من كاليدونيا الجديدة إلى مايوت المسلمة.. كيف تنامى العداء ضد فرنسا بـ”مستعمراتها” ما وراء البحار؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/05/20 الساعة 10:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/05/20 الساعة 10:21 بتوقيت غرينتش
مواجهات بين مواطنين وعناصر الشرطة في كاليدونيا الجديدة/ رويترز

رغم مرور أسبوع على اندلاع أحداث الشغب والفوضى في جزيرة كاليدونيا الجديدة الفرنسية التي تبعد عن باريس بأكثر من 16 ألف كيلومتر في الجنوب الغربي للمحيط الهادئ، لا تزال السلطات تجد صعوبة في إعادة الحياة إلى طبيعتها ووضع حد للأحداث الدامية بالجزيرة.

الأحداث الدامية في كاليدونيا الجديدة الفرنسية تُسلط الضوء على واحدة من المناطق التي لا زالت مستعمرة حتى 2024، لكنها ليست الوحيدة، إذ إن مقولة "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" يمكن أن تنطبق على فرنسا التي لا زالت تملك مستعمرات في أفريقيا وآسيا والأمريكتين.

ويتعلق الأمر بخمس مناطق حول العالم يُطلق عليها "أقاليم فرنسا ما وراء البحار"، وهي غواديلوب والمارتينيك في البحر الكاريبي، وغويانا الفرنسية في أمريكا الجنوبية، وريونيون و مايوت في المحيط الهندي، إضافة إلى مناطق أخرى في المحيط الأطلسي.

ويبلغ سكان هذه المناطق التابعة لحكم فرنسا نحو 3 ملايين نسمة، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من فرنسا والاتحاد الأوروبي. لكن هل فعلاً تتمتع بنفس امتيازات وأوضاع "فرنسا الأم"؟

أزمة كاليدونيا الجديدة الفرنسية

يوم الأربعاء 15 مايو/أيار 2024، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فرض حال الطوارئ في كاليدونيا الجديدة الفرنسية، الإقليم التابع لفرنسا في المحيط الهادئ الذي يشهد أعمال شغب عنيفة لا زالت مستمرة حتى الإثنين 20 مايو/أيار، وخلفت عدداً من القتلى.

واندلعت أعمال عنف دامية في كاليدونيا الجديدة الفرنسية بعد أن وافق المشرعون في باريس على تعديل دستوري يسمح للوافدين الجدد من المولودين في كاليدونيا والمقيمين فيها منذ ما لا يقل عن 10 سنوات بالتصويت في الانتخابات الإقليمية.

حيث اندلع العنف بعدما تصاعدت المعارضة ضد هذا الإصلاح الدستوري، ويرى المنادون بالاستقلال أن ذلك سيجعل شعب كاناك الأصلي الذي يشكل 40% من السكان، أقلية بشكل أكبر، وأشارت تقارير إلى أن أعمال العنف هذه هي الأخطر منذ ثمانينات القرن الماضي.

وكانت رئيسة بلدية نوميا، عاصمة الإقليم، سونيا لاغارد، قالت لقناة "بي إف إم تي في" الفرنسية السبت 18 مايو/أيار، إن "الوضع لا يتحسن، بل على العكس تماماً، على الرغم من كل الدعوات إلى التهدئة". وتابعت: "هل يمكننا أن نقول إننا في مدينة محاصرة؟ نعم، أعتقد أننا نستطيع أن نقول ذلك".

احتجاجات في كاليدونيا الجديدة الفرنسية/ رويترز
احتجاجات في كاليدونيا الجديدة الفرنسية/ رويترز

وفرضت السلطات حال الطوارئ، بما يشمل حظر التجول بين السادسة مساءً والسادسة صباحاً، ومنع التجمعات وحمل الأسلحة وبيع المشروبات الكحولية، إضافة إلى حظر تطبيق "تيك توك". وفي مؤشر إلى الخشية من أن يطول أمد الاضطرابات، ألغت باريس مرور الشعلة الأولمبية عبر كاليدونيا الجديدة والذي كان مقرراً في 11 حزيران/يونيو.

