق الأوسط، شير هيفر، أن النفوذ الإسرائيلي بلغ في ألمانيا حد تكميم أفواه كل صوت حتى لو كان يهودياً يدعم الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل "بي دي إس".
وقال هيفر في مقال سابق له نشر على موقع ميدل إيست آي البريطاني، إن اليهود في ألمانيا الجديدة، الذين لا يبدون تأييداً لإسرائيل، لا يتمتعون بحرية التعبير عن آرائهم.
ويُمنع هؤلاء اليهود، حسب المتحدث، من إلقاء خطابات عامة أو امتلاك متاحف تمثل ثقافتهم، أو حتى حسابات في البنوك، مشيراً إلى أن اليهود المؤيدين للرؤية الإسرائيلية هم فقط المقبولون في هذا المجتمع.
اتحاد يهود ألمانيا
من جهة أخرى وقّع أكثر من 100 شخصية يهودية شهيرة من كتّاب وفنانين وأكاديميين يهود، رسالة تدين ممارسات ألمانيا القمعية فيما يخص القضية الفلسطينية على إثر الحرب الأخيرة.
واعتبر الموقعون أنه "إذا كانت هذه محاولة للتكفير عن التاريخ الألماني، فإن تأثيرها هو المخاطرة بتكرارها"، كما أنها وجّهت الرسالة للحكومة الألمانية والحكومات الفيدرالية وعموم الرأي العام الألماني.
وأشارت الرسالة أيضاً إلى أن منع الرموز الفلسطينية، مثل العَلَم الفلسطيني والكوفية، خاصة في المدارس أو في الشارع العام، هي انتهاكات للحقوق المدنية.
كما ذكّرت بانصياع مؤسسات ثقافية ألمانية كثيرة لهذا التوجه عبر إلغاء عروض مسرحية وندوات فكرية لمجرد دفاع أحد المشاركين فيها عن حقوق الفلسطينيين، ما اعتبرته هذه الشخصيات تراجعاً كبيراً في حربة التعبير في البلاد.
قمع إعلامي لليهود
من جهتها كشفت الحقوقية اليهودية إيريس هيفيتس لـ"عربي بوست" أن اليهود المعارضين للخطاب الرسمي الألماني الداعم لإسرائيل "تتم مقاطعتهم وفرض عقوبات عليهم، ولا أحد يتحدث معنا أو يستضيفنا في الصحافة الألمانية".
وتضيف: "ما تبقى لنا هو وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي وجهة نظرنا تصل إلى الكثير من الناس وخاصة منهم الشباب، لكن إذا كنت تشاهد التلفزيون الألماني، فلن تعلم عن أمرنا أبداً".
وشدّدت إيريس، على أن "اليهود يتعرضون للقمع أكثر في ألمانيا، لكن ليس كل اليهود، بل يتم قمع اليهود المتضامنين مع الفلسطينيين فقط وليس من يبررون مجازر إسرائيل".
وشرحت إيريس في حديثها لـ"عربي بوست" أن هناك "محاولة لاستهداف الأشخاص الذين لديهم تأثير أكبر أولاً، مثل الصحفيين الذين يكون صوتهم مسموعاً ولهم تأثير أكبر".
لكنها أكدت أن هناك اليوم استهدافاً وقمعاً حتى لعموم الناس في الشارع وأي صوت مؤيد للفلسطينيين". وعلى اعتبار أن هذا القمع غير قانوني، تقول إيريس إنه "يمكننا دائماً اللجوء إلى المحكمة والفوز بدعاوى قضائية، لكن ذلك يأخذ وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً".
بديل الإعلام
اتّجه أغلب الكتاب والمشاهير اليهود في ألمانيا إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام الدولي غير الألماني للتعبير عن آرائهم، بعدما قُمعوا بمختلف الأشكال داخل الجمهورية الألمانية.
ومن ضمن هؤلاء، الكاتبة الألمانية الأمريكية، ديبورا فيلدمان، التي تعيش في برلين، والتي خلّفت جدلاً بسبب مقال نشرته بعنوان "ألمانيا مكان جيد لتكون يهودياً، إلا إذا كنت مثلي: يهودياً ينتقد إسرائيل"، على صحيفة الغارديان البريطانية.
وقالت في المقال: "مثل معظم اليهود العلمانيين في ألمانيا، اعتدت على العدوان الموجه نحونا من قبل حماة "اليهودية الرسمية" القوي المدعوم من الدولة هنا.
لقد تم إلغاء العروض المسرحية التي حظيت بحفاوة بالغة في نيويورك وتل أبيب، وتم إلغاء دعوات كتاب وشعراء، وتم سحب الجوائز أو تأجيلها، وتم الضغط على شركات الإعلام لاستبعاد أصواتنا".
وعن رأيها فيما إن كانت الحرب الحالية ستخمد نارها قريباً، ويعود السلام للمنطقة بعد الفظائع التي عاشها شعب غزة، ردت إيريس قائلة: "لا أعتقد أن إسرائيل تنحو نحو السلام من تلقاء نفسها إلا إذا أجبرتها قوة من المجتمع الدولي على القيام بذلك".
وأضافت: "لا أرى أي قوة قادرة على ذلك رغم محاولات مثل التي قامت بها الصين كقوة، كما أني لا أرى أن الدول العربية ستمارس ضغطاً، في ظل القبضة القوية للولايات المتحدة، وبالتالي دون ضغط دولي على إسرائيل، فلا أرى أي هدنة أو سلام سيتحقق".