لماذا لا تزال “إسرائيل” متشككة في مستقبل وجودها بعد 77 عاماً على نشأتها؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/11/19 الساعة 11:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/11/19 الساعة 12:08 بتوقيت غرينتش
الشك بالمشروع يثير أسئلة المستقبل لدى الإسرائيليين - تعبيرية (عربي بوست)

بعد 77 عاماً من إعلان قيامها، تبدو دولة الاحتلال الإسرائيلي في حالة شكّ مستمر لم يعد يقتصر على سؤالٍ الخطر الخارجي أو مسألة الأمن والحدود فقط، بل امتدّ هذا الشك في المشروع ليشمل سؤالاً وجودياً عميقًا في النظرة إلى الذات: هل الدولة قادرة على الاستمرار كما هي؟ هل هذا المجتمع الذي بُني خلال عقود بالحديد والنار يستطيع أن يحافظ على تماسكه واستمراريته؟ وهل المؤسسات التي صمدت في حروبٍ سابقة ما تزال قادرة على امتصاص الصدمات نفسها وخصيصاً بعد السابع من أكتوبر 2023؟

هذا التشكك ليس ضرباً من الخوف العابر أو محصورًا بين نقاشات الأكاديميين أو المعارضين لنهج حكومة نتنياهو وأفعالها؛ بل نتج عن تراكم صدمات: حرب طويلة ومربكة مع غزة وما تلاها من أزمات، استقطابات داخلية حادّة، نبذ عالمي وضغوط دولية وقانونية متصاعدة، وارتفاع ملموس في معدلات الهجرة الأبدية من إسرائيل وتآكل مؤشرات التماسك الاجتماعي. 

السؤال الوجودي هذا تحول إلى موضوع نقاش عام في الإعلام والأبحاث والأجهزة الأمنية وحتى بين الاحتياط والمهاجرين اليهود. فكيف أصبحت البنية الداخلية الاجتماعية والنفسية والمؤسساتية الإسرائيلية اليوم أقل قدرة على امتصاص الصدمات، ولماذا بلغ القلق حول "استمرارية الدولة" لدرجة جعلت تل أبيب تؤمّن أرشيفاً احتياطياً لكل ما يتعلق بهذا المشروع في مكان سري بجامعة هارفارد "في حال زوال الدولة"؟

"الأرشيف البديل" في هارفرد ودلالات الشكّ بزوال "إسرائيل"

أعادت الأحداث الأخيرة، التي تصاعدت عقب معركة "طوفان الأقصى" والحرب على قطاع غزة التي استمرت نحو عامين، تفعيل الجدل المستمر حول قدرة "إسرائيل" على الصمود. هذا التساؤل الجوهري، الذي أصبح جزءًا ملازمًا للنقاش العام، خيّم بظلاله حتى على دولة الاحتلال في الذكرى السابعة والسبعين لتأسيسها، وذلك في ظل تنامي القلق المرتبط بـ "عقدة العقد الثامن" التاريخية والتي تحدث الكتاب الإسرائيليين حولها كثيراً بعد السابع من أكتوبر 2023.

في هذا السياق، تتجه الأنظار إلى "ذاكرة إسرائيل" المتمثلة في أرشيف ضخم ومفهرس محفوظ في جامعة هارفارد. يُنظر إلى هذا الأرشيف كضمانة أو سجل تاريخي لما قد يحدث في حال لم تتمكن "إسرائيل" من الثبات على مسارها الحالي، وهو ما يثير احتمالية عدم وصولها إلى الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيسها.

أرشيف "سيناريو الزوال" الإسرائيلي في جامعة هارفارد – هآرتس

صحيفة "هآرتس" نشرت تقريراً عن وجود أرشيفٍ ضخم في مكان سري من المواد الإسرائيلية في جامعة هارفارد -والذي وُصِف بأنه "احتياطي" لكل ما يخص تاريخ "إسرائيل" من قبل قيامها وحتى اليوم- "في حال زوال إسرائيل عن الوجود كما نعرفها" لم يكن مجرد خبر عابر، بل مؤشر لما قد يُعتبَر احتمالاً نظرياً أو عملياً في مدى الشك باستمرارية المشروع.

