“خزنة اليمن المغلقة”.. ما الأهمية الاستراتيجية لمحافظة حضرموت اليمنية؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/12/31 الساعة 13:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/12/31 الساعة 13:53 بتوقيت غرينتش
ما الأهمية الاستراتيجية لمحافظة حضرموت اليمنية؟ (عربي بوست)

لم يكن التصعيد العسكري والسياسي الذي تشهده محافظة حضرموت في الأيام الأخيرة من ديسمبر 2025 مجرد حدث عابر في يوميات الحرب اليمنية الطويلة، بل هو لحظة "الانفجار المؤجل" التي طالما حذر منها المراقبون للشأن اليمني. فما يجري اليوم من مواجهات وتحشيد متبادل بين قوات "المجلس الانتقالي الجنوبي" المدعوم من الإمارات، وحلف قبائل حضرموت المدعوم من الحكومة الشرعية والسعودية، يمثل ذروة الصراع على "الجائزة الكبرى" في الجغرافيا اليمنية. 

وبينما يحاول المجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي فرض أمر واقع عسكري تمهيداً لإعلان سيطرته الكاملة على محافظات الجنوب وبالتالي تقسيم اليمن، يقف "حلف قبائل حضرموت" ومعه "مجلس حضرموت الوطني" كحائط صد صلب، مدعومين برغبة إقليمية (سعودية تحديداً) في منع احتكار طرف واحد للمشهد الجنوبي بدعم إماراتي. فما أهمية محافظة حضرموت الاستراتيجية ولماذا تتنافس عليها هذه الأطراف؟

بوابة اليمن الشرقية.. ما الأهمية الاستراتيجية لمحافظة حضرموت اليمنية؟

لا يمكن قراءة واقع ومستقبل اليمن من دون فهم الأهمية الاستراتيجية لمحافظة حضرموت التي تتجاوز مساحتها ثلث مساحة الجمهورية اليمنية؛ والتي تمثل مَعْبراً إلى بحر العرب، مستودعاً طبيعياً لثروات النفط والغاز، وقاعدة إنسانية وثقافية عند تقاطع النفوذ المحلي والإقليمي.

تمثل محافظة حضرموت حوالي ثلث مساحة اليمن (عربي بوست)
تمثل محافظة حضرموت حوالي ثلث مساحة اليمن (عربي بوست)

1. العمق الاستراتيجي والمساحة الشاسعة

تقع محافظة حضرموت على الساحل الجنوبي الشرقي لليمن، وتطل على بحر العرب والمحيط الهندي. هذا الموقع يجعلها حلقة وصل بين الخليج العربي وشرق أفريقيا عبر خطوط الملاحة البحرية. كما أنها تمتد على مساحة شاسعة تشكل حوالي ثلث مساحة اليمن بأكملها، ما يمنحها ثقلًا جغرافياً يفوق كثيراً من المحافظات الأخرى. 

يقدر عدد سكان محافظة حضرموت 1,028,556 نسمة،  وتوجد مجتمعات مهاجرة في شرق آسيا، ودول مجلس التعاون الخليجي وجنوب شرق آسيا. كما يعتبر ميناء المكلا من أهم موانئ الجمهورية ومطار المكلا هو ثالث أكبر مطارات البلاد.

وتمتد حضرموت على مساحة تقدر بنحو 190 ألف كيلومتر مربع، وتشترك في شريط حدودي طويل وشديد الحساسية مع المملكة العربية السعودية من جهة الشمال (منفذ الوديعة الاستراتيجي). هذا الجوار الجغرافي يجعل من حضرموت "الحديقة الخلفية" للأمن القومي السعودي. لذلك تنظر الرياض إلى أن أي اضطراب في حضرموت كتهديد مباشر لحدودها الجنوبية، مما يفسر حزمها في منع أي فصيل مسلح غير خاضع لسيطرتها (مثل قوات الانتقالي) من الانفراد بحكم الوادي والصحراء.

