منذ إعلان قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 على أنقاض الشعب الفلسطيني، شكّل مفهوم الإبادة واقتلاع الآخر٬ ركيزة أساسية في المشروع الصهيوني٬ وفي الحرب الجارية على قطاع غزة التي ترتكب بسلاح أمريكي وغربي٬ تتجلى الإبادة الصهيونية بكل أشكالها للشعب الفلسطيني وينظّر لها من قبل قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين وقبلهم رجال الدين.
ما كُشف مؤخراً في التسجيل الصوتي المنسوب لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق أهارون حليفا، الذي قال فيه إن الفلسطينيين بحاجة إلى "نكبة بين الحين والآخر" وإنه "من الضروري أن يُقتل 50 ألف فلسطيني في غزة ليفهموا العواقب٬ وأن هذا "ضروري ومطلوب للأجيال القادمة"، ليس زلة لسان في لحظة غضب وفشل أمام هجوم مثل السابع من أكتوبر٬ فقد تكررت تصريحات متطرفة من مسؤولين ووزراء إسرائيليين آخرين منذ بداية هذه الحرب، تدعو إلى إبادة الفلسطينيين في غزة بالكامل٬ وهو ما يعكس بوضوح العقلية الإبادية المتجذرة في العقيدة الأمنية والسياسية الصهيونية.
كيف نفهم الإبادة في العقلية الصهيونية؟
- قامت الحركة الصهيونيّة بوصفها فكرة عنصرية استيطانية منصهرة في تراث الاستعمار الأوروبي للقرن التاسع عشر، تقوم بالأساس على الاعتقاد في نوع من التفوق العرقي والحضاري الذي يبرّر إبادة "الشعوب غير المتحضّرة"٬ كما يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه٬ والذي يرى أن الصهيونية حركة استيطانية عنصرية تعتمد الإبادة ضد الشعوب الضعيفة كالشعب الفلسطيني، وتسندها في ذلك دعاية مكثفة ومدعومة من الثقافة الغربية٬ مثل أفكار "الصهيونية المسيحية".
- ويذهب الباحث الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" (2006) إلى أن ما جرى عام 1948 لم يكن مجرد حرب، بل خطة ممنهجة لطرد الفلسطينيين وتدمير قراهم. يرى بابيه أن النكبة ليست نتيجة ثانوية، بل هي نتاج مقصود لعقيدة الإبادة والتطهير العرقي.
- ويرى عالم الاجتماع المصري الراحل د.عبد الوهاب المسيري في كتابه "المشروع الصهيوني: رؤية نقدية"٬ إلى أن الصهيونية ليست فقط حركة قومية تسعى لإقامة وطن لليهود، بل هي مشروع استيطاني يقوم على الإقصاء والاقتلاع الشامل. فمنذ بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، كانت المقولة المتداولة والتي يتم التنظير لها هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهو شعار يتضمن في ذاته إنكار وجود الفلسطينيين ككيان حي٬ وهذا الإنكار هو أول خطوة نحو التمهيد للإبادة وتبريرها.
- المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد يشير في كتابه "قضية فلسطين" (1979) إلى أن الصهيونية استمدت شرعيتها من الغرب عبر تقديم نفسها كحركة تحديثية، فيما صُوّر الفلسطينيون كعائق متخلّف يجب تجاوزه. بهذا التصوير، يصبح العنف ضد الفلسطينيين ليس فقط مبرراً بل مطلوباً وصميمياً لتحقيق "التحضر".
- وتقوم العقلية العسكرية الإسرائيلية، على مبدأ الردع عبر العقوبة الجماعية. وهذا ما تكرر في حروب عديدة خاضها الاحتلال ضد الفلسطينيين والعرب منذ عام 1948 وحتى الحرب الجارية على قطاع غزة. والتصريح المنسوب لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون حليفا -الذي استقال بعد معركة طوفان الأقصى بأيام بسبب فشله- يعكس هذا الفهم الإبادي٬ فكل جولة من المقاومة الفلسطينية يجب أن يقابلها "نكبة" صغيرة أو كبيرة، تزرع الخوف وتُبقي المجتمع الفلسطيني في حالة صدمة دائمة لا يستطيع بعدها التجرؤ ومهاجمة "إسرائيل".
كيف نظّر قادة الاحتلال لحرب الإبادة على قطاع غزة؟
- منذ بداية حرب الإبادة على غزة في 7 أكتوبر 2023 دعا قادة الاحتلال وأعضاء في الائتلاف اليميني الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو، إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة المكتظ بالسكان، وتسوية القطاع بالأرض، وإفقار وتجويع شعبه لدرجة أن لا يكون أمامهم أي خيار سوى الرحيل عن وطنهم.
- وفي خطاب له بعد السابع من أكتوبر٬ أكد نتنياهو أنه "سيحقق نبوءة إشعياء من خلال الحرب التي يشنها على قطاع غزة"، واصفًا الفلسطينيين بأنهم "أبناء الظلام، والإسرائيليين أبناء النور"، قائلًا: "سنحقق نبوءة إشعياء، لن تسمع بعد، خرابًا في أرضك، سنمنح المجد لشعبك، سنقاتل معًا وسننتصر". وشبّه نتنياهو الصراع مع الفلسطينيين بحرب توراتية ضد "عماليق"، وهي إشارة دينية تحمل دلالات الإبادة الكاملة.