وصباح الأحد 19 مايو/أيار، أعلنت سلطات المحافظة الجنوبية التي يقيم فيها قرابة ثلثي عدد سكان الأرخبيل، أن كل المدارس ستبقى مقفلة طوال الأسبوع المقبل. وتأمل السلطات الفرنسية بأن تؤدي حال الطوارئ السارية منذ الخميس إلى الحد من أعمال العنف التي بدأت الإثنين في كاليدونيا الجديدة الفرنسية.

ومن دون ذكر صلة مباشرة بأعمال العنف، اتهم وزير الداخلية الفرنسي الخميس أذربيجان بالتدخل في الأرخبيل، وهو ما نفته باكو بشدة. ومن جهته رأى السيناتور الفرنسي كلود مالوريه أنه "إذا كانت هناك تدخلات غير مرئية بشكل أكبر ويجب الخوف منها، فهي تدخلات الصين".

كما أوضح مالوريه في مقابلة مع وكالة "فرانس برس" أن "الصين تريد أن تكون في ساحتها الخلفية في بحر الصين ولكن أيضاً مهيمنة في المحيط الهادئ: فهي تحتاج إلى النيكل لإنتاج بطارياتها"، في إشارة إلى المادة الذي يحتوي الأرخبيل على 20 إلى 30% من مخزونها عالمياً.

فيما بدأت الدولة الفرنسية الأحد "عملية كبيرة" في كاليدونيا الجديدة الفرنسية بمشاركة المئات من عناصر الدرك، لتأمين طريق رئيسي يربط بين نوميا ومطارها الدولي، بعد ستة ليال من أعمال شغب قتل خلالها ستة أشخاص.

تهميش وتمييز للسكان الأصليين

الأحداث الدامية الأخيرة لم يكن سببها فقط التعديل الدستوري الذي أغضب دعاة الاستقلال، إذ أوضحت صحيفة "Le Monde" الفرنسية أن ما وقع هو تراكم لسنوات من الجمود في ملف استقلال كاليدونيا الجديدة عن الحكم الفرنسي، والتي أدت إلى هذا "الحريق".

بعد الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر، أصبحت كاليدونيا الجديدة الفرنسية رسمياً إقليماً فرنسياً وراء البحار عام 1946. وبدءاً من سبعينيات القرن الماضي، تصاعدت التوترات في الجزيرة مع صراعات مختلفة بين حركات استقلال باريس وشعب الكاناك.

وساعد اتفاق "نوميا" عام 1998 على إنهاء الصراع من خلال تحديد مسار للحكم الذاتي التدريجي وقصر التصويت على الكاناك والمهاجرين الذين يعيشون في كاليدونيا الجديدة قبل عام 1998، وسمح الاتفاق بإجراء 3 استفتاءات لتحديد مستقبل البلاد.

فقد نظمت الجزيرة استفتاء في عام 2018 و2020 صوتت فيه الأغلبية على البقاء تحت الحكم الفرنسي، وهو الأمر نفسه الي آلت إليه نتيجة استفتاء ثالث نظم في عام 2022، لكن بنسبة مقاطعة تجاوزت 56%، وفق ما ذكرته صحيفة "Le Monde".

لكن حقيقة أن أعمال العنف الحالية فريدة من نوعها في نوميا الكبرى، فإنها قد لا تكون غريبة في ظل اللامساواة التي باتت أكثر وضوحاً.

يقول الأنثروبولوجي الفرنسي في المركز الوطني للبحث العلمي، بينوا تريبييه: "اليوم 50% من السكان هم الكاناك. نوميا هي مكان تتبلور فيه حالات عدم المساواة والتمييز، والتهميش الاجتماعي الحضري برز في السنوات الأخيرة".

وأشارت صحيفة "Le Monde" إلى أنه على الرغم من وجود بعض مناطق الاختلاط الاجتماعي، فإن العاصمة تنقسم إلى قسمين: الأحياء الأكثر شعبية في الشمال والأكثر رقياً في الجنوب، وهو ما يشكّل سبباً آخر لاندلاع الاحتجاجات بالإقليم.

جرائم نووية فرنسية في تاهيتي

كاليدونيا الجديدة الفرنسية ليست سوى حلقة جديدة من سلسلة من الاحتجاجات شهدتها "المستعمرات الفرنسية" خلال السنوات الأخيرة، بسبب الأوضاع الاقتصادية من جهة وفي مناسبات أخرى للمطالبة بالاستقلال عن باريس.