تحقيق هأرتس كشف عن قراءة معمقة لمسار نشأة الأرشيف الإسرائيلي ومحتواه، ما جاء منسجماً مع التحليلات التي تركز على مظاهر التفكك الداخلي في إسرائيل واحتمالات زوالها كما أزيل الممالك الصليبية بعد نحو 100 عام من بقائها في المنطقة. وسلط التحقيق الضوء على ظواهر متفاقمة تشمل اتساع الهجرة من إسرائيل، وتعمق الشرخ المجتمعي، وغياب التوافق بين مختلف فئات المجتمع اليهودي في ظل حالة استقطاب سياسي متصاعدة.

هذه التحديات تكرس المغزى الكامن وراء فكرة حفظ الذاكرة الإسرائيلية بكل تفاصيلها خارج حدود البلاد، لكونها انعكاساً مباشراً لحالة القلق الوجودي التي تهيمن على "إسرائيل" حالياً. ويرتبط الدافع لهذا الجهد بهاجس عميق يطرح سؤال "ماذا لو لم تستمر إسرائيل؟"، وهو تساؤل صادم أطلقه مؤسس فكرة هذا الأرشيف البديل، المؤرخ الإسرائيلي تشارلز برلين في الثمانينيات، وهو ما دفعه لإطلاق مشروع سري في محاولة لضمان بقاء الذاكرة، حتى في حال اختفاء الدولة الإسرائيلية.

الشك بالمشروع يثير أسئلة المستقبل لدى الإسرائيليين 

خلال الصيفين الأخيرين شهدت "إسرائيل" أطول الحروب في تاريخها مع قطاع غزة بعد هجوم السابع من أكتوبر 2023 الذي هز "إسرائيل" بعنف. تلاه موجات أخرى من المواجهات العسكرية في المنطقة التي أسقطت معها العديد من النظريات الأمنية التي قامت عليها دولة الاحتلال، حتى تضررت "إسرائيل" بشكل كبير اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وتركت فيها هذه المواجهات آثاراً لا يمكن علاجها بسهولة لدى الدولة والمجتمع الإسرائيليين.

هذه الصدمات المستمرة للحرب في غزة وفتح جبهات عديدة بالمنطقة وإطالة أمدها من قبل حكومة بنيامين نتنياهو بغض النظر على أثمانها أو تكاليفها، أدّت إلى "إرهاق جماعي" لدى الإسرائيليين وأثارت لديهم شكوك كثيرة حول فكرة الاستمرارية بالعيش في هذا المكان الذي لا يهدأ ويستدعيهم للقتال بشكل مستمر من وظائفهم الأخرى التي تضررت بشكل كبير.

يصف أحد جنود الاحتياط الذين استُدعوا مراراً للقتال خلال هذه الحرب قلقه لصحيفة Le Monde الفرنسية: "كبرت وكنت أعتقد أنني أخدم وطني… لكن بعد هذا الاستدعاء المتواصل والغياب المستمر عن العائلة وهذه الأثمان، لم أعد أجده (وطني)". تقول الصحيفة إن هذا القدر من القلق والتردد ضمن قاعدة الاحتياط – التي تعد ركيزة أمنية وإجتماعية في إسرائيل – ينعكس على شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي، ولا يمكن رؤيته ببساطة كتعب أو تذمّر عابر: إنه إشارة إلى أن المنظومة النفسية للدولة بدأت تفتقد القدرة على الاستمرارية وامتصاص الصدمات.

يقول الخبراء الإسرائيليون إن المنظومة النفسية الإسرائيلية انهارت فعلياً بعد اندلاع الحرب – أرشيفية Getty

وتقول البروفيسورة ليلاخ ليف آري من كلية أورانيم الإسرائيلية: "لقد جعلت الحرب في غزة والفوضى السياسية العديد من الإسرائيليين يتساءلون عن مستقبلهم في هذا البلد.. يشعر الناس بالخوف وعدم الأمان والصراع وعدم اليقين بشأن ما يخبئه المستقبل".

توقفت الحرب مع غزة، ربما مؤقتاً، لكن حتى المواجهات الأخرى في الضفة ولبنان وإيران وحتى سوريا لا يزال مصيرها غير واضح، ولا تزال "إسرائيل" متأهبة لما هو قادم بعد صعقة السابع من أكتوبر. وفي ظل هذا المناخ تغيّرت طبيعة السؤال لدى الإسرائيليين، لم يعد: "هل سنصمد عسكرياً؟" بقدر ما صار: "بأي شكلٍ ستبقى أو تستمر هذه الدولة؟ وما هو الثمن الاجتماعي والسياسي لاستمرارها"؟. 

ومن مؤشرات هذا القلق والشك في استمرارية المشروع، أصبحت "إسرائيل" تواجه واحدة من أخطر أزماتها الداخلية منذ تأسيسها: هجرة متصاعدة للخارج تُهدد توازنها الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي. فقد تحولت الدولة التي قامت على فكرة "العودة إلى الوطن" إلى بيئة يهرب منها مواطنوها، في ظاهرة تصفها الصحافة الإسرائيلية بـ"الهجرة السلبية" وتعتبرها القيادة السياسية ناقوس خطر يهدد وجود "إسرائيل" باعتبارها النموذج الأمثل للعيش وجذب يهود العالم.

أضف إلى ذلك أن تكلفة المعيشة المرتفعة التي لا تزال تُثقل كاهل الرواتب والقروض العقارية مزقت جميع الإسرائيليين٬ حتى أولئك الذين لم يخطر ببالهم الرحيل يومًا، يطرحون أسئلةً صعبة على أنفسهم حول الاستقرار والمستقبل الذي يُمكنهم أن يعدوا به أطفالهم.

اليأس والاحباط يدفعان 200 ألف لمغادرة "إسرائيل"

ومع فقدان إسرائيل لجاذبيتها كمكانٍ "آمن ومستقر"، تتزايد مؤشرات الهجرة بين الشباب والمتعلمين والعاملين في قطاعات التكنولوجيا والتعليم والصحة، ما يجعل الأزمة أكثر من مجرد حركة سكانية عابرة، بل تحوّلًا عميقًا في علاقة الإسرائيليين بوطنهم وهويتهم. وتشير تقارير صحفية إلى أن 5 ملايين إسرائيلي لديهم بالفعل جواز سفر ثانٍ، أي نصف عدد السكان، وهو مؤشر على حالة عدم اليقين لديهم.

يقول المحلل الإسرائيلي في صحيفة The Marker سامي بيرتز في مقالة نشرت حديثاً وأثارت جدلاً واسعاً داخل "إسرائيل"، إن نحو 200 ألف إسرائيلي غادروا البلاد منذ تشكيل حكومة نتنياهو في نهاية ديسمبر 2022 وحى اللحظة، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ "إسرائيل" منذ قيامها.

ويرى بيرتز أن "بقاء هذه الحكومة المدمرة رغم إخفاقاتها الفادحة في كل المجالات (الأمن والنقل، وتكاليف المعيشة، والتعليم وغيرها)، أصبح يدفع الكثير من الإسرائيليين إلى الإحباط واليأس، حتى أن بعضهم قرر ببساطة حزم حقائبه والرحيل عن إسرائيل".

تصف لجنة الهجرة في الكنيست الإسرائيلي ارتفاع موجات الهجرة من البلاد بأنه "تسونامي سكاني"، يعكس تصاعد الإحباط من الأوضاع الأمنية والسياسية – تعبيرية (عربي بوست)

وبحسب الكاتب فإنه "منذ تشكيل الحكومة الحالية، غادر إسرائيل 6016 إسرائيليًا شهريًا، وهي زيادة تُقارب ضعف معدل المغادرة الشهري في السنوات الأربع التي سبقت تشكيلها. كما أن صافي رصيد المغادرة كبير جدًا، حيث بلغ 3910 إسرائيليين شهريًا خلال فترة هذه الحكومة، مقارنةً بمتوسط ​​1146 إسرائيليًا شهريًا في السنوات الأربع التي سبقت تشكيلها".

وتصف الصحف العبرية صدمة هجرة للسكان التي تواجهها "إسرائيل" اليوم بـ"غير المسبوقة" وتتجاوز الإحصاءات الرسمية، إلى جانب تباطؤ في الهجرة اليهودية نحو "إسرائيل". ويحمل هذا التوجه عواقب استراتيجية واقتصادية واجتماعية كبيرة لم يعد بإمكان الدولة تجاهلها حيث تصف صحيفة "جيروزاليم بوست" إنه ذلك يمثل "اختبار حقيقي لعقدنا الاجتماعي اليوم كإسرائيليين".