- ومنذ شهور الحرب الأولى٬ دعا برلمانيون من حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو على شاشة التلفزيون مراراً إلى "تدمير جميع سكان غزة". فيما كررت سفيرة إسرائيل لدى بريطانيا إنه لا حل آخر أمام بلادها سوى هدم "كل مدرسة، وكل مسجد، وكل منزل" في غزة٬ بهدف تدمير البنية التحتية العسكرية لـ"حماس".
- على سبيل المثال٬ حثَّ أرييل كالنر، عضو الكنيست الإسرائيلي عن حزب الليكود، على إحداث نكبة ثانية للفلسطينيين في غزة. وتشير "النكبة" إلى التطهير العرقي الذي تعرض له الفلسطينيون في أراضيهم على يد الميليشيات الصهيونية لإفساح المجال أمام قيام إسرائيل عام 1948. وكتب كالنر في منشور على موقع "إكس" بعد السابع من أكتوبر: "الآن، هدفنا واحد: نكبة! نكبة تطغى على نكبة 48. نكبة في غزة ونكبة لكل من يجرؤ على الانضمام إليها! نكبة لأهالي غزة، لأنه كما كان الأمر في عام 1948، البديل عن ذلك واضح".
- أما وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، فوصف الفلسطينيين يوم الإثنين 9 أكتوبر/تشرين الأول بأنهم "حيوانات بشرية"، وتعهد "بالتصرف عسكرياً وفقاً لذلك"٬ وهي التصريحات التي مهدت لحرب الإبادة الجماعية على غزة المستمرة منذ نحو عامين.
- أما الجنرال الإسرائيلي السابق، جيورا إيلاند، فقد قال إن إسرائيل "يجب أن تُحدث كارثة إنسانية غير مسبوقة في غزة"، و"الأداة الحاسمة" لذلك هي تدمير البنية التحتية بالكامل٬ فالوسيلة الوحيدة هي "إجبار عشرات الآلاف على الهجرة٬ فنحن في حرب وجودية".
- أما الكاتب الصحفي والناشط اليميني أرنون سيغال٬ فقد قال: "في مثل هذه الظروف الرهيبة فقط يمكن لقادة إسرائيل إعادة احتلال غزة التي فررنا منها قبل 30 عاماً". فيما حثت نائبة الكنيست ريفيتال جوتليف، إسرائيل على النظر في استخدام الأسلحة النووية في الهجوم على حماس. وقالت: "صاروخ أريحا! صاروخ أريحا! إنذار استراتيجي قبل أن نفكر في إدخال قواتنا.. استخدموا سلاح يوم القيامة!"٬ على حد تعبيرها. وقالت نائبة الكنيست في منشور آخر: "الانفجار وحده سيهز الشرق الأوسط ويعيد كرامة هذا البلد وقوته وأمنه! حان الوقت ليجربوا ألم يوم القيامة!"، وحثت على "إطلاق صواريخ قوية بلا حدود. وعدم الاكتفاء بتسوية حي في غزة، بل سحق القطاع وتسوية كل مبانيه بالأرض".
"قتل سكان غزة ليس كافياً"
- خلال الحرب٬ كرر وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش٬ مراراً بأنه "لا يوجد هنا شعب فلسطيني"، و"يجب ترك سكان قطاع غزة يموتون جوعًا يمكن أن يكون أمرًا مبررًا وأخلاقيًا"، كما كرر أن "فتح أبواب جهنم هو ما يجب أن يحدث غزة" وأنه يجب "أن نفكك غزة بالكامل٬ وسنتركها ركاماً، الجيش يجب أن لا يبقي فيها حجراً على حجر".
- أما نسيم فتوري، نائب رئيس الكنيست وأبرز المشرّعين لجرائم الإبادة الجماعية، يقول بحسب القناة 13 العبرية: "الحل الوحيد هو إحراق كل غزة بأهلها مرة واحدة"، ويقول مخاطباً الجيش الإسرائيلي: "هدفنا المشترك هو محو قطاع غزة من على وجه الأرض.. احرقوا غزة فوراً".
- أما وزير ما يسمى بالتراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، فقد طالب دولته مرتين باستخدام السلاح النووي في تدمير غزة٬ وقال إنه "يجب على الجيش إيجاد طرق مؤلمة أكثر من الموت للمواطنين في قطاع غزة، القيام بقتلهم (قتل أهل غزة) ليس كافياً".
- فيما كرر إيتمار بن غفير، وزير الأمن الداخلي٬ منذ بداية الحرب٬ بأنه "لن نسمح بدخول غرام واحد من المساعدات إلى قطاع غزة حتى يركع أهلها يتوسلون، غزة يجب أن تسوى بالأرض، لا يوجد شيء اسمه أبرياء".
- وذهب موشيه فيغلن زعيم حزب زيهوت المتطرف، إلى أبعد من ذلك٬ وقال في تصريحات صحفية إن "كل طفل في غزة هو عدو، علينا احتلال غزة حتى لا يبقى فيها طفل واحد، لا يوجد نصر آخر".
- وهذه التصريحات هي عينة فقط لما تم رصده من تصريحات ودعوات قادة الاحتