تشهد البشرية سباقًا محمومًا لتأمين الطاقة والمكان الكافيين لتخزين وتشغيل كمٍّ هائل من البيانات الرقمية التي يولدها الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية المتسارعة لملايين البشر يومياً حول العام. فمراكز البيانات التي تحتوي على عدد ضخم من السيرفرات – وهي البنية التحتية التي تحفظ وتدير نبض العالم الرقمي – تستهلك اليوم طاقة ضخمة تفوق ما تنتجه بعض الدول الصغيرة، وتلتهم مساحات متزايدة من الأرض، ما يجعلها أحد أبرز مصادر الانبعاثات الكربونية في الكوكب.
وفي ظل هذا التحدي الجديد، بدأت تتشكل فكرة تبدو أقرب إلى الخيال العلمي من قبل بعض الشركات، وهي نقل مراكز البيانات أو السيرفرات إلى الفضاء، حيث يرى البعض أن الفضاء، بمساحته اللامتناهية وضوء شمسه الدائم كمصدر للطاقة، يُنظر إليه كموقع مثالي لتشغيل أنظمة الحوسبة العملاقة دون الحاجة لأراضٍ جديدة أو موارد أرضية إضافية.
وبدأت شركات في أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط بالفعل باستكشاف هذه الإمكانية، طامحة إلى تحويل المدار إلى "الطابق العلوي" للبنية التحتية الرقمية العالمية. فهل يكون هذا التحول الثوري ممكناً أو سهلاً؟ وما الذي يجعل هذا المشروع محفوفاً بالمخاطر؟
مع انفجار الذكاء الاصطناعي.. ما خطورة تضخم البيانات الرقمية حول العالم؟
- تشير أحدث البيانات إلى أن مراكز البيانات أصبحت أحد أسرع القطاعات نموًا في الاقتصاد الأميركي على سبيل المثال، حيث زاد التوظيف فيها بأكثر من 60% بين عامي 2016 و2023 بحسب مكتب الإحصاء الأميركي.
- هذا التوسع الهائل لم يقتصر على حجم العمالة، بل شمل أيضًا الاستثمار في البناء والتجهيز؛ إذ قفز الإنفاق على إنشاء مراكز تخزين البيانات في الولايات المتحدة إلى 31.5 مليار دولار عام 2024 وفق تقرير لشركة Newmark، ما يعكس سباقًا بين الشركات لتلبية الطلب المتزايد على تخزين ومعالجة البيانات الناتجة عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية.
- هذا التضخم الرقمي ينعكس مباشرة على قطاع الطاقة. وفق تقرير لشركة Dell Technologies، يُتوقّع أن تستهلك مراكز البيانات نحو 12% من إجمالي الكهرباء في الولايات المتحدة بحلول عام 2028، بعدما كانت لا تتجاوز 4% في العقد الماضي. كما ذكر موقع Data Center Power Report 2025 أن الطلب الكهربائي من هذا القطاع سيرتفع بنسبة تتراوح بين 8% و12% من إجمالي استهلاك الطاقة الأميركي بحلول عام 2030، ما يضعه في موقع منافس لمصانع الصلب والكيماويات من حيث استهلاك الطاقة.
- التوسع السريع أدى أيضًا إلى ارتفاع كلفة تشغيل شبكة الكهرباء الأميركية؛ إذ كشف تقرير من IndexBox أن توسع مراكز البيانات ساهم في زيادة الإنفاق على الشبكة بنحو 9.4 مليار دولار، نتيجة الحاجة إلى تحديث البنية التحتية ونقل الكهرباء إلى مناطق تضم مشاريع ضخمة جديدة. وفي بعض الولايات مثل ميريلاند وفرجينيا، رُصدت حالات ارتفع فيها متوسط فواتير الكهرباء السكنية رغم عدم استفادة السكان مباشرة من مشاريع الحوسبة، ما أثار جدلاً حول العدالة في توزيع كلفة البنية التحتية الرقمية.
