منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يعيش الفلسطينيون واحدة من أكثر المراحل دموية ووحشية في التاريخ المعاصر على مرأى ومسمع من العالم. القصف المتواصل بأحدث الصواريخ٬ ونسف الأحياء بالروبوتات المتفجرة، حرب التجويع٬ الحصار الشامل، تدمير البنية التحتية المدنية، وقطع إمدادات الماء والكهرباء والوقود، جميعها حولت القطاع المكتظ بالسكان إلى مسرح كارثي لمأساة إنسانية غير مسبوقة٬ وهو ما أدى لارتفاع التحذيرات من منظمات دولية، مؤسسات حقوقية، وأكاديميين بارزين حول ارتكاب إسرائيل أفعالًا ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية٬ دون أي محاسبة.
وفي هذا السياق، جاء القرار الصادر عن الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية (IAGS)، وهي أكبر رابطة أكاديمية عالمية متخصصة في دراسة وتحليل جرائم الإبادة٬ حيث أعلنت الجمعية يوم الاثنين 1 سبتمبر/أيلول 2025، أن سياسات إسرائيل وأفعالها في غزة تستوفي التعريف القانوني للإبادة الجماعية المنصوص عليه في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948. والقرار حظي بتأييد 86% من المصوتين من بين 500 عضو، ما يعكس شبه إجماع أكاديمي داخل هذا الحقل العلمي الحساس.
جمعية العلماء: "إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة".. ما الذي يعنيه هذا القرار؟
- يعد إعلان الرابطة تطوراً مفصلياً في السجال الدولي حول ما يحدث في غزة. فبينما تكتفي بعض الحكومات الغربية بوصف الأحداث بأنها "عمليات عسكرية" أو "حق في الدفاع عن النفس"، يرفع هذا القرار النقاش إلى مستوى قانوني صارم: هل تمارس إسرائيل فعلًا سياسة إبادة جماعية بحق الفلسطينيين؟ وهذا ما أجابت عنه الجمعية الدولية بوضوح: نعم.
- قرار الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية ليس حكماً قضائياً صادراً عن محكمة، لكنه يمثل أعلى سلطة أكاديمية مستقلة في مجال دراسات الإبادة الجماعية. الرابطة تأسست عام 1994 وتضم مئات الباحثين والخبراء الذين كرسوا حياتهم لفهم أنماط العنف الجماعي وتحذير المجتمع الدولي من مخاطرها. وعندما تقرر مثل هذه الهيئة أن دولة ما تمارس "إبادة جماعية"، فإن ذلك يعني أن المعايير العلمية والقانونية قد تحققت من منظور المتخصصين٬ وهذا يتطلب من جميع الدول المؤثرة أن تتحرك لمنع الإبادة الجماعية ووقفها.
- ويدعو القرار المكون من ثلاث صفحات والذي اعتمده العلماء "إسرائيل" إلى "الوقف الفوري لجميع الأعمال التي تشكل إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك الهجمات المتعمدة ضد المدنيين وقتلهم بمن فيهم الأطفال؛ والتجويع؛ والحرمان من المساعدات الإنسانية والمياه والوقود وغيرها من المواد الأساسية لبقاء السكان؛ والعنف الجنسي والإنجابي؛ والتشريد القسري للسكان".

- تكمن الأهمية الأولى للقرار تكمن في إضفاء الشرعية الأكاديمية على اتهامات وجهتها منظمات حقوقية فلسطينية ودولية منذ الشهور الأولى للحرب لدولة الاحتلال الإسرائيلي. كما أن القرار يمنح دفعة إضافية لملفات القضايا المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل وقادتها وجيشها٬ فعلى الرغم من أن المحاكم ملزمة بالأدلة القانونية والإجرائية، إلا أن موقفًا صادرًا عن أكبر رابطة لعلماء الإبادة الجماعية قد يستخدم كمرجع أو "شهادة خبرة جماعية" في النقاشات القضائية.
- إضافة إلى ذلك، للقرار تأثير رمزي وأخلاقي كبير. فالرابطة سبق وأن أدانت عبر تاريخها إبادة رواندا (1994) وإبادة البوسنة (1995)، وكانت مواقفها تتنبأ أحيانًا بالاعتراف الدولي الرسمي لاحقًا. بالتالي، فإن وصف ما يجري في غزة الآن بأنه "إبادة جماعية" من قبل هذه المؤسسة يضع الحكومات والهيئات الدولية أمام مسؤوليات مضاعفة، ويمنح القضية الفلسطينية زخماً جديداً في ساحات القانون الدولي والرأي العام العالمي.
- ورغم أن القرار بحد ذاته لا يترتب عليه إجراءات عقابية مباشرة، إلا أنه يشكل ضغطًا أخلاقيًا وقانونيًا هائلًا على المجتمع الدولي، ويعيد تذكير العالم بالتزاماته بموجب اتفاقية 1948: منع الإبادة والمعاقبة عليها. وأظهرت تجارب رواندا والبوسنة ودارفور أن التباطؤ الدولي في الاعتراف بالجريمة يفاقم من حجمها وكلفتها الإنسانية.
ما هي معايير الإبادة الجماعية بحسب نصوص الأمم المتحدة؟
وفقاً للمادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)، تُعرف الإبادة الجماعية بأنها:
"أي فعل يُرتكب بقصد تدمير، كليًا أو جزئيًا، جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، وذلك من خلال:
(أ) قتل أعضاء الجماعة.
(ب) إلحاق أذى جسدي أو نفسي جسيم بأعضاء الجماعة.
(ج) إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا.
(د) فرض تدابير تهدف إلى منع الإنجاب داخل الجماعة.
(هـ) نقل أطفال الجماعة قسرًا إلى جماعة أخرى.
إذن، المعيار الأساسي هو القصد التدميري (Intent to Destroy)٬ حيث ليست كل المجازر أو الحروب إبادة جماعية، بل يجب أن يثبت أن الهدف من الأفعال هو القضاء على جماعة معينة، كلياً أو جزئياً٬ وهو ما ثبت أن "إسرائيل" تقوم به في غزة:
- القتل المباشر والتهديد بذلك علناً من قبل أعضاء الحكومة الإسرائيلية: قصف المنازل ونسفها، اغتيال القيادات المحلية، أو تصفية المدنيين.
- إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي: الحصار، التجويع، التهجير القسري، والإصابات الجماعية.
- ظروف معيشية مميتة: قطع الماء، الكهرباء، الدواء، التجويع٬ أو تدمير المستشفيات.
- منع الولادات: سياسات تستهدف النساء الحوامل أو تعيق الإنجاب.
- نقل الأطفال قسراً: إبعاد الأطفال عن ذويهم قسراً أو إعطاؤهم لعائلات أخرى.
وبحسب تقارير منظمات حقوق الإنسان والمقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيز٬ فإن جزءاً كبيراً من هذه الأفعال تحقق فعلياً في غزة، وهو ما دفع علماء الإبادة إلى القول بأن معايير الإبادة في غزة أصبحت مكتملة.
ومنذ وقت مبكر من الحرب٬ دعت ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المستقلة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة إن هناك أسبابا معقولة للاعتقاد بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة، ودعت الدول إلى ضمان امتثال "إسرائيل" والدول الثالثة بالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
ما هي اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية (1948)؟
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه الاتفاقية في 9 ديسمبر 1948، ودخلت حيز التنفيذ في 12 يناير 1951. وهي لم تكتفِ بالتعريف حول الإبادة الجماعية، بل أنشأت أيضاً التزاماً دولياً على كل دولة عضو لمنع الجريمة قبل وقوعها، والتدخل لوقفها حال حدوثها. وهذه الاتفاقية تتكون من 19 مادة، ويمكن تلخيص أهم نقاطها كالتالي:
- التجريم الدولي: تؤكد أن الإبادة الجماعية جريمة بموجب القانون الدولي سواء ارتُكبت في زمن السلم أو الحرب.
- التعريف (المادة الثانية): تحدد الأفعال الخمسة التي تشكل إبادة جماعية.
- المسؤولية (المادة الثالثة): تجرّم التآمر، التحريض المباشر والعلني، محاولة ارتكاب الإبادة، والمشاركة فيها.
- المحاكمة (المادة السادسة): تؤكد محاكمة مرتكبي الجريمة أمام محاكم الدولة أو محكمة جنائية دولية مختصة.
- التزامات الدول (المادة الأولى): تُلزم الدول الأطراف بمنع الجريمة ومعاقبة مرتكبيها.
- عدم سقوط الجريمة بالتقادم: لا يمكن التذرع بالحصانة أو مرور الزمن للإفلات من العقاب.
هل وقعت حروب إبادة جماعية بعد عام 1948 مشابهة لما يحصل في غزة؟
منذ اعتماد الاتفاقية، وقعت عدة جرائم إبادة جماعية معترف بها دولياً بموجب هذه الاتفاقية، أبرزها:
- كمبوديا (1975–1979): ارتكب نظام الخمير الحمر بقيادة الزعيم بول بوت إبادة جماعية أسفرت عن مقتل نحو 1.7 مليون شخص، من خلال أعمال قتل جماعي وتجويع وتعذيب.
- رواندا (1994): قُتل حوالي 800 ألف شخص من أقلية التوتسي على يد ميليشيات الهوتو خلال 100 يوم فقط، وهي من أسرع عمليات الإبادة في التاريخ.
- البوسنة (1992–1995): خلال حرب البوسنة، ارتكبت القوات الصربية مجازر ضد مسلمي البوسنة، أبرزها مجزرة سريبرينيتسا عام 1995 حيث قُتل أكثر من 8 آلاف رجل وصبي.
- دارفور (2003–2008): اتُهمت حكومة السودان وميليشيات الجنجويد بارتكاب إبادة جماعية ضد سكان دارفور، وأسفرت عن مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين.
في النهاية٬ فإن كل هذه الحالات تؤكد أن اتفاقية 1948، رغم أهميتها، لم تمنع تكرار الجريمة. لكنها وفرت المرجعية القانونية لمحاكمة مرتكبيها، كما حدث في المحاكم الخاصة برواندا ويوغوسلافيا السابقة، ثم المحكمة الجنائية الدولية لاحقًا.