خلال عقودٍ من الصراع، برز ملف احتجاز جثامين الشهداء والأسرى الفلسطينيين لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلية وعمليات تأخير تسليمها باعتباره أحد أكثر القضايا المؤلمة والحسّاسة التي تؤجّج الغضب الشعبي والألم لعائلاتهم. لكن الأخطر والأكثر ألماً من ذلك هو سرقة الاحتلال أعضاء من جثامين الشهداء المحتجزة لديه بما يشمل حتى سرقة جلود الشهداء.
وخلال حرب الإبادة في غزة، أكدت تقارير حقوقية وتحقيقات مختلفة أن هناك جثامين لفلسطينيين أعيدت من معتقلات الاحتلال وقد غُطّيت بخيوط جراحية تمتد من العنق إلى أسفل البطن وكانت عليها آثار استئصال أعضاء داخلية من أجساد الشهداء، واستبدالها بأكياس بلاستيكية داخل الأحشاء.
وبحسب شهادات أطباء وبيانات رسميّة وحقوقية فلسطينية، تشمل السرقات الإسرائيلية من هذه الجثامين الأنسجة وقرنيات العين والشبكية وأعضاء حيوية أخرى مثل القلب والكبد والكلى والجلود. لكن جريمة سرقة الأعضاء ليست جديدة على الاحتلال وإن كانت بلغت ذروتها خلال الحرب الأخيرة، بل هي امتداد لسلسلة من الجرائم المستمرة منذ نحو 3 عقود أو يزيد. فمن أين بدأت خيوط هذه الجريمة؟
مشرحة "أبو كبير".. جذور جريمة سرقة الاحتلال الإسرائيلي للأعضاء البشرية
أول توثيق لخيوط هذه الجريمة بدأ من داخل معهد الطب الشرعي الإسرائيلي "أبو كبير" في تل أبيب. ففي منتصف التسعينيات، بدأت تتسرب شهادات عن عمليات نزع وسرقة أعضاء من جثث فلسطينيين، دون علم ذويهم، عقب المواجهات العسكرية في الضفة وغزة.
وفي عام 2009 فُجّرت القصة عالميًا عبر صحيفة Aftonbladet السويدية، التي نشرت تحقيقًا بعنوان "أبناؤنا نُهبت أعضاؤهم"، يروي فيه شبان فلسطينيون من الخليل وجنين كيف أُعيدت جثث ذويهم بعد أيام من احتجازها خلال مواجهات مع الاحتلال، تحمل ندوبًا جراحية غريبة.
وبعد أسابيع، نُشرت مقابلة صوتية سجلت عام 2000 تحدث فيها البروفيسور يهودا هيس، أخصائي علم الأمراض ومدير معهد الطب الشرعي في أبو كبير، عما كان يجري في المعهد. تحدث هيس لمدة ساعة تقريبًا عن العمليات الجراحية التي أجراها على الجثث التي جاءت للفحص، والتي أخفاها عن الجمهور وتم خلال سرقة الأعضاء.
أثارت القصة عاصفة سياسية، إذ اتهمت "إسرائيل" الصحيفة بالتحريض ومعاداة السامية، واعترف الدكتور يهودا هيس بأنّ المعهد احتفظ بأعضاء من جثث مقاتلين ومدنيين فلسطينيين وحتى إسرائيليين دون إذن ذويهم، "لأغراض علمية"، بما يشمل أعضاء حيوية وقرنيات وجلود بشرية، وقال هيس خلال تلك المقابلة، إن جفون الجثث كانت تُلصق لمنع اكتشاف إزالة القرنيات.
مثّل تصريح هيس، الذي حاولت الحكومة الإسرائيلية التخفيف من وطأته، أول اعتراف رسمي بأنّ ممارسات استئصال الأعضاء وسرقتها تمت فعلًا داخل المؤسسات الطبية الإسرائيلية منذ التسعينيات وربما قبل ذلك بوقت كبير، حيث تمت تلك السرقات في حالة شديدة السرية. وأُقيل هيس من رئاسة معهد أبو كبير عام 2004 بسبب مخالفات في استخدام الأعضاء، لكن التهم الموجهة إليه أُسقطت في نهاية المطاف.