- من جانب آخر، تبرز ظاهرة التمركز الجغرافي لمراكز البيانات. فبحسب مكتب الإحصاء الأميركي، يتركّز النمو في ولايات مثل تكساس، أريزونا، ونيفادا بسبب توافر الطاقة الرخيصة والأراضي الواسعة، ما يعيد رسم خريطة الاقتصاد المحلي في تلك المناطق. هذه المراكز لا تخلق وظائف كثيرة مقارنة بحجم استثماراتها، لكنها تغيّر أولويات استخدام الأراضي والموارد المائية، خصوصًا مع حاجة المرافق الضخمة إلى التبريد المستمر على مدار الساعة.
- والتحولات الجارية جذبت أيضًا اهتمام المستثمرين العالميين؛ فقد شهد عام 2025 صفقة قياسية بلغت 40 مليار دولار بين شركات BlackRock وGIP وMGX للاستحواذ على أصول مراكز بيانات في أميركا الشمالية بهدف دعم نمو الذكاء الاصطناعي. هذا الاستثمار الضخم يعكس قناعة رأس المال العالمي بأن البنية التحتية للبيانات الرقمية أصبحت كالنفط الجديد، لكن في المقابل يُنذر بتزايد الضغط على موارد الطاقة والمناخ.
- في المحصلة، يتفق جميع الخبراء على أن العالم يدخل مرحلة "تضخم بيانات" حقيقية، تُنتج فيها الشركات والمؤسسات والأجهزة المتصلة كميات غير مسبوقة من المعلومات. وبينما تواصل شركات التكنولوجيا توسيع طاقتها التخزينية، تتصاعد المخاوف من أن البيانات قد تصبح عبئًا ماديًا على الأرض نفسها من حيث الطاقة، والمساحة، والانبعاثات.
- وتُظهر الأرقام الواردة في التقارير السابقة أن تضخم البيانات لم يعد مجرد ظاهرة تقنية، بل تحول إلى قضية بنية تحتية عالمية تمسّ الطاقة والاقتصاد والمناخ في آن واحد. فحين يستهلك قطاع واحد ما يقارب عُشر الكهرباء الوطنية، وتتجاوز استثماراته عشرات المليارات سنويًا، يصبح البحث عن بدائل جذرية أمرًا لا مفر منه. هذا الواقع هو ما يدفع بعض الشركات إلى التفكير "خارج الكوكب" حرفيًا، عبر فكرة مراكز البيانات الفضائية التي تعِد بفصل النمو الرقمي عن القيود الأرضية. فهل يمكن لهذه الفكرة أن تنجح؟
هذه الشركات تريد إرسال مراكز البيانات إلى الفضاء.. فهل تنجح بذلك؟
- يقول تقرير لشبكة CNN الأمريكية إن الطلبات على مراكز البيانات السحابية تشهد ارتفاعًا هائلًا بسبب التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي عالمياً، ووفقًا لمجموعة "غولدمان ساكس"، من المتوقع أن يزداد استهلاك الطاقة في مراكز البيانات حول العالم بنسبة 165% بحلول عام 2030. بعض هذه المراكز يستخدم مصادر طاقة متجددة، وأخرى يجري بناؤها بالقرب من منشآت توليد طاقة نظيفة. لكن حتى الطاقة الشمسية والرياح تتطلب مساحات كبيرة، تمامًا مثل البنية التحتية لمراكز البيانات نفسها.
- لهذا، بدأت بعض الجهات في التفكير بنقل مراكز البيانات إلى الفضاء، لتجاوز مشكلة ندرة مساحات الأراضي. كما أن الفضاء يتمتع بميزة الحصول على الطاقة الشمسية بشكل مستمر، من دون تأثير الغيوم أو الليل أو تغيّر الفصول.