2. النافذة الأكبر على بحر العرب

تمتلك حضرموت شريطاً ساحلياً يمتد لأكثر من 360 كم يطل على بحر العرب. هذا الموقع يمنحها ميزة استراتيجية بعيداً عن مضيق باب المندب المزدحم والمضطرب. 

الخط الملاحي الذي يمر بجانب حضرموت مهم لأنه جزء من مسار الشحن الدولي بين آسيا وأوروبا وأمريكا، وربما أهميته تتضاعف مع استهداف خطوط التجارة والطاقة. اليمن ككل يطل بشكل استراتيجي على مضيق باب المندب، الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن، لكن حضرموت بالذات تطل على البحر العربي مباشرة.

كما أن وجود ميناء المكلا على ساحل المحافظة يعزز الدور البحري والتجاري للحضارم، ويجعلها نقطة جذب للمشاركة في الحركة التجارية مع الخليج وآسيا وأفريقيا. 

وبحسب تقرير لصحيفة "فاينانشيال تايمز"، فإن القوى الدولية والإقليمية ترى في موانئ حضرموت (المكلا، الشحر، الضبة) بدائل حيوية لتصدير الطاقة والتجارة في حال إغلاق المضائق. ولا شك أن السيطرة على هذا الساحل تعني السيطرة على شريان حياة يربط المحيط الهندي بقلب الجزيرة العربية.

3. التنوع الجغرافي: الساحل والوادي

تزخر منطقة الساحل والوادي في حضرموت، من الناحية الزراعية، بأراضٍ خصبة تُنتج القمح والشعير والتمور والحمضيات، مما يدعم الإنتاج الغذائي المحلي. كما تتمتع المحافظة بقطاع صيد نشط بفضل موقعها على بحر العرب، موفرةً بذلك سبل العيش للسكان وقاعدةً للشركات الموجهة للتصدير. 

وتُعد المكلا المدينة الرئيسية في المنطقة الساحلية، بينما تُعتبر سيئون وتريم المدينتين الرئيسيتين في الوادي. ويضم ساحل المحافظة أيضاً العديد من الموانئ الهامة، حيث يُعد ميناء الشهر أحد أهم ثلاثة موانئ لتحميل النفط الخام. وقد سهّل موقع حضرموت بين المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان، وإطلالتها على بحر العرب والمحيط الهندي، التجارة والتبادل الثقافي على مدى عقود في شبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وغيرها من المناطق. 

وتتميز حضرموت بطبيعة جغرافية عسكرية منقسمة كالتالي:

  • الساحل (المكلا): يقع تقليدياً تحت نفوذ قوات "النخبة الحضرمية" المدعومة إماراتياً والموالية للمجلس الانتقالي.
  • الوادي والصحراء (سيئون): يقع تحت نفوذ "المنطقة العسكرية الأولى" و"حلف قبائل حضرموت"، وهما محسوبان على الحكومة الشرعية والتوجه السعودي. وهذا الانقسام الجغرافي هو المسرح الحقيقي للعمليات الحالية، حيث يحاول "الساحل" ابتلاع "الوادي".

ما الأهمية التجارية والاقتصادية لحضرموت؟

قد تكون الأهمية الاقتصادية لحضرموت أحد أهم أسباب الصراع حولها. فهي من أغنى مناطق اليمن من حيث الموارد الطبيعية، وتحتضن حقولاً كبيرة من النفط والغاز الطبيعي. تقدّر بعض المصادر أن حضرموت كانت مسؤولة عن أكثر من نصف إنتاج النفط اليمني قبل الحرب، ما يجعلها مركزاً رئيسياً للدخل الوطني.