خلال السنوات التالية، تحدثت السلطات الفلسطينية والمراكز الحقوقية الفلسطينية – مثل مركز تضامن والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان (PCHR) – عن جثث لفلسطينيين أعيدت من الإسرائيليين بعلامات تشريح غامضة وأثارت شكوكاً حول سرقة أعضاء منها واستخدامها في مختبرات كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية.
"إسرائيل" قامت بسرقة أعضاء وبيعها واستخدام أخرى في أبحاث أو علاج مرضى يهود
بعد الانتفاضة الثانية، كشفت الطبيبة الشرعية الإسرائيلية ميرا فايس في كتابها "على جثثهم" أن أعضاءً أُخذت من جثث فلسطينيين استُخدمت في أبحاث طبية في كليات الطب بالجامعات الإسرائيلية، وزُرعت في أجساد مرضى يهود إسرائيليين على مدى فترات من الزمن دون علم ذويهم أو موافقتهم.
وقالت فايس، وهي عالمة إسرائيلية في علم الإنسان (Anthropology) في كتابها: "خلال وجودي في المعهد شاهدتُ كيف كانوا يأخذون أعضاءً من جسد فلسطيني، ولا يأخذون في المقابل من الجنود.. كانوا يأخذون قرنيات، وجلد، وصمامات قلبية"، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنه "لا يمكن لأناس غير مهنيين أن يتنبهوا لنقص هذه الأعضاء، حيث يضعون مكان القرنيات شيئاً بلاستيكياً، ويأخذون الجلد من الظهر بحيث لا ترى العائلة ذلك".
وبعد أن كشفت مئيرا فايس عما رأته خلف هذه الأبواب، زعم الاحتلال الإسرائيلي أنه توقف عن سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين، لكن اشتراطه منع التشريح لإعادة الجثامين المحتجزة يثير لدى ذويهم تساؤلات كثيرة، لأن الاحتلال لم يحترم يوماً حرمة أحيائهم كي يحترم حرمة أمواتهم.
وقبل سنوات عدة، كشف رئيس الحكومة الفلسطينية السابق، سلام فياض، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي كان يجبر أسر الشهداء على دفنهم ليلاً؛ ففي أيام الانتفاضة الأولى كانت تُعاد جثث الشهداء إلى ذويهم، وكان يُفرض على العائلة دفنهم ليلاً، بوجود قوة عسكرية كبيرة، ولم يسمح للأهالي بكشف الجثة، فالأسرة كانت لا تعلم ماذا تدفن، وكانت عملية الدفن قسرية، أي إن قوات الاحتلال كانت تستولي على أعضاء، بما فيها الجلد وغيره.

كما اتهم رئيس الحكومة الفلسطينية السابق محمد أشتيه، في يوليو/تموز 2022، "إسرائيل" باستخدام "جثامين شهداء" محتجزة في مختبرات الطب بالجامعات الإسرائيلية، وطالب أشتيه الجامعات العالمية بمقاطعة الجامعات الإسرائيلية المتورطة في احتجاز الجثامين، ودعا للضغط على الحكومة الإسرائيلية للتوقف عن انتهاكها لجثامين الشهداء، وأن تقوم بالإفراج الفوري عن جميع الجثامين المحتجزة لديها.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أرسل السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة رياض منصور رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بان كي مون، اتهم فيها إسرائيل بسرقة أعضاء الفلسطينيين الذين قتلوا في اشتباكات مع القوات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. وكتب منصور في الرسالة: "أظهر الفحص الطبي الذي أجري على جثث الفلسطينيين العائدين بعد قتلهم من قبل القوة المحتلة أنهم كانوا يفتقرون إلى الأعضاء".
في أغسطس/آب 2014، أجرت صحيفة نيويورك تايمز تحليلاً لقضايا الاتجار بالأعضاء الرئيسية منذ عام 2000. وذكرت الصحيفة أن الإسرائيليين لعبوا "دوراً غير متناسب" في الاتجار بالأعضاء وأن وسطاء زراعة الأعضاء في إسرائيل حصلوا على مبالغ ضخمة من المال.
وبحسب تحقيق نشرته صحيفة "هآرتس" عام 2018 فإن إسرائيل هي إحدى مراكز للتجارة العالمية غير المشروعة في الأعضاء البشرية، ازداد انخراط "إسرائيل" في صناعة تجارة الأعضاء خلال العقدين الماضيين.
وخلال تلك الفترة، كُشف عن عدد من شبكات تجارة الأعضاء في "إسرائيل"، ولكن لم يُعالج الموضوع رسميًا. في محاكمة عام 2003 لأعضاء شبكة إسرائيلية متورطة في تجارة أعضاء غير مشروعة، أعربت المحكمة عن رفضها لمحاولة النيابة العامة إدانة التجار بتهم متنوعة، تتراوح بين تزوير وثائق وانتهاكات لقانون التشريح وعلم الأمراض.
احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في "مقابر الأرقام"
في أبريل/ نيسان 2022 اتهمت وزارة الإعلام الفلسطينية دولة الاحتلال بسرقة أعضاء من جثامين الشهداء المحتجزين لديها في مقابر الأرقام منذ عام 1948. وبحسب تقرير رسمي نشرته الوزارة حينها فإن الاحتلال الإسرائيلي يحتجز -حتى عام 2022- جثامين 105 شهداء في الثلاجات بجانب 256 شهيداً في "مقابر الأرقام"، من بينهم 9 أطفال و3 شهيدات و8 أسرى، دون إعطاء معلومات عن أماكن احتجازهم.
ومقابر الأرقام هو مصطلح يطلق لمجموعة كبيرة من المقابر السرية التي أنشأتها دولة الاحتلال الإسرائيلي، من أجل دفن جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب. تحمل هذه المقابر أرقاماً، وبعض الجثامين تُدفن دون أن ترفق معها بطاقة تحمل اسم وتاريخ استشهاد صاحبها.
يحتجز الاحتلال الإسرائيلي بجثامين الشهداء منذ بداية احتلاله للأراضي الفلسطينية عام 1948، ومن ثمّ أوقف هذه السياسة في عام 2008 ثم أعادها كآلية عقاب للفلسطينيين، بقرار من الحكومة الإسرائيلية بتاريخ 13 أكتوبر 2015. كما أن حكومة الاحتلال تحتجز جثامين الشهداء أيضاً؛ لابتزاز أهالي الشهداء، وقد تدفن جثث أبنائهم -دون رؤيتهم- في الرمال والطين، ودون وضع عازل أسمنتي، ويترك أكثر من شهيد في حفرة واحدة.
وخلال عام 2020 أصدر "الكابينت" (المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر) قراراً يقضي باحتجاز جثمان كل فلسطيني، بصرف النظر عن انتمائه السياسي، لاستخدامه ورقة مساومة في أية عملية تبادل مع الفصائل في غزة.
يقول المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن لإسرائيل تاريخاً طويلاً في احتجاز جثث القتلى الفلسطينيين في "مقابر الأرقام" التي تقع شمالاً بالقرب من الحدود الأردنية ويحظر على العامة زيارتها، وفقًا للمنظمة الحقوقية، ومقرها جنيف، تُخزّن إسرائيل جثث القتلى الفلسطينيين فيما تُسمّيه "مقابر المقاتلين الأعداء"، ولا تُعلّم رفات أو جثث القتلى إلا بصفائح معدنية.
وبحسب تقرير سابق للمرصد الأورومتوسطي، فإن السلطات الإسرائيلية تحفظ جثث الفلسطينيين في درجات حرارة تحت الصفر ــ أحياناً أقل من 40 درجة مئوية ــ لضمان بقائها دون أن يمسها أحد ولإخفاء سرقة الأعضاء.
وأكد المرصد الأورومتوسطي أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تحتجز جثث من تقتلهم بشكل ممنهج، وتصنف كواحدة من أكبر مراكز التجارة غير المشروعة بالأعضاء البشرية في العالم تحت ذريعة "الردع الأمني" وفي انتهاك صارخ للمواثيق والاتفاقات الدولية.
"بنك الجلود" الإسرائيلي هو الأكبر في العالم
في تحقيقٍ تلفزيوني أثار جدلاً واسعاً حول العالم عام 2014، كشفت مديرة بنك الجلد الإسرائيلي أن احتياطي دولة الاحتلال من "الجلد البشري" وصل إلى 170 متراً مربعاً في ذلك الوقت، وهو رقم هائل نسبةً إلى عدد الإسرائيليين المتبرعين وسنة إنشائه.