- في أوروبا، يسعى مشروع ASCEND إلى إثبات جدوى مراكز البيانات الفضائية في تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. والعام الماضي، قادت شركة Thales Alenia Space الفرنسية دراسة بتمويل من المفوضية الأوروبية لتقييم جدوى المشروع. وخلصت الدراسة إلى أن إرسال مراكز البيانات إلى الفضاء للاستفادة من الطاقة الشمسية المستمرة يمكن أن يكون "حلًا أكثر استدامة وسياديًا لاستضافة ومعالجة البيانات"، لكن ذلك يتوقف على تطور التكنولوجيا في عدة مجالات بحسب الشركة نفسها.
- ورغم أن إجمالي انبعاثات الصواريخ ما زال يشكّل جزءًا صغيرًا من انبعاثات قطاع الطيران، فإن الصواريخ تطلق ملوثات في طبقات الجو العليا، حيث تبقى لفترة أطول.
- وقدّرَت دراسة شركة ASCEND أن مراكز البيانات الفضائية لن تصبح مجدية بيئيًا مقارنة بنظيراتها الأرضية إلا إذا تم تطوير صواريخ تطلق انبعاثات أقل بعشر مرات خلال دورة حياتها الكاملة مقارنة بالصواريخ الحالية. ولا يُعرف بعد ما إذا كان مثل هذا الصاروخ قيد التطوير حاليًا. أما شركة SpaceX الأمريكية التي يمكلها إيلون ماسك، التي أحدثت ثورة في خفض تكاليف الإطلاق عبر سلسلة صواريخها "فالكون"، فلم تُعلن عن أي خطط لتصميم صواريخ أكثر صداقة للبيئة.
- وتقول CNN، في دولة الإمارات، وتحديداً إمارة أبوظبي، تعمل شركة ناشئة تُدعى Madari Space بالتعاون مع برنامج تسريع صناعي تابع لشركة Thales Alenia Space، وهي واحدة من عدة شركات تُجري حاليًا تجارب تقنية عبر إرسال مكونات حوسبة صغيرة إلى المدار. ويقول المؤسس والرئيس التنفيذي للشركة شريف الرميثي، وهو طيار أيضًا لدى شركة الاتحاد للطيران، إن مراكز البيانات الفضائية يمكن أن تخدم فئات متنوعة من العملاء، مثل مشغلي أقمار مراقبة الأرض. فمعالجة بيانات المراقبة في الفضاء مباشرة يمكن أن تقلل زمن التأخير في تحليل النتائج، مما يسمح لهم "باتخاذ قرارات مستنيرة في الوقت المناسب".
- ويأمل الرميثي أن يتمكن لاحقًا من نشر كوكبة من أقمار البيانات في المدار. ورغم أن هذا الهدف لا يزال بعيد المنال، فإن المهمة الأولى للشركة والمقررة عام 2026 ستتضمن إرسال حمولة بحجم محمصة خبز تقريبًا -تحتوي على مكونات تخزين ومعالجة بيانات – إلى المدار على متن قمر صناعي إماراتي ضمن مبادرة "الوصول إلى الفضاء للجميع" التابعة لمكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي (UNOOSA).
هل هناك شركات أو دول نجحت في نقل مراكز بيانات رقمية إلى الفضاء؟
- بعض الدول قطعت بالفعل خطوات عملية؛ ففي مايو 2025 أطلقت الصين 12 قمرًا صناعيًا ضمن كوكبة حوسبة فضائية، وهي أول دفعة من أسطول مقترح يضم 2800 قمر لتخزين ومعالجة البيانات في الفضاء. ويرى خبراء أن ذلك يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار لبقية العالم، لإنه واقع يحدث بالفعل.
- وفي الولايات المتحدة، أعلنت شركة Lonestar Data Holdings ومقرها فلوريدا في مارس الماضي أنها اختبرت بنجاح نقل مركز بيانات صغير على سطح القمر، رغم أن النظام هبط على جانبه وتوقف عن العمل مبكرًا. أما شركة Starcloud الناشئة في ولاية واشنطن فتخطط لإطلاق قمر صناعي في نوفمبر مزود بوحدة معالجة رسوميات Nvidia H100. وأكدت الشركة في رسالة إلى شبكة CNN أن هذا القمر سيسجّل رقمًا قياسيًا لأقوى قدرة حوسبة في المدار.
- وقال الرئيس التنفيذي للشركة فيليب جونستون: "في رأيي، خلال عشر سنوات من الآن، ستُبنى معظم مراكز البيانات الجديدة في الفضاء، ببساطة لأننا نواجه قيودًا متزايدة على بناء مشاريع طاقة جديدة على الأرض". لكنه أضاف أن هناك تحديات تقنية يجب تجاوزها أولًا، مثل كيفية تبديد الحرارة في الفراغ وجعل الشرائح الإلكترونية تعمل في بيئة إشعاعية عالية.
ما التحديات والمخاطر المتوقعة لهذه الفكرة الثورية؟
- تقول CNN إن هذا القطاع لا يزال في مراحله الأولى جدًا، وما يزال الطريق طويلًا للوصول إلى مرحلة يمكن فيها إطلاق مراكز بيانات كبيرة كبديل فعلي لتلك الموجودة على الأرض. وتبقى الكلفة العامل الحاسم، إذ تعتمد تكاليف الإطلاق على وزن الحمولة.
- ووقّعت شركة Lonestar عقدًا بقيمة 120 مليون دولار مع شركة Sidus لبناء وتوفير الدعم في المدار لستة أقمار لتخزين البيانات. وتخطط لإطلاق أول قمر عام 2027 — بسعة تخزينية تبلغ 15 بيتابايت — من نقطة "لاغرانج 1" الواقعة بين الأرض والقمر على بعد 60 ألف كيلومتر من سطح القمر. وستضاعف الأقمار الخمسة التالية سعتها التخزينية في كل مرة، مع الحفاظ على نفس الوزن واستهلاك الطاقة، بحسب الشركة.
- ستُطلق هذه الأقمار على متن صواريخ "فالكون" التابعة لـ SpaceX، بحيث تشكل نحو 15% من الحمولة الكلية لكل رحلة، بتكلفة تقديرية تبلغ حوالي 10 ملايين دولار للإطلاق الواحد — مقابل سعة تخزينية تبقى محدودة مقارنة بمراكز البيانات الأرضية.
- لكن بعض الخبراء يشككون في جدوى هذه الفكرة من الناحية الاقتصادية. يقول كوينتن باركر، مدير مختبر أبحاث الفضاء في جامعة هونغ كونغ:
"عند إجراء تحليل دقيق وموضوعي لتكلفتها، لا يبدو أنها مجدية اقتصاديًا. لا تزال الحلول الأرضية أكثر فعالية وربما أرخص بكثير من محاولة وضع أي شيء في الفضاء". ويضيف باركر: "وضع مراكز البيانات في الفضاء يجلب معه مجموعة من المشكلات، مثل الإشعاع، والحطام الفضائي، وتزايد عدد الأجسام البشرية الصنع في المدار دون وجود خطة لتنظيفها." - وحذر خبراء من أن تزايد النفايات الفضائية يمكن أن يؤدي إلى حوادث تصادم تُعطّل تقنيات حيوية نعتمد عليها يوميًا على الأرض. وأشار آخرون إلى أن صيانة وإصلاح مراكز البيانات في الفضاء سيكون أمرًا بالغ الصعوبة، فضلًا عن احتمال تأثرها بـ الطقس الفضائي مثل العواصف الشمسية، أو حتى الهجمات العسكرية الإلكترونية، إذ تطور بعض الدول تقنيات مضادة للأقمار الصناعية يمكنها التشويش عليها أو تعطيلها.
- ويرى باركر أن مؤيدي فكرة مراكز البيانات الفضائية "يبالغون في تسويق مزاياها ويتجاهلون عيوبها الكبيرة". لكن بالنسبة إلى الرميثي، فإن التوجه إلى الفضاء ليس خيارًا بل ضرورة: "يستحق الأمر تجاوز هذه التحديات، لأن البديل هو الجمود التكنولوجي. سنصل إلى مرحلة نستنزف فيها مواردنا فقط لتشغيل مراكز البيانات."