منذ عقود طويلة، سعت دولة الاحتلال الإسرائيلي، ضمن استراتيجيتها الرامية إلى الانفتاح وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي، إلى تعزيز حضورها في القارة الإفريقية عبر تطوير علاقات دبلوماسية وتعاون متنوع مع عدد كبير من دول القارة السمراء. وبحسب بيانات وزارة الخارجية الإسرائيلية، ترتبط "إسرائيل" بعلاقات رسمية مع ما يزيد على 40 دولة إفريقية، في دلالة واضحة على مدى الاختراق الدبلوماسي الذي حققته تل أبيب في مختلف أرجاء القارة.
لكن من بين هذه الدول جميعاً تحتفظ تل أبيب بعلاقة خاصة ووثيقة مع أثيوبيا بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي ونمت وتطورت بشكل كبير على جميع المستويات واستندت إلى دوافع دينية، جيوسياسية وتنموية. حيث كانت الدولة الواقعة شرق القارة رافداً للهجرة اليهودية نحو دولة الاحتلال واحتفظت بعلاقات اقتصادية وعسكرية واستخباراتية وثيقة معها حتى اليوم٬ حتى تحولت إلى حجر زاوية مهم لتل أبيب في قلب منطقة القرن الأفريقي.
كيف تطورت العلاقات الإسرائيلية الإثيوبية؟
- تعود العلاقات التاريخية بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وإثيوبيا لمرحلة ما قبل قيام "الدولة"، وتحديداً في عام 1921، حيث زار فلسطين المحتلة وفد إثيوبي، والتقى بالحاخامات اليهود، وقادة الحركة الصهيونية الذين أقاموا في سنوات لاحقة، لاسيما ديفيد بن غوريون وموشيه شاريت وغولدا مائير، علاقات وثيقة مع نظرائهم في أثيوبيا، باعتبارها بوابة إسرائيل نحو القارة السمراء. وبعد قيام دولة الاحتلال٬ أنشأت تل أبيب ما عرف بـ"حلف الأطراف"، مع أثيوبيا وتركيا وإيران، لمواجهة المدّ القومي العربي خلال الخمسينات والستينات والسبعينات.
- وتعتبر بعض الأدبيات الاسرائيلية أثيوبيا جزءًا من "محيط الشرق الأوسط"، وقاعدةً محتملةً مؤيدةً لإسرائيل على شواطئ البحر الأحمر، مما جعلها أهم الدول الأفريقية في نظرها، ولذلك استثمرت فيها أكثر من أي دولة أخرى،
- مرت العلاقات الإسرائيلية الأفريقية بتصاعد كبير منذ بداية الخمسينات، حيث كان لإسرائيل علاقات دبلوماسية بدول القارة كافة، عدا الدول العربية الأفريقية، حتى حرب 1967؛ إذ أدى العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن، واحتلال أراض واسعة من هذه الدول، إلى تغيير صورة "إسرائيل"، من دولة فتية ومسالمة، لا طموحات استعمارية لديها في نظر الأفارقة، إلى دولة قوية عدوانية وتوسعية. هكذا، شكلت حرب 1967 بداية مراجعة لدى بعض الدول الأفريقية، وبداية مسار لقطع العلاقات شمل آنذاك أربع دول فقط هي: غينيا، وأوغندا، وتشاد، والكونغو.
- وفي الخمسينيات، سعت إسرائيل لعلاقات مع دول إفريقية غير عربية مثل إثيوبيا لموازنة النفوذ القومي العربي. قدمت تعاونا أمنياً، بما في ذلك مساعدات عسكرية وتنموية، ودعماً غير مباشر لليهود الإثيوبيين – بيتا إسرائيل – عبر برامج تدريب مهني وخدمات إنسانية بإشراف الوكالة اليهودية ومنظمة ORT التي أسست مدارس وخدمات طبية لهم.
- خلال أوائل الستينيات، ازدهرت شراكة عسكرية واستخباراتية عميقة٬ وتعمقت علاقات جهاز الموساد مع جهاز الأمن الإثيوبي في أديس أبابا؛ كما تلقّت وحدات إثيوبية تدريبات في إسرائيل؛ ويُقال إن مستشارين إسرائيليين شاركوا في عمليات مكافحة التمرد خلال الحروب الأهلية في إثيوبيا وحتى معارك مباشرة.
- بعد 1973، قطعت إثيوبيا علاقاتها الرسمية مع إسرائيل، متحالفة مع المعسكر الاشتراكي. ومع ذلك، استمر التعاون العسكري بشكل سري عبر نظام "الدرغ" – حيث وفّرت إسرائيل قطع غيار، أسلحة، ومستشارين، ودعماً تدريبياً مقابل تسهيلات لتنفيذ "عملية موسى" التي جلبت آلاف اليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل.
- وفي عام 1989، أعيدت العلاقات الدبلوماسية رسمياً بين أديس أبابا وتل أبيب، واكتملت بافتتاح السفارات عام 1992. ومنذ ذلك الحين٬ تعتبر أثيوبيا من وجهة النظر الاسرائيلية دولة محورية مهمة، نظرًا لموقعها في منطقة القرن الأفريقي، ومُحاطة بدول عربية وإسلامية، ولذلك احتلّت في تخطيطها الاستراتيجي مكانة مرموقة خلال السنوات الأخيرة، وتعزّز ذلك بالزيارات الدورية إليها، العلنية والسرّية٬ وعقد العديد من الاتفاقيات٬ كان آخرها الاتفاقية "الإثيوبية -الإسرائيلية" الشاملة، المُوقعة في 4 فبراير/شباط 2025، والتي نصت على تطوير مشاريع كبرى متبادلة في مجالات المياه، والطاقة، والابتكار والتكنولوجيا.

كيف تفكر "إسرائيل" استراتيجياً في إثيوبيا؟
- من وجهة نظر "إسرائيل"، يُلبي تعزيز العلاقات مع أثيوبيا عدداً من مصالحها الحيوية الاستراتيجية وعلى عدة مستويات ومجالات٬ ففي المجال الاقتصادي٬ يتم زيادة الصادرات العامة والتبادل التجاري، وتأمين ممرات الشحن من خلال البحر الأحمر٬ وتحويل الدولة الإفريقية إلى سلة غذاء زراعية احتياطية لإسرائيل.
- أما عسكرياً٬ تعزز "إسرائيل" مبيعات الأسلحة لأديس أبابا، وتقوم بتدريب قواتها المسلحة، وإمدادها بالخبرات القتالية٬ وتُعدّ تل أبيب من أهم موردي الأسلحة لإثيوبيا، ودعمتها خلال حروبها العديدة في القارة.
- في الجانب الأمني٬ تعزز "إسرائيل" حضورها٬ عبر الحصول على موطئ قدم إضافي حول البحر الأحمر ومضيق باب المندب، والحد من نفوذ إيران المتزايد في القارة الأفريقية، وكذلك لمواجهة الحوثيين وحصارهم في المنطقة٬ مما سيحدث تغييراً في التوازن الاستراتيجي في المنطقة على المدى البعيد لصالح دولة الاحتلال.
- سياسياً من خلال الحصول على دعمها التصويتي في مؤسسات الأمم المتحدة، وسحبها وجاراتها من دائرة دعم القضية الفلسطينية إلى الانحياز لإسرائيل، وتقويض جهود الفلسطينيين في المحافل الدولية.
- استراتيجياً٬ من خلال حالة التماهي والانسجام في أصدقائها وأعدائها، وتركيز الأنظار نحو الجماعات الإسلامية كعدو مشترك، بل إن "إسرائيل" حاولت توحيد كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان وتنزانيا كتحالف ضد هذه الجماعات بزعم أنها تُهدّدهم بشكل مباشر.
ما مجالات التعاون والقطاعات التي تنشط بها "إسرائيل" في إثيوبيا؟
- بعد عام 2000 تصاعدت الاستثمارات الإسرائيلية في إثيوبيا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين ملايين الدولارات سنوياً، وفي العقد الأخير، توسع التعاون ليشمل مجالات السلاح والطاقة والمياه والابتكار والزراعة والتكنولوجيا والأمن وغيرها، حيث وقّع الطرفان اتفاقيات متعددة خلال العقدين الأخيرين لتطوير هذه المجالات، مما يعكس تطور العلاقات إلى شراكة استراتيجية متنامية ذات أبعاد سياسية واقتصادية تؤثر على المشهد الإقليمي في القرن الإفريقي.
- الاستثمار في الزراعة كان الأساس بالنسبة لإسرائيل في إثيوبيا؛ لما تتمتع به الدولة الإثيوبية من أراضي خصبة صالحة للزراعة، ووفرة في المياه، وتقوم تل أبيب باستيراد المنتجات الزراعية التي تحتاجها من إثيوبيا، فضلاً عن الاستفادة غير مباشرة من مياه نهر النيل؛ وذلك لتعويض ندرة المياه التي تعاني منها دولة الاحتلال.
- وإذا ما استعرضنا النشاط الإسرائيلي في القطاع الزراعي في إثيوبيا، نجد أن دولة الاحتلال ومنذ وقت مبكر دأبت على إقامة مستعمرات زراعية في إثيوبيا تحت إشراف خبرائها٬ في ضوء الخبرة التي تتميز فيها دولة الاحتلال في هذا المجال، وتمتلك "إسرائيل" شركة "أنكودا" في اثيوبيا التي تمتلك أراضي بمساحة تزيد عن 50 ألف هكتار٬ وتقيم فيها عدة مشاريع مثل زراعة القطن والحبوب والمحاصيل الزراعية الأخرى وتربية المواشي والأبقار، وتروي الشركة هذه الأراضي من نهر "القاش" على حدود السودان.
- كما منحت إثيوبيا خلال العقدين الأخيرين شركات زراعية إسرائيلية أخرى عشرات آلاف الهكتارات قرب مدينة "أسمرة" وذلك لزراعة المحاصيل والخضروات٬ مثل شركة "أتاجن" الإسرائيلية، كما كانت إسرائيل تقوم باستئجار الأراضي الزراعية التابعة للدولة، على أن تقوم الشركات الإسرائيلية بتأمين المعدات الزراعية والأسمدة والمبيدات من "إسرائيل".
- وعبّر بنيامين نتنياهو خلال زيارته لإثيوبيا عام 2016 عن أهمية تعزيز التعاون الإسرائيلي مع شرق إفريقيا بوجه عام ومع إثيوبيا بوجه خاص في مختلف المجالات بما في ذلك قطاعات الطاقة والبنية التحتية والصحة، مما أسفر عن انعقاد منتدى الأعمال الإسرائيلي الإثيوبي في أديس أبابا عام 2018، والذي ركز على دعم التواصل بين القطاعين العام والخاص بين الطرفين في مجالات واسعة٬ وركزت دولة الاحتلال على تعزيز نفوذها في القارة الإفريقية، وتعزيز التعاون الثنائي في المجالات الأمنية والتكنولوجية.
- وبجانب العلاقات التجارية والاقتصادية بين تل أبيب وأديس أبابا، فإن الملف الأمني والعسكري يحوز على وزن كبير في تعزيزها، وأعلن جهاز المخابرات والأمن الوطني الإثيوبي عن توقيع اتفاقية ثنائية مع إسرائيل للتعاون الأمني الاستخباري في فبراير 2025، بما فيها "مكافحة الإرهاب" وتبادل المعلومات، خاصة في منطقة القرن الأفريقي، فيما تسعى الصناعات العسكرية الإسرائيلية لوضع إثيوبيا ضمن دائرة اهتماماتها لتوريد الأسلحة إليها، لاسيما وأنها تسعى لتحقيق نوع من التوازن أمام مصر التي تخوض معها بعض التوترات من حين لآخر حول سدّ النهضة، في ظل تأخرها كثيرًا عنها في موازين القوى العسكرية، مما قد يجعلها تجد ضالتها في "إسرائيل".
ما حكاية يهود إثيوبيا وكيف وصلوا إلى "إسرائيل"؟
- بذلت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة جهودًا مكثفة خلال سبعينيات القرن الماضي ومطلع الثمانينيات لتهجير الجالية اليهودية الإثيوبية (الفلاشا) إلى إسرائيل، وذلك عبر شبكة معقدة من الاتصالات السياسية المباشرة وغير المباشرة مع السودان بشكل خاص، أثناء حكم جعفر النميري. وقام مناحم بيغين رئيس حكومة الاحتلال السابق بتجنيد خدمات الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لتذليل الصعاب أمام تحقيق هذه الغاية.
- وعلى إثر ذلك تم نقل بضعة آلاف من الفلاشا إلى كينيا ومنها إلى "إسرائيل" في مطلع الثمانينيات. وأثناء عملية النقل هذه تم تجهيز قرية خاصة على الساحل السوداني لتجميع المهاجرين الفلاشا استعدادا لنقلهم إلى "إسرائيل". وشاركت سفن سلاح البحرية الإسرائيلي في هذه الحملة، حيث تم نقل زهاء ألفين من الفلاشا في عام 1981 إلى دولة الاحتلال.
- وقويت موجة الهجرة من إثيوبيا إلى السودان ومنه إلى دولة الاحتلال، حيث بلغ عدد الفلاشا المقيمين في القرية المشار إليها أعلاه زهاء عشرة آلاف متأهبين للسفر على "إسرائيل". وفي نهاية عام 1984 نظمت الحكومة الإسرائيلية بالتعاون والتنسيق مع الوكالة اليهودية "حملة موشي" (موسى) نقلت بواسطة طائرات خاصة قرابة سبعة آلاف من الفلاشا من مطار الخرطوم إلى مطارات في أوروبا ومنها إلى إسرائيل. ولما كشفت وسائل الإعلام العالمية عن هذه الحملة وعن ضلوع الرئيس السوداني فيها، أصدر النميري أمرا بتوقيفها، ولكن تدخل البيت الأبيض بشخص الرئيس الأمريكي وكبار موظفيه سمحت حكومة السودان لطائرات هيركوليس الأمريكية بنقل الموجة الأخيرة من اليهود الفلاشا من السودان إلى إسرائيل.

- واستمرت عمليات جذب اليهود الفلاشا من إثيوبيا للهجرة إلى دولة الاحتلال حيث وصل ذروتها في الثمانينيات زهاء 16 ألف إثيوبي، وخلال التسعينات الرقم ذاته. رغم أنهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة. حيث يتعرض الفلاشا إلى سياسات تمييزية ضدهم في إسرائيل، خاصة من قبل المؤسسة الدينية اليهودية التي وضعت شروطًا لتعريفهم كيهود، إذ أنها تطالبهم باجتياز سلسلة من الطقوس الدينية غير المألوفة لديهم، ليصبحوا يهودًا حقيقيين.
- وأُثيرت في الآونة الأخيرة عدة قضايا مسّت بكرامة ومكانة الفلاشا، أبرزها تصريحات بعض الأوساط الدينية الاسرائيلية بمنع الفلاشا من التبرع بالدم لكونه نجسا وغير طاهر. وواجه الفلاشا عقبات في تأقلمهم في المجتمع الإسرائيلي بسبب الفجوات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمهنية بينهم وبين المجتمع الإسرائيلي. أضف إلى ذلك صعوبة تأهيلهم للاندماج في المجتمع الاسرائيلي، وأيضا لكونهم يُفضلون العيش في أطر خاصة بهم.
- وأحدثت هجرة الفلاشا ضجة عالمية، إذ نشرت وسائل الإعلام تقارير تفيد أن مجموعات كبيرة منهم ليسوا يهودا إنما مسيحيين ومسلمين، فضلوا الهجرة إلى دولة الاحتلال، لتحسين ظروف معيشتهم وضمان حياتهم ومستقبلهم، إلا أن الحكومة الإسرائيلية تجاوزت هذه التقارير واعتبرتهم مواطنين وإن كانت تعاملهم بتمييز شديد، وذلك بهدف زيادة عدد اليهود في إسرائيل، لكون دولة الاحتلال تعاني دوما من أزمة وعقدة الديموغرافيا، مقارنة مع التزايد السكاني الطبيعي للعرب في فلسطين التاريخية.
- ومن حين لآخر، تتفجر احتجاجات واسعة داخل إسرائيل من قبل يهود الفلاشا، احتجاجهم على تهميشهم واستسهال قتل أفراد منهم من قبل الشرطة الإسرائيلية. ويبلغ عدد اليهود من أصول إثيوبية في إسرائيل اليوم 135 ألف شخص، بينهم أكثر من 20 ألفاً ولدوا في دولة الاحتلال، يعيشون في أحياء فقيرة ومهملة، ومدن صفيح على أطراف المدن القائمة، كما هو الحال في مدينتي الخضيرة والعفولة.
- ويواجه الإثيوبيون في إسرائيل واقعاً صعباً في مجالات السكن، والتعليم، والعمل، والدين، والهوية؛ ونمطاً جديداً من العيش في مجتمع يعاملهم بعنصرية، ويُشكِّك في يهوديتهم؛ فقد شكَّل اللون والمظهر أساساً اعتمَدَه العديدُ من يهود إسرائيل في معاملتهم؛ ما شكَّل أهمَّ مشاكل اندماجهم في المجتمع الإسرائيلي، بالإضافة إلى سياسة استيعابهم من قبل الحكومة؛ حيث تم الاستيعاب على أساس جماعي؛ ما أدى إلى تبعيتهم للمؤسسات الرسمية، وحرمانهم فرصة التكيُّف مع المجتمع الإسرائيلي؛ خلافًا لسياسة استيعاب اليهود الروس على سبيل المثال.
"سد النهضة" وحسابات "إسرائيل" الدقيقة في إثيوبيا
- يمثل سد النهضة الإثيوبي واحدًا من أعقد ملفات النزاع في القارة الأفريقية، إذ يتقاطع فيه البعد المائي مع السياسي والأمني. وبينما تحتدم الخلافات بين القاهرة وأديس أبابا حول حقوق استخدام مياه النيل، وتقدم إسرائيل نفسها كطرف غير مباشر في الأزمة، بحكم علاقاتها الوثيقة مع الطرفين ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
- في عام 2019، وبعد تقارير عن نشرها منظومة دفاع جوي لحماية السد، خرجت سفارة إسرائيل في القاهرة لتنفي الأمر بشكل قاطع، في خطوة هدفت إلى تهدئة الغضب المصري. كما جدّدت إسرائيل في أكثر من مناسبة التزامها بعدم المساس بالمصالح الحيوية لمصر، التي تمثل أول دولة عربية وقّعت معها معاهدة سلام، وشريكًا محوريًا في ملفات الطاقة والأمن.
- لكن هذا الحياد لم يمنع إثارة الشكوك في القاهرة. كثير من الأصوات المصرية رأت أن لإسرائيل مصلحة في تقوية نفوذها داخل إثيوبيا، سواء عبر التعاون التقني أو السياسي، وهو ما اعتُبر تهديدًا غير مباشر للأمن المائي المصري. هذه المخاوف تغذيها أيضًا خلفية تاريخية، إذ لطالما ارتبطت استراتيجية إسرائيل بأهمية النفوذ في منابع النيل، منذ خطط قديمة تعود إلى منتصف القرن الماضي.
- من جانب آخر، ينظر بعض الخبراء الإسرائيليين إلى سد النهضة باعتباره مشروعًا قد يحمل فوائد إقليمية، مثل تنظيم تدفق مياه النيل وتقليل مخاطر الفيضانات والجفاف. غير أن هذا الطرح يظل نظريًا في ظل الهواجس المصرية العميقة بشأن تأثير السد على حصتها المائية.
- ورغم الانحياز الإسرائيلي لأثيوبيا على حساب مصر، التي تشهد علاقاتها معها تراجعاً ملحوظًا منذ اندلاع العدوان الدموي على غزة، والخشية من مخطّط إسرائيلي لتهجير مئات آلاف الفلسطينيين لسيناء، وإمكانية محاصرتها جنوبًا عبر إثيوبيا وجنوب السودان.
- ويعتقد خبراء ومراكز أبحاث الاتفاقية الإثيوبية الإسرائيلية الشاملة التي تم توقيعها قبل عدة أشهر٬ هي جزء من مخطط أوسع لمحاصرة مصر مائياً وسياسيًا، حيث تعزز القدرات الإثيوبية في إدارة المياه والطاقة، مما يقلل من قدرة مصر على فرض شروطها في مفاوضات سد النهضة. ويأتي هذا التعاون ضمن رؤية أمريكية-إسرائيلية لتمكين أديس أبابا كفاعل إقليمي قوي في إفريقيا، في مقابل تحجيم الدور المصري. وقد تمكنت إثيوبيا من تقديم نفسها للولايات المتحدة كحليف استراتيجي في القرن الإفريقي، مستغلة التباينات بين مصر وواشنطن، حيث تعمل الأخيرة على إعادة تشكيل النفوذ في القارة الإفريقية عبر دعم قوى مثل إثيوبيا و"إسرائيل"، وهو ما يعزز موقف أديس أبابا في مواجهة الضغوط الخارجية.