هذا الاحتياطي من الجلد البشري لا يُعتبر منطقياً، نسبةً إلى أن "إسرائيل" تحتل المرتبة الثالثة في رفض سكانها التبرع بالأعضاء، وهذا مردّه إلى معتقدات دينية يهودية.
وفقاً لتقارير يعد بنك الجلد الإسرائيلي هو الأكبر في العالم، متفوقاً على بنك الجلد الأمريكي الذي أُنشئ قبله بـ40 سنة، مع الإشارة إلى أن عدد سكان "إسرائيل" أقل بكثير من سكان الولايات المتحدة الأمريكية.
وتعود فكرة إنشاء بنك الجلد الإسرائيلي إلى ما بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، حين قرّرت دولة الاحتلال أنه يجب علاج جنودها الذين يُصابون بحروقٍ خلال المعارك، على جميع الجبهات العربية.
وتأخّر إنشاء البنك لسنوات، بسبب وجود خلافات إسرائيلية حول أحقية المشروع من الناحية الدينية، لكن مجلس الحاخامات الرئيسي عاد وأعلن مشروعيته، ليتم إنشاؤه عام 1985؛ لعلاج حروق جلود الاحتلال على حساب جلود الفلسطينيين.
الاحتلال سرق أعضاء من عشرات الجثامين خلال الحرب الأخيرة على غزة
1- في نوفمبر 2023، ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، أعلنت منظمات فلسطينية وحقوقية أن الاحتلال نقل عشرات الجثامين من مستشفيات شمال القطاع إلى مواقع مجهولة. ووثّق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (Euro-Med Monitor) حالات تسليم جثث ناقصة لأهاليها، وطالب بتشكيل لجنة تحقيق دولية حول احتمال سرقة أعضاء.
أثار المرصد الأورومتوسطي مخاوف بشأن سرقة الأعضاء من الجثث، مستشهدًا بتقارير أطباء في غزة فحصوا بسرعة بعض الجثث بعد الإفراج عنها. ووجد هؤلاء الأطباء أدلة على سرقة الأعضاء، بما في ذلك فقدان القوقعة والقرنية، بالإضافة إلى أعضاء حيوية أخرى كالكبد والكلى والقلب.
2- في 26 ديسمبر/كانون الأول 2023 اتهم المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسرائيل بسرقة أعضاء من 80 جثماناً لفلسطينيين من شمالي القطاع، ودعا إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة.
3- هذه الحوادث والاتهامات تكررت طوال حرب الإبادة على غزة، ففي 25 أبريل/نيسان 2024، أعلن جهاز الدفاع المدني في غزة، عن وجود شبهات بتعرض بعض الضحايا في 3 مقابر جماعية تم اكتشافها في مستشفى "ناصر" لسرقات أعضاء، عقب انسحاب الجيش الإسرائيلي منه في 7 أبريل/نيسان.
وخلال مؤتمر صحفي عرض مدير إدارة الإمداد والتجهيز بالدفاع المدني في قطاع غزة، محمد المغير مقطع فيديو مصوراً يُظهر بعض جثث ضحايا المقابر الجماعية، حيث بدت عليهم علامات التعذيب والتكبيل بقيود بلاستيكية. وقال المغير إن طواقم الدفاع المدني بغزة "وجدت بعض الجثث مربوطة الأيدي، والبطن مفتوحاً ومخيطاً بطريق تخالف الطرق الاعتيادية لخياطة الجروح في قطاع غزة، مما يثير شبهات حول اختفاء بعض الأعضاء البشرية".
4- بعد توقف الحرب، عرض برنامج "للقصة بقية" الذي بثته الجزيرة 4 نوفمبر 2025 عرض صورًا حصرية تُظهر جثامين جديدة لفلسطينيين، أُعيدت من سلطات الاحتلال وعليها علامات خياطة دقيقة في الرأس والصدر، تدل على عمليات نزع أعضاء داخلية.
البرنامج استضاف أطباء أكدوا أن هذه العلامات لا يمكن أن تكون نتيجة إصابات حرب، بل تشريح كامل للجسد بهدف سرقة أعضاء منه. وهو ما أكده الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستة بعد اطلاعه على صورها وتحليلها، قائلاً إن هذه الجثامين التي وصلت من مناطق رفح وخان يونس كانت "مفرغة تمامًا من الأعضاء الحيوية"، واصفًا ما يجري بأنه "نهب منظم للأجساد الفلسطينية".