ولامتلاكها ما يُقدّر بنحو 80% من احتياطيات النفط اليمنية، يصف البعض حضرموت بأنها "خزنة اليمن المغلقة"، فوجود حقول تنتج النفط الخام وغازاً طبيعياً يجعل حضرموت مصدر دخل اقتصادي مهم لأي سلطة تحكمها، بما في ذلك الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي وقوى محلية. كما أن استخدام الموانئ لتحميل النفط وتصديره يربط حضرموت بالاقتصاد العالمي ويجعلها محط اهتمام شركات الشحن العالمية. وهذه الموارد جعلت من حضرموت محط أنظار التحالف السعودي الإماراتي، حيث تسعى كل دولة إلى ضمان النفوذ الاقتصادي والسياسي مقابل الطرف الآخر. 

1. حقول المسيلة: شريان الحياة

تحتوي حضرموت على أكبر مخزون نفطي في اليمن (قطاعات المسيلة). قبل الحرب، كانت هذه الحقول وحدها ترفد الخزينة العامة بنحو 70% من موازنة الدولة. الصراع الحالي في الأيام الأخيرة تركز حول تأمين أو السيطرة على طرق الإمداد لهذه الحقول. بالنسبة للمجلس الانتقالي، فإن "الدولة الجنوبية" لا يمكن أن تقوم اقتصادياً بدون نفط حضرموت؛ فعدن ومحافظات الجنوب الأخرى (لحج، الضالع) تفتقر للموارد الذاتية، مما يجعل حضرموت "الرئة الاقتصادية" لمشروع الانفصال.

2. ميناء الضبة وتصدير النفط

شهد ميناء الضبة النفطي في السابق هجمات حوثية أوقفت التصدير، لكن الصراع الحالي هو صراع على "من يمسك بالمحبس". ووفقاً لتقارير فإن القبائل تطالب بحصة من عوائد النفط وتنمية مناطق الامتياز، وترفض أن تذهب العوائد إلى البنك المركزي في عدن (تحت سيطرة الانتقالي والحكومة) دون ضمانات واضحة لحضرموت.

3. الثروة المعدنية والذهب

بالإضافة للنفط، يزخر وادي "مدن" في حضرموت باحتياطيات من الذهب والمعادن. تشير التقارير الاقتصادية إلى أن الشركات الأجنبية تراقب الوضع الأمني عن كثب، حيث يمثل الاستقرار شرطاً لاستخراج هذه الثروات، وهو ما فشلت الأطراف المتصارعة في توفيره.

عناصر من قوات المجلس الانتقالي الجنوبي، الجماعة الانفصالية الرئيسية في اليمن، في منطقة جبلية استعدادًا لشن عملية عسكرية غرب حضرموت – رويترز

ماذا يريد كل طرف من حضرموت؟

تتشابك المصالح في حضرموت بشكل معقد، حيث يقاتل كل طرف لمعركة وجودية:

1. "المجلس الانتقالي الجنوبي" (STC)

  • الهدف: السيطرة الكاملة على وادي حضرموت وطرد قوات المنطقة العسكرية التابعة للحكومة الشرعية والقبائل.
  • الدافع: يرى الانتقالي، المدعوم إماراتياً، أن مشروع "استعادة دولة الجنوب" منقوص ومستحيل التحقق دون حضرموت. حضرموت تمثل الثقل الجغرافي والاقتصادي لمشروع "دولة الجنوب".
  • الاستراتيجية الحالية: وفقاً لتحليلات معهد واشنطن يعتمد الانتقالي استراتيجية "الضغط المتدرج": تحريك الشارع عبر المظاهرات، واستخدام القوة العسكرية المحدودة لقضم المناطق، ومحاولة استمالة بعض الوجاهات القبلية (مثل فرج البحسني) لشق صف القبائل.

2. حلف قبائل حضرموت ومجلس حضرموت الوطني

  • الهدف: "حضرموت سيدة قرارها". يرفض الحلف التبعية لعدن (الانتقالي) أو صنعاء (الحوثي).
  • الدافع: الهوية الحضرمية الخاصة، والشعور التاريخي بالتهميش. يرى الحلف، بقيادة عمرو بن حبريش، أن قوات الانتقالي هي "قوات من خارج المحافظة" لا تختلف عن القوات الشمالية في سعيها للسيطرة.
  • الاستراتيجية: التهديد بوقف النفط، نشر المسلحين القبليين، والتحالف التكتيكي مع السعودية لموازنة النفوذ أمام الانتقالي.

3. المملكة العربية السعودية

  • الهدف: منع سيطرة الانتقالي الكاملة على حضرموت، والحفاظ على منطقة عازلة آمنة على حدودها.
  • الدافع: تخشى الرياض من دولة جنوبية انفصالية قد تكون غير مستقرة أو خاضعة لنفوذ منافس. كما أن السعودية، وفقاً لموقع "Stratfor"، لا تزال تضع في حسبانها الاستراتيجي الطويل الأمد فكرة "منفذ نفطي" عبر الأراضي الحضرمية إلى بحر العرب لتجاوز مضيق هرمز، وهذا يتطلب حضرموت صديقة ومستقرة وليست تحت سيطرة فصيل مسلح متشدد.
  • التحرك الأخير: تشكيل "درع الوطن" كقوات بديلة، ودعم "مجلس حضرموت الوطني" كحامل سياسي للقضية الحضرمية بعيداً عن الانتقالي.

4. الحكومة الشرعية (مجلس القيادة الرئاسي)

  • الوضع: تعيش حالة موت سريري.
  • التأثير: الرئيس رشاد العليمي يحاول المناورة بدعم سعودي لإبقاء حضرموت تحت مظلة "الدولة الاتحادية"، لكنه يواجه تمرداً من بعض أعضاء مجلسه (الزبيدي، المحرمي، البحسني).

5. دولة الإمارات

الهدف الجيوسياسي: "إمبراطورية الموانئ والساحل". ترى أبوظبي في ساحل حضرموت (المكلا والشحر) حلقة وصل حيوية ضمن استراتيجيتها للسيطرة على الممرات المائية من مضيق هرمز إلى باب المندب وصولاً للقرن الأفريقي. السيطرة على موانئ حضرموت تمنحها نفوذاً تجارياً وعسكرياً على خطوط الملاحة في بحر العرب.

الدافع السياسي: "تمكين الحليف الجنوبي". تدرك الإمارات أن مشروع "المجلس الانتقالي الجنوبي" (حليفها الأول) سيظل مشروعاً "أعرج" وغير قابل للحياة اقتصادياً بدون نفط ومساحة حضرموت. لذلك، تدعم تمدد الانتقالي لضمان قيام كيان جنوبي قوي (سواء دولة مستقلة أو حكم ذاتي واسع) يكون صديقاً لها وخالياً من نفوذ "الإخوان المسلمين" (حزب الإصلاح)، بحسب زعمها.

الأداة العسكرية: أسست ودربت قوات "النخبة الحضرمية" التي تسيطر على الساحل، وتستخدمها كذراع مليشياوي، وأيضاً كورقة ضغط لتقليص نفوذ القوات الموالية للحكومة/السعودية في الوادي.

وفي تصعيد غير مسبوق بمعسكر "الشرعية" في اليمن، ألغت السلطات اليمنية، الثلاثاء 30 ديسمبر 2025، اتفاقية الدفاع المشترك مع الإمارات، وطالبت بخروج جميع قواتها خلال 24 ساعة. عكس هذا القرار، الصادر عن رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، التوتر المتصاعد بسبب تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي في حضرموت والمهرة. وعلى أثر ذلك، أعلنت وزارة الدفاع الإماراتية إنهاء ما تبقى من فرق "مكافحة الإرهاب" في اليمن، مؤكدة أن القرار اتُّخذ "بمحض الإرادة" وبالتنسيق مع الشركاء، بحسب وصفها.

تحميل المزيد