النرويج، تلك الدولة الغنية الواقعة في أقصى شمال أوروبا، صاحبة أكبر صندوق سيادي في العالم يقترب حجمه من تريليوني دولار، قررت مؤخراً سحب استثماراتها من الشركات الإسرائيلية المتورطة في تكريس احتلال الضفة الغربية أو في حرب غزة. خطوة بدت لافتة في توقيتها ودلالاتها، وأثارت سؤالاً محورياً: لماذا تُقدم دولة مستقرة وبعيدة جغرافياً على مواجهة واحدة من أكثر القضايا تفجراً في السياسة العالمية؟
هل حقاً – كما تقول أوسلو – إن بوصلة سياستها الخارجية هي "حقوق الإنسان" والأخلاق؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف يُفسر أن النرويج نفسها عُرفت لعقود بأنها من أقرب حلفاء إسرائيل، حتى لُقبت بـ "الوسيط الموثوق" الذي وفر لها غطاءً سياسياً في أشد مراحل تمددها الاستعماري؟
كيف إذن انتقلت من موقع الصديق الوفي لتل أبيب، إلى موقع أحد أكثر المنتقدين الأوروبيين لها بعد حرب الإبادة في غزة؟
الدعم النرويجي التاريخي للمشروع الصهيوني وإسرائيل
قبل قيام الاحتلال، وقفت النرويج في صفّ المشروع الصهيوني. ففي عام 1947 صوّتت لصالح قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، لتكون بذلك شريكاً مبكراً في منح الشرعية الدولية لقيام الكيان، وما لبثت أن تحولت بعد عام 1948 إلى واحد من أقرب أصدقائه في أوروبا.
لعب النرويجي تريغفه لي، أول أمين عام للأمم المتحدة، والذي شغل أيضاً مناصب وزارية في حكومات بلاده، دوراً مفصلياً في دعم تأسيس إسرائيل. إذ لم يكن مجرد مسؤول أممي؛ بل كان متحمساً للصهيونية إلى حد اعتباره مشروع الاحتلال الإسرائيلي "طفله الخاص" وأعظم إنجاز له كأمين عام.
خلال مناقشات الأمم المتحدة عام 1947، عقد لي اجتماعات سرية يومية في منزله مع ممثلي الوكالة اليهودية، وزودهم بمعلومات عسكرية ودبلوماسية حساسة دعماً لجهودهم. وقد أثار التزامه الصارم بخطة التقسيم التي أوصت بها لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (UNSCOP) و"حل الدولتين" استياء كتلة الشرق الأوسط والاتحاد السوفيتي آنذاك، لكنه لم يتراجع. وبفضل دعمه، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة خطة التقسيم في نوفمبر/تشرين الثاني 1947.

حتى بعد إعلان قيام دولة الاحتلال، واصل لي الضغط من أجل اعتراف الأمم المتحدة به، إلى درجة أن القادة الصهاينة أطلقوا عليه لقب "عرّاب إسرائيل". ولم يقلّل اغتيال الصهاينة لمبعوث الأمم المتحدة فولك برنادوت من انحيازه؛ إذ نصح قادة الاحتلال أن يتخذوا موقفاً متعنتاً في المفاوضات مع برنادوت لضمان مصالحهم. وحتى بعد استقالته من منصبه في نوفمبر/تشرين الثاني 1952، ظلّ لي مهتماً برفاهية الاحتلال الإسرائيلي وواصل دعمه له.
في عام 1948، لم تعد العلاقة بالنسبة إلى النرويج مجرد صداقة عادية تربطها بدولة أخرى؛ بل تحولت إلى انبهار واسع، غذّاه حزب العمال الحاكم الذي تخلّى تدريجياً عن شكوكه الأولى، ليصل إعجابه بالمشروع الصهيوني حدّاً أشبه بالتبجيل.
توضح المؤرخة النرويجية هيلدا هنريكسن فاغه في دراسة أعدتها عام 2002 بتكليف من وزارة الخارجية بعنوان: "النرويجيون؟ من يحتاج إلى النرويجيين؟ تفسير قناة أوسلو الخلفية: الماضي السياسي للنرويج في الشرق الأوسط"، أنّ مشاعر التعاطف مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين اجتاحت مختلف أطياف السياسة والمجتمع النرويجي بعد الحرب العالمية الثانية. وترى أنّ هذا الميل يمكن تفسيره بثلاثة عوامل رئيسية متشابكة:
- الشعور بالذنب الجماعي إزاء الهولوكوست: خلال الاحتلال النازي، تعاونت شرطة رئيس الوزراء النرويجي العميل فيدكون كفيشلينغ مع قوات الاحتلال الألمانية في اعتقال مئات اليهود النرويجيين الذين قُتل معظمهم لاحقاً. بالإضافة إلى ذلك، اعتُقل العديد من الشخصيات القيادية في حزب العمال النرويجي، ومن بينهم رئيس الوزراء إينار غيرهاردسن ووزير الخارجية هالفارد لانغ، في معسكرات اعتقال مع اليهود. كل هذا أدى إلى مشاعر تعاطف واسعة النطاق مع الاحتلال. وبعد انتهاء الحرب العالمية، ساور النرويجيين خزيٌ لفشلهم في حماية مواطنيهم اليهود، فرأوا في دعم إقامة دولة يهودية على حساب الفلسطينيين تكفيراً عن تلك الخطايا للرجل الأوروبي الأبيض.
- الجذور الدينية المسيحية البروتستانتية: كانت النرويج بلداً يتمتع فيه الدين، المتجذر في المسيحية المحافظة، بمكانة راسخة. وكون النرويج لديها كنيسة رسمية – الكنيسة الإنجيلية اللوثرية – يعني أن تعليم المسيحية كان له أيضاً مكانة راسخة، سواء في نظام المدارس الحكومية أو في تربية الأجيال الجديدة بشكل عام، في تدريس المسيحية الإلزامي في المدارس، وكانت خرائط عن أساطير "أرض اليهود" تُعلَّق في الصفوف. لذا نشأ تعاطف ثقافي وديني مبكر مع الأوهام الدينية عن عودة اليهود لأرض الميعاد، ورأى كثيرون إقامة إسرائيل تحقيقاً لأساطير توراتية.
- الإعجاب الاشتراكي-العمالي بإسرائيل: وجد قادة حزب العمال النرويجي الحاكم وجناحه النقابي آنذاك صورةً مثالية في المشروع الصهيوني. فرئيس الوزراء إينار غيرهاردسن ورفاقه، الذين خرجوا من تجربة المقاومة النازية والسجن، رأوا في الاحتلال الصهيوني لفلسطين مجتمعاً اشتراكياً فاضلاً قيد البناء، كما بدت مستوطنات الكيبوتس والموشاف تجسيداً لمثاليات التعاونيات الزراعية التي يؤمن بها اليسار النرويجي. كل ذلك عزز الانبهار باحتلال الصهاينة لفلسطين عند النرويجيين.
وقد أشارت هيلدا في دراستها إلى أنّ هذه العوامل مجتمعةً تحوّلت، مع نهاية الأربعينيات، إلى سياسة نرويجية منحازة بوضوح للاحتلال. فباستثناء بعض التحفظات المحدودة في وزارة الخارجية، لم تُبدِ النخبة الحاكمة أي جهد لفهم تعقيدات قضية فلسطين أو الاعتراف بوجود طرف آخر له حقوق (الشعب الفلسطيني)، وكانت الرغبة في عدم التعبير عن دعمهم لإسرائيل بشكل علني تأتي فقط ضمن كيفية إدارة سمعة النرويج وحماية سياستها الخارجية وفق القانون الدولي.
رغم ذلك، اندفعت لدعم إسرائيل بكل السبل: ففي عام 1949 أطلق حزب العمال حملة تبرعات شعبية لإقامة مستوطنة تحمل اسم "قرية النرويج" في إسرائيل. وبالفعل أُنشئت المستعمرة المسماة "موشاف يانوڤ" على أراضٍ فلسطينية بتمويل نرويجي. كما اعترفت النرويج بإسرائيل دبلوماسياً وقانونياً مبكراً (يناير/كانون الثاني 1949)، وكانت بين الدول التي أيدت قبولها عضواً بالأمم المتحدة.
في المقابل، لم تُبدِ النرويج أي تعاطف مع الفلسطينيين الذين أبادتهم وهجّرتهم إسرائيل إبّان النكبة.
بل وتبنّت أوسلو الرواية الصهيونية بأن مسؤولية تهجيرهم تقع على العرب أنفسهم، ودعت إلى توطينهم في الدول العربية المجاورة. وعندما استبدّ اليأس بالأمم المتحدة، وتوسلت للحصول على مساعدة إنسانية، لم ترَ النرويج بالكاد أنّ هناك شعباً فلسطينياً طُرد من أرضه، بل وجدت في مأساتهم فرصة للتخلص من فائض مخزونها من السمك، مستغلةً الأزمة لتخفيف أعباء صناعتها المحلية والحفاظ على عملتها الصعبة المخصّصة لإعادة الإعمار.
غير أنّ هذه "المساعدات" لم تكن سوى فضيحة أخرى: فاللاجئون رفضوا السمك لرداءته وانخفاض قيمته الغذائية، وتبيّن أن بعضه كان فاسداً. وبرغم شكاوى الأمم المتحدة والصليب الأحمر، واصلت أوسلو إرسال السفن المحمّلة بالسمك طوال سنوات، متجاهلة الحاجات الحقيقية للاجئين الفلسطينيين. والمفارقة الصارخة أنّ الحكومة التي منعت تصدير مواد بناء إلى مخيمات الفلسطينيين، كانت في الوقت ذاته ترسل الأخشاب لدعم مشروع "كيبوتس النرويج" في الأراضي المحتلة. بالإضافة إلى ذلك، ذهبت النرويج إلى حدّ مساعدة الصهاينة في تفريغ يهود بلدان عربية: خلال أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، حيث شاركت منظمات نرويجية في نقل اليهود من شمال أفريقيا سراً إلى الأراضي المحتلة.

دعم النرويج للسلاح النووي الإسرائيلي
ولم يقتصر الدعم النرويجي على البعد الدبلوماسي والشعبي؛ بل شمل أيضاً التعاون التقني والعسكري. فقد وافقت حكومة النرويج عام 1959 على بيع إسرائيل 20 طناً من الماء الثقيل من فائض برنامجها النووي الناشئ.
استخدمت إسرائيل هذه المادة الحساسة لتشغيل مفاعل ديمونة النووي (الذي بنت أجزاءه فرنسا) في سعيها لامتلاك سلاح نووي. تمّت الصفقة رغم اعتراض بعض دبلوماسيي النرويج الذين حذّروا من أنها قد تُقوّض جهود عدم الانتشار النووي الأميركية، وتُحرج دور النرويج كوسيط في الشرق الأوسط. وبالفعل، لم يتم إعلام البرلمان النرويجي بها إلا بعد إتمامها بسرية. لاحقاً، حين انكشف في الثمانينيات أن إسرائيل ربما حوّلت الماء الثقيل لأغراض تسلحية، اندلع خلاف دبلوماسي حاد بين البلدين. اضطرت النرويج إلى الاعتراف بأنها أخفقت في مراقبة استخدام إسرائيل للمادة رغم احتفاظها رسمياً بحق التفتيش.
اتفاقية أوسلو
وحتى عندما بدأت النخبة النرويجية باستخدام لغة جديدة تعترف بوجود "الفلسطينيين"، لم ينعكس ذلك في السياسات، إذ ظلّت أوسلو تنحاز لتل أبيب في المحافل الدولية وتتصدى لأي مكاسب للفلسطينيين، كما فعلت عام 1974 برفض منح منظمة التحرير صفة المراقب في الأمم المتحدة.
ومع دخولها على خط "عملية السلام" في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، لعبت النرويج دور الوسيط غير المحايد في اتفاق أوسلو، حيث ضغطت على الفلسطينيين لتقديم التنازلات. إذ بيّنت المؤرخة النرويجية هيلدا في تقييمها المفصل والشامل لدور النرويج، توضح المؤرخة النرويجية هيلدا هنريكسن فاغه أنه بخلاف جهود النرويج لإقناع الفلسطينيين بقبول مطالب إسرائيل، "ليس ثمة دليل يشير إلى المحاولات النرويجية لإقناع الإسرائيليين برؤية وجهة النظر الفلسطينية، أو تقديم النصح لمفاوضي منظمة التحرير عن المسائل التي يمكن للإسرائيليين أن يُبدوا فيها بعض المرونة، أو ما هي المقترحات المقابلة التي قد تكون مثمرة"، في المقابل، قدمت النرويج المشورة للإسرائيليين حول كيفية تحصيل المزيد من المكاسب.

ولم يتغير جوهر الانحياز بعد اتفاقية أوسلو، ففي العقود التي تلت الاتفاق، تكرّس هذا التواطؤ عبر بيع السلاح بطرق ملتوية للاحتلال الإسرائيلي، والقيام بدور "المفتش" على المناهج الفلسطينية خلال دعمها لـ "الأونروا". فعلى مدار الأعوام الماضية، شاركت في جهود مراجعة المناهج الدراسية الفلسطينية بحجة رصد محتوى "معادٍ للصهيونية" أو "محرض على العنف"، وضغطت لتعديلها كشرط للتمويل، بينما تجاهلت مناهج الكراهية والعنصرية في إسرائيل التي تمتلئ بالتحريض القومي المتطرف ضد العرب والفلسطينيين، واكتفت بخطوات شكلية كتوسيم منتجات المستوطنات بدل حظرها. والنتيجة أن النرويج – برغم خطابها الأخلاقي – ظلّت لعقود طويلة تساهم في ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي أكثر مما تدعم حقوق الفلسطينيين.
بقيت السياسة الرسمية النرويجية ملتزمة بحل الدولتين ورعاية عملية السلام وفق الرؤية الأميركية. فقد دافعت أوسلو دوماً عن مقولة إن حل الدولتين لا يتحقق إلا عبر المفاوضات المباشرة بين الطرفين، رافضةً أي خطوات "أحادية" كاعتراف منفرد بدولة فلسطين.
لهذا امتنعت النرويج طويلاً عن الاعتراف بدولة فلسطين، مشترطةً أن يأتي الاعتراف ثمرة اتفاق نهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن تراكم الإحباط من تعنت الحكومات الإسرائيلية – خاصة في عهد بنيامين نتنياهو – وتدهور الأوضاع الميدانية، أخذ يُحدث تحولاً تدريجياً في هذا الموقف خلال السنوات الأخيرة.
النرويج تراجع نفسها!
أما على المستوى الشعبي والمدني، فقد شهدت النرويج نمواً مطّرداً في التعاطف مع الفلسطينيين وقضيتهم منذ مطلع الألفية الجديدة. لعبت منظمات المجتمع المدني والنقابات والأحزاب اليسارية دوراً في إبراز معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال. على سبيل المثال، قادت حركة المقاطعة (BDS) دعوات لمقاطعة البضائع الإسرائيلية، وإن بقيت استجابة الحكومة محدودة.
فبعد عدوان "الرصاص المصبوب" على غزة عام 2009، تقدّم محامون نرويجيون بدعاوى ضد قادة الاحتلال، وطالبوا بسحب جائزة نوبل للسلام من شمعون بيريز.
وفي العام التالي، وصفت الحكومة الوجود الإسرائيلي في القدس الشرقية بأنه انتهاك للقانون الدولي، وطالبت بتحقيق دولي بعد مجزرة سفينة "مرمرة"، وفي العام نفسه منعت غواصتين إسرائيليتين من دخول مياهها.
أما في عام 2011، فتلقى السفير الإسرائيلي في أوسلو إخطاراً من الحكومة النرويجية بضرورة نقل السفارة الإسرائيلية إلى ضواحي المدينة بعد انزعاج السكان من وجودها بجانبهم. فيما دعا أساتذة الجامعات إلى مقاطعة الاحتلال، ومُنع الأكاديمي الأميركي آلان ديرشوفيتز من إلقاء محاضرات بسبب دعمه الصريح لإسرائيل.
في سبتمبر/أيلول 2023، قامت وزيرة الخارجية النرويجية أنيكين هويتفيلدت بزيارة إلى فلسطين، ووصفت بأنه "مأساوي" أن الدولة الفلسطينية لم ترَ النور بعد، مشيرة إلى أن الإحباط بين الفلسطينيين يتفاقم مع استمرار الاحتلال وتوسّع الاستيطان وسياسات الحكومات الإسرائيلية المتشددة.
من الحليف الأقرب إلى المنتقد الأشد في أوروبا
لكن التحوّل الأكبر جاء مع اندلاع حرب الإبادة على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومع بلوغ جرائم الاحتلال مستوى غير مسبوق، تخطّت كل الخطوط الحمراء ونسفت قواعد الاشتباك التي أرستها الأمم المتحدة منذ تأسيسها، استعادت القضية الفلسطينية زخماً عالمياً غير مسبوق. فقد خرجت مظاهرات حاشدة في العواصم الأوروبية واللاتينية والأميركية، فيما قادت دول الجنوب تحركات قانونية ودبلوماسية أثمرت عن قرارات تاريخية في محكمة العدل الدولية والجمعية العامة، شددت جميعها على ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة وحماية شعبها الصامد.

وفي خضم هذا التحوّل الدولي، كانت النرويج من أوائل الدول التي كسرت الخط الأوروبي الداعم لإسرائيل. فقد وصف وزير خارجيتها إسبن بارث إيدي ما يجري في غزة بأنه "جحيم على الأرض"، وقارن بين الاحتلال وروسيا، محذّراً من أن أوروبا تفقد مصداقيتها حين تدين موسكو وتتجاهل جرائم تل أبيب.
بل وطلبت الحكومة النرويجية من الملك هارالد الخامس العدول عن رسالة تعزية كان يعتزم إرسالها للاحتلال بعد عملية طوفان الأقصى، وهو ما أثار غضب تل أبيب واعتبرته مؤشراً جديداً على ما تصفه بـ "تصاعد العداء لليهود" في النرويج.
وفي القاهرة، كان إيدي الوزير الغربي الوحيد الذي حضر اجتماع اللجنة الدولية لدعم غزة، معلناً اعتزازه بأن بلاده لا تبيع سلاحاً لإسرائيل، وداعياً الدول الأخرى إلى أن تحذو حذوها. وحتى رئيس الوزراء يوناس غار ستور لم يتردد في القول إن الاحتلال تجاوز القانون الدولي برده "غير المتكافئ".
في مايو/أيار 2024، اعترفت النرويج رسمياً بدولة فلسطين، معتبرة أن السلام في الشرق الأوسط مستحيل من دون حل الدولتين.
وكتب رئيس الوزراء يوناس غار ستور مقالاً في بوليتيكو أن للفلسطينيين حقاً مطلقاً في تقرير مصيرهم، وأن الدولة الفلسطينية شرط لتحقيق الأمن والازدهار للشعبين. وأوضح أن الحرب على غزة أثبتت أن استقرار المنطقة مرتبط بحل القضية الفلسطينية، وأن الاعتراف يدعم خطة السلام العربية بالتعاون مع السعودية.
واختتم بالقول: "إذا كنا بعيدين عملياً اليوم عن حل الدولتين، فإن الدعم السياسي لهذا الخيار يزداد، وحينما تضع الحرب الحالية أوزارها، يجب أن يتمتع الفلسطينيون بحقهم في قيام دولتهم المستقلة، واعتراف النرويج المسبق مساهمة في هذا".
سحب الاستثمارات
هذه المواقف الدبلوماسية ترافقت مع خطوات فعلية. ففي يونيو/حزيران 2024، سحب صندوق تقاعد نرويجي خاص استثماراته من شركة "كاتربيلر" بسبب استخدامها في هدم منازل الفلسطينيين، وفي 5 أغسطس/آب 2025، أعلنت الحكومة النرويجية أنها أمرت بمراجعة محفظة صندوقها السيادي لضمان سحب الاستثمارات من الشركات الإسرائيلية المساهمة في تكريس احتلال الضفة الغربية أو الحرب في غزة.
وتبلغ قيمة صندوق الثروة النرويجي نحو 1.75 تريليون دولار، ويُعد الأكبر في العالم. وكانت تشير سجلات الصندوق، الذي يملك حصصاً في 8700 شركة حول العالم، إلى أنه كان يحوز أسهماً في 65 شركة إسرائيلية بنهاية 2024 بقيمة 1.95 مليار دولار، بحسب وكالة رويترز.

ومنذ عام 2009، وبناءً على توصية مجلس الأخلاقيات، تم بالفعل استبعاد تسع شركات إسرائيلية من الصندوق بسبب أنشطة مرتبطة بالأراضي الفلسطينية المحتلة، وفق وكالة الأناضول. وباع صندوق الثروة السيادي النرويجي في مايو/أيار الماضي جميع أسهمه في شركة "باز" الإسرائيلية، بسبب تزويدها المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة بالوقود.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2024، قرر الصندوق سحب استثماراته من شركة "بيزك" الإسرائيلية للاتصالات، في أعقاب تبنّي مجلس الأخلاقيات التابع له في أغسطس/آب تفسيراً أكثر صرامة لمعايير السلوك الأخلاقي، خصوصاً في ما يتعلق بالشركات المتورطة في دعم أنشطة إسرائيل في الأراضي المحتلة.
وقال مجلس الأخلاقيات التابع له إنه ينظر في ما إذا كان سيوصي بسحب استثماراته من خمسة بنوك.
وفي نهاية عام 2024، كان الصندوق يمتلك نحو 5 مليارات كرونة (500 مليون دولار) في أسهم أكبر خمسة بنوك إسرائيلية، بزيادة 62% في 12 شهراً، وفقاً للبيانات. ويُذكر أن البرلمان النرويجي رفض في يونيو/حزيران اقتراحاً بسحب صندوق الثروة السيادي استثماراته من جميع الشركات التي لها أنشطة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لكن جاءت هذه الخطوة بعد تقرير نشرته صحيفة أفتنبوستن اليومية أفاد بأن الصندوق حاز حصة خلال عامي 2023 و2024 في مجموعة إسرائيلية لمحركات الطائرات، تقدم خدمات لجيش الاحتلال الإسرائيلي، منها خدمات صيانة الطائرات المقاتلة.
حماس و"الأونروا"
في استثناء لافت عن المواقف الأوروبية، رفضت النرويج تصنيف حركة حماس منظمة إرهابية، مؤكدة أنها مستعدة للتواصل معها من أجل إنهاء الحرب. وقد سبق لمسؤولين نرويجيين أن التقوا قادة الحركة في غزة قبل نحو 15 عاماً لتهنئتهم بفوزهم في الانتخابات.

أما فيما يتعلق بوكالة "الأونروا"، فقد رفضت أوسلو الحملة الإسرائيلية–الأميركية لوقف تمويلها، وقررت بدلاً من ذلك زيادته. وقالت وزيرة التنمية آن بيث كريستيانسن: "بعد تسعة أشهر من الحرب، أصبح الوضع كارثياً في غزة… الأونروا هي العمود الفقري للجهود الإنسانية، ولهذا قدّمنا دعماً إضافياً لتصل مساهمتنا هذا العام إلى 47 مليون دولار".
إسرائيل: النرويج أشد الأوروبيين عداوة لنا
هذه المواقف فجّرت غضب تل أبيب. فبعد أن تقدّمت أوسلو في أغسطس/آب الماضي إلى المحكمة الجنائية الدولية بواحدة من أقوى المذكرات الداعمة لطلب اعتقال نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، قررت إسرائيل خلال 72 ساعة فقط طرد الدبلوماسيين النرويجيين من رام الله، وألغت الاتفاق المعروف بـ "حساب العهدة" الذي كان يمر عبره تحويل أموال السلطة الفلسطينية إلى النرويج كوسيط.
ووصفت يديعوت أحرونوت النرويج بأنها أصبحت "أشد دولة أوروبية عداءً لليهود"، متجاوزة أيرلندا التي لطالما حملت هذا اللقب، ورأت أن وزير الخارجية إسبن بارث إيدي يقود أزمة دبلوماسية مفتوحة مع إسرائيل.
في الوقت نفسه، شن الإعلام الإسرائيلي حملة عنيفة ضد أوسلو. ففي جيروزاليم بوست، كتب شون ساكس مقالاً بعنوان "فخ حياد النرويج" قال فيه إن "قشرة الحياد تحطمت"، متهماً الحكومة بتمويل "التطرف" وتقويض أمن إسرائيل، مشيراً إلى أنها تستند إلى تقارير منظمات حقوقية إسرائيلية تصوّر مقاومة حماس كعمل مشروع وتستخدمها في سياستها الخارجية لعزل تل أبيب. ورغم ذلك، لم تتراجع النرويج أو تخفف حدتها حتى الآن.