في تاهيتي أكبر جزر بولينيسيا الفرنسية أحد الأقاليم الفرنسية المتواجدة في المحيط الهادئ، خرج الآلاف عام 2021  في مظاهرات في مدينة بابيتي وطالبوا بأن تعترف سلطات فرنسا بـ"خطئها" لإجراء تجارب نووية في الأرخبيل.

وتزامنت تلك الاحتجاجات مع زيارة الرئيس الفرنسية إلى المنطقة، بينما استبعدت باريس فرضية طلب العفو من فرنسا التي يتوقعها الانفصاليون والجمعيات المناهضة للطاقة النووية والكنيسة البروتستانتية الماوية.

أقاليم فرنسا ما وراء البحار/ ويكيبيديا
أقاليم فرنسا ما وراء البحار/ ويكيبيديا

وبحسب "tv5monde"، أجرت فرنسا تجارب نووية في جزر موروروا وفانغاتوفا المرجانية، في البداية في الغلاف الجوي ثم تحت الأرض، في حين تعهدت باريس مؤخراً بتسهيل الوصول إلى الأرشيف وتعويض ضحايا التجارب بشكل أفضل.

وتعتبر تاهيتي أكبر جزر بولينيسيا الفرنسية الذي يبلغ تعداد سكانها 362860 نسمة وتُقدَّر مساحتها بـ4167 كم مربعاً، والإقليم هو عبارة عن عددٍ كبيرٍ من الجزر الصغيرة التي تتناثر في جنوب المحيط الهادي، ويبلغ عددها نحو 130 جزيرة.

وفي مايو/أيار 2023، أعلن وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانين، أن الأحزاب المؤيدة للاستقلال بقيادة الرئيس البولينيزي الفرنسي السابق أوسكار تيمارو فازت بالجولة الثانية من الانتخابات الإقليمية.

ووفقاً للنتائج الأولية، حصل المستقلون على الأغلبية المطلقة بـ 38 مقعداً من أصل 57 في الجمعية الإقليمية، وهذا الانتصار يضعهم في موقف قوي للتفاوض بشأن عملية إنهاء الاستعمار وإجراء استفتاء على الاستقلال مع الحكومة الفرنسية.

جزيرة واحدة تحت حكم بلدين

"جزيرة واحدة وبلدان"، بهذه العبارة وصف موقع فرنسي رسمي متخصص في السياحة جزيرة سان مارتين، وهي واحدة من الجزر الفرنسية التي تخضع للحكم الفرنسي ما بين المحيط الأطلسي والبحر الكاريبي.

ويواصل الموقع في وصفه للجزيرة بأنها نصف فرنسية ونصف هولندية، لكن هذه الجزيرة الصغيرة هي في الواقع أكثر من ذلك بكثير: "إنها بوتقة ثقافية حقيقية!".

جزيرة سان مارتين بعد إعصار 2017/ رويترز
جزيرة سان مارتين بعد إعصار 2017/ رويترز

من خلال هذا الوصف يبدو الوضع مثالياً في هذه المنطقة التي تخضع للحكم الفرنسي منذ القرن السابع عشر، لكن في الواقع، فإن نصف الجزيرة الشمالي التابع لفرنسا والاتحاد الأوروبي يعيش منذ سنوات أزمة اقتصادية خانقة، خاصة بعد إعصار 2017 الذي دمر جزءاً كبيراً من الجزيرة.

وإذا كان الجزء الجنوبي من الجزيرة تمكن من الحصول على الاستقلال عن هولندا عام 2010 وبات يتمتع بالحكم الذاتي، فإن الجزء الشمالي التابع لفرنسا لا يزال يخضع كلياً لحكم باريس، رغم وجود دعوات بتحقيق وحدة بين الشطرين وإعلان دولة واحدة مستقلة.

"أرض مسلمة" في الاتحاد الأوروبي

وعلى بُعد آلاف الكيلومترات من فرنسا في أقصى جنوب القارة الأفريقية على جانب المحيط الهندي، هناك أرض فرنسية تُعتبر جزءاً من الاتحاد الأوروبي وهي ذات أغلبية مسلمة، حسب ما جاء في تقرير لوكالة "الأناضول" التركية.

ويتعلق الأمر بجزيرة مايوت، إحدى جزر أرخبيل جزر القمر، والتي تقع تحت الاحتلال الفرنسي منذ عام 1841، ويحمل سكانها الجنسية الفرنسية، ما جعلها عامل جذب لسكان الجزر المجاورة الذين يحاولون عبور البحر إليها وهو ما يتسبب في مقتل الآلاف، حتى إن البعض بات يطلق على قناة موزمبيق التي تقع فيها الجزيرة "قناة الموت".

ووفقاً لتقرير نشره مركز البحوث الإنسانية والاجتماعية في تركيا، فإن مايوت لم تحصل على استقلالها رغم قرار الأمم المتحدة بهذا الخصوص.

وبالنظر إلى تاريخ الاحتلال الفرنسي للجزيرة، يقول التقرير إن فرنسا احتلت جزر القمر في القرن التاسع عشر، وفي 1961 منحت الجزر حرية التصرف في المسائل الداخلية.

وفي 1964 طالبت الجزر بالاستقلال التام، وبعد كفاح طويل ضد الاحتلال أجبرت فرنسا على إجراء استفتاء حول الاستقلال في جزر القمر عام 1974.

صوّت 95% من سكان جزر القمر الكبرى، وأنجوان، وموهيلي، ومايوت، لصالح الاستقلال، وبعد خمسة أشهر اعترفت الأمم المتحدة باستقلال جزر القمر، إلا أن فرنسا أعادت الاستفتاء عام 1976، وهذه المرة صوَّت 65% من سكان جزيرة مايوت لصالح البقاء تحت الإدارة الفرنسية، في حين صوَّت 95% من سكان الجزر الأخرى لصالح الاستقلال.

وفي الأول من يناير/كانون الثاني 1976، أعلنت فرنسا قبولها استقلال جزر القمر ما عدا جزيرة مايوت، ولم تعترف الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي بسيطرة فرنسا على الجزيرة.

ونتيجة لاستفتاء أجري في جزيرة مايوت عام 2011، أصبحت الجزيرة، التي يسكنها حوالي 200 ألف شخص، القسم الفرنسي رقم 101، وفي 2014، حظيت باعتراف الاتحاد الأوروبي، غير أنها لم تحظَ باعتراف كلّ من جزر القمر، والاتحاد الأفريقي، إضافة إلى الأمم المتحدة.

<strong>الأناضول</strong>
الأناضول

وأشار تقرير مركز البحوث الإنسانية والاجتماعية إلى الأسباب الاقتصادية والجيوسياسية التي تجعل فرنسا تتمسك بجزيرة مايوت، من بينها الثروة النفطية للجزيرة، وأيضا تعتبر مايوت من أهم مصادر زهرة "الأيلنغ"، التي تستخدم في صناعة العطور ومستحضرات التجميل.

وفي عام 1995، فرضت فرنسا تأشيرة دخول لمايوت على مواطني جزر القمر، ما أدى إلى بدء ظاهرة الهجرة غير الشرعية، والتي يحاول خلالها سكان الجزر الأخرى قطع الكيلومترات الـ 70 التي تفصل بينهم وبين مايوت، في قوارب صيد صغيرة، خاصة النساء الحوامل اللواتي يحاولن الوصول إلى مايوت لوضع أطفالهن هناك، حيث يحصل المواليد هناك على الجنسية الفرنسية.

وتسببت هذه الظاهرة في مقتل آلاف الأشخاص في البحر، وذكر تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي أن ما بين 7 آلاف إلى 10 آلاف شخص قضوا بين 1995 و2012، في حين يقول ناشطون إن الرقم قد يكون أكبر من ذلك بكثير.

ويخلص تقرير مركز البحوث ذاته إلى أن فرنسا تتصرف بشكل يتعارض مع حق تقرير المصير، ويخرب وحدة أراضي جزر القمر، حيث إنها فصلت جزيرة مايوت عن جزر القمر، وتتعامل معها باعتبارها مستعمرة لها.

تحميل المزيد