يقول المحللون الإسرائيليون إن ارتفاع معدل الهجرة يعكس أزمة أعمق، أزمة تتجاوز الفشل العسكري والسياسي. حيث لم يحقق هجوم "إسرائيل" على غزة هدفه المعلن المتمثل في هزيمة "حماس" التي وجهت ضربة هزت فكرة البقاء لدى الإسرائيليين، حيث زاد من حدة الإدانة العالمية لإسرائيل ونبذها، وأثقل كاهل الاقتصاد، ومزق المجتمع الإسرائيلي. ويجادل الكتاب الإسرائيليون بأن التكلفة الخفية للحرب تكمن في تآكل رأس المال البشري الإسرائيلي والإرهاق المعنوي والنفسي الذي يُسيطر على سكانها.

وتصف لجنة الهجرة في الكنيست في تقريرها حول الهجرة الذي نشر مؤخراً هذا التطور بأنه "تسونامي سكاني"، يعكس تصاعد الإحباط من الأوضاع الأمنية والسياسية، وتراجع الثقة بمستقبل الدولة بعد حربٍ طويلة أنهكت المجتمع الإسرائيلي على المستويات كافة. ومع فقدان إسرائيل لجاذبيتها كمكانٍ "آمن ومستقر"، تتزايد مؤشرات الهجرة بين الشباب والمتعلمين والعاملين في قطاعات التكنولوجيا والتعليم والصحة، ما يجعل الأزمة أكثر من مجرد حركة سكانية عابرة، بل تحوّلًا عميقًا في علاقة الإسرائيليين بوطنهم وهويتهم.

صحيفة "جروزاليم بوست" تقول إنه من منظور توراتي، تحمل هذه اللحظة صدىً عميقًا لمستقبل إسرائيل، فـ"أرض إسرائيل ليست مجرد أرض، بل هي عهد. ولطالما انقلبت الهوية اليهودية بين المنفى والعودة. عندما يختار عدد كبير من الناس الخروج منها على الاستثمار فيها، فإن الخطر ليس ديموغرافيًا فحسب، بل روحي أيضًا. إنه يُضعف قصة العودة ويُضعف صوت العهد التوراتي الذي يربط الناس بالمكان" على حد تعبيرها.

الانقسام السياسي يزيد من حالة عدم اليقين حول مستقبل "إسرائيل"

الانقسام السياسي الداخلي الإسرائيلي، الذي اتسع خلال الأعوام الأخيرة، أضعف قدرة الدولة على صناعة سياساتٍ طويلة الأمد تشعر المواطنين أو المستثمرين بالاستقرار أو البقاء. مؤسسات رسمية وأمنية تواجه ضغوط ايديولوجية، وجبهات اجتهاد قضائي متنافرة، واستقطابات حول التجنيد والتعليم والسياسات الاقتصادية والاجتماعية. 

وتشير تقارير عبرية غربية إلى أن "إسرائيل" أصبحت تعيش وضعية عمل غير طبيعية: مؤسسات تعمل في حالة طوارئ دائمة، وصعوبة في الاتفاق على رؤية وطنية مشتركة. هذا الانقسام يعطل الآليات التي تعتمدها الدول المستقرة لمعالجة الأزمات ويفتح مساحات لشكوك حول قدرة الدولة على إعادة إنتاج نفسها سياسياً. 

وهدّدت أزمة الانقسامات الداخلية واهتزاز الثقة بالدولة التي ظهرت بعد الفشل بالتصدي لهجوم السابع من أكتوبر الدولة برمّتها، بما فيه استقرارها الاقتصادي والأمني، ما يجعلها أمام خطر حقيقي داهم، وفقاً لما ذكره أورين كانيل، رئيس شركة AppsFlyer التكنولوجية العملاقة، في مقال نشرته القناة 12، حين طرح هذا السؤال الموجه للإسرائيليين: هل ستبقون في هذه الدولة؟

وعلل كانيل سؤاله بأن ذلك يأتي بعد 77 عاماً من قيام "إسرائيل"، لتواجه الآن تهديداً وجودياً، ليس من الخارج هذه المرة، بل من الداخل، لأن الخطر الحقيقي على مستقبلها هو فقدان الثقة بها، وقد باتت أزمة ثقة عابرة للحدود، والأزمة التي تمرّ بها لم تعد عادية، بل وجودية، وتهزّ الركائز التي تعتمد عليها، وفق تعبيره.

وأضاف أن الثقة متصدّعة بكل القطاعات: بين مختلف الإسرائيليين أنفسهم، وفي قيادتهم، وفي الجيش، وأجهزة الأمن، وبعد اندلاع الحرب تلقّوا مزيدا من الانقسام والتحريض والاتهامات غير المسؤولة، وبدلاً من أن يتوحّدوا، فإنهم ينقسمون، وبدلاً من تكريم الجنود الذين يُقتَلون في غزة، فإنها تستنزفهم لأقصى حدّ. واعتبر أن كل هذه مؤشرات لفشل خطير للغاية، وذو عواقب بعيدة المدى في جميع المجالات، مما يدفعنا لطرح السؤال القديم الجديد: هل ستبلغ إسرائيل المئة عام من عمرها؟

تهدد الانقسامات بين الإسرائيليين بانهيار الدولة – أرشيفية – هآرتس

أما ميدان بار رئيس نقابة الطيارين الإسرائيليين، أكد في مقاله بصحيفة معاريف، أنه بعد مرور عامين على الحرب، وسقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى، بدا واضحاً أن الحكومة شكّلت نقطة تحول، وفي نهاية مسيرتها ستحدد شخصية دولة بأكملها، عاشت لمدة 77 عاماً، ولكن من قال إن عمرها سيكمل قرنا من الزمان؟

من جهته، رسم المؤرخ الإسرائيلي بني موريس -الذي أمضى سنوات طويلة في دراسة تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي- في لقاءات صحفية صورة قاتمة لنهاية "إسرائيل" كما يراها، وافترض أفقاً زمنياً لهذه النهاية المحتومة في رأيه، إذ لا يرى لإسرائيل أي مخرج، ولا مستقبل مستداماً لها كدولة يهودية متماسكة وموحدة. 

وتجسد هاجس زوال "إسرائيل" بسبب انقساماتها الداخلية في العديد من الأعمال الأدبية والفنية الإسرائيلية مثل فيلم "2048" الإسرائيلي الذي أنتج قبل عدة سنوات. حيث أثار المخاوف، والتفكير الذي يسيطر على المهاجرين الجدد من الصهاينة حيال نهاية محتملة لدولتهم. وهو الهاجس الذي يطارد كل مستوطن إسرائيلي؛ إذ تحدَّث الفيلم عن نهاية "إسرائيل" وزوالها من الوجود بذكرى مئويتها عام 2048، لا نتيجة لتهديدات خارجية، بل جراء تحلل وفساد مواطنيها اليهود، وهو ما يمكن إسقاطه على الانقسام الداخلي داخل الشارع الإسرائيلي، وتفشي العنصرية، وسيطرة اليمين المتطرف على مفاصل الحكم.

تفكك المجتمع الإسرائيلي وتصاعد أمراضه النفسية

خلال عامين من الحرب، ارتفعت معدلات الانتحار واضطرابات ما بعد الصدمة، والاكتئاب، والعنف الأسري والطلاق، والهجرة العكسية؛ كما كشفت تقارير إسرائيلية رسمية وغير رسمية عن ارتفاع مقلق في مؤشرات العزلة والجريمة بين الإسرائيليين، في وقت فشلت فيه خطط حكومة بنيامين نتنياهو لتغطية العدد المهول من المتضررين نفسياً، وسط مخاوف مستمرة من تأثير ذلك على تماسك المجتمع الإسرائيلي الذي بات يعاني على جميع المستويات.

تقول مجلة "الإيكونوميست" البريطانية إن "إسرائيل" تشهد اليوم أزمة نفسية وطنية بشهادة خبراء إسرائيليون أنفسهم. ووفقًا للجيش الإسرائيلي انتحر 21 جنديًا في عام 2024 وحده، وهو أعلى رقم مُسجل منذ سنوات طويلة. وخصصت الحكومة حتى الآن 1.9 مليار شيكل (550 مليون دولار) لتمويل الصحة النفسية منذ بدء الحرب، لكن المختصين يحذرون من أن هذا لن يكون كافيًا. ويحذر أخصائي نفسي عسكري: "نهاية هذه الحرب هي مجتمع يعاني من الصدمة".

ويقول أورين تانا، مدير قسم الطب النفسي بمستشفى إيخيلوف، إن هناك زيادة هائلة بأعداد المرضى النفسيين مقارنةً بفترة ما قبل الحرب، معتبراً أن التعريف الإحصائي لـ"أطول حرب في تاريخ إسرائيل" يؤثر على عدد المرضى، جسدياً ونفسياً، وهو أمر لا يقل إثارة للقلق.

أما أوفير ليفي، مدير العيادة بالمركز الوطني للصدمات النفسية، فأكد "أننا في حرب منذ عامين، ومعظم من يلجأ إلينا إما يخدمون في الجيش، أو يعانون من ضغوط نفسية واضطراب ما بعد الصدمة، ولذلك تتراجع فعالية العلاج، ما يشعرنا بالقلق من شدة الموجة المتوقعة، في ضوء تآكل الإجماع العام حول الحرب".

وبحسب صحيفة هآرتس، "أسفر ذلك عن شعور الإسرائيليين عموماً بالقلق، والعجز، والإحباط، والغضب، وذلك له عواقب وخيمة، لأنهم لا ينامون، ويشعرون بالتوتر، ويتجنبون أي شيء قد يُذكرهم بالصدمة، وتنتابهم الكوابيس، وتعود بهم الذكريات المؤلمة، وينظرون إلى العالم كمكان خطير".

"إسرائيل" المنبوذة عالميًا

في 27 أكتوبر 2025 قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال مؤتمر صحفي: "أواجه بعض المشاكل في الحصول على الدعم لإسرائيل، ولا أستطيع حقاً فهم ذلك لأنني نشأتُ في عالمٍ تدور فيه السياسة حول إسرائيل، كلمةٌ واحدةٌ سيئةٌ عن إسرائيل كانت تُبعدك عن السياسة. الآن، كلمةٌ واحدةٌ جيدةٌ عن إسرائيل تُبعدك عن السياسة".

يظهر هذا التصريح والاعتراف غير المسبوق من قبل أقرب حلفاء "إسرائيل" مدى النبذ الذي وصلت إليه عالميًا بعد حربها المدمرة على غزة وأن "إسرائيل" لم تعد كالسابق، حيث أصبح مواطنوها منبوذون في جميع أنحاء العالم، وأصبحت المقاطعة السمة الرئيسية لإسرائيل ليس فقط سياسياً بل في الأنشطة الرياضية والثقافية والسياحية والأكاديمية وغيرها من المجالات.

وخلال عامين من حرب الإبادة على غزة، اتسع نطاق العزلة العالمية والدولية التي تواجهها "إسرائيل" حتى وصلت إلى حلفائها الذين هددوا بمعاقبتها علناً، فيما ذهب بعضهم إلى فرض عقوبات عليها وإلغاء صفقات واستثمارات والتصويت ضدها في المحافل الدولية بسبب ارتكابها جرائم إبادة جماعية بما يشمل القتل العشوائي والتجويع وتعذيب السجناء والحصار.

على المستوى الدولي، تعرّضت "إسرائيل" لملاحقات قانونية واسعة النطاق بسبب حرب الإبادة التي شنتها على غزة، وأصبحت تهم ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية تطاردها في محكمتي العدل والجنائية الدوليتين. وهذا كله أصبح يترك أثره على الاقتصاد والحياة العامة والمجتمع الإسرائيلي المنبوذ، وأصبح الضغط الخارجي يتقاطع مع ضغوط داخلية، ويضخم الشعور لدى الإسرائيليين بأن السياسات الحالية تغير مكانة "إسرائيل" الإقليمية والدولية بشكل غير مسبوق.

في النهاية، ربما لا تزال "إسرائيل" تملك قوة اقتصادية وتقنية وعسكرية بسبب استمرار الدعم الأمريكي والغربي، وشبكات تحالفات دولية تؤمن لها دعماً سياسياً واقتصادياً، لكنّ النقطة الجوهرية هي أن هناك نقطة انكسار وصلت لها "إسرائيل" وأحدثتها هذه الحرب وجعلت صمود الدولة وتماسك المجتمع يتآكلان، وهذا هو ما يولّد الشكّ في فكرة الاستمرارية: ليس فقط إمكانية السقوط، بل احتمال أن تتبدّل طبيعة الدولة بصورة تجعلها "غير معروفة" في غضون سنوات.

تحميل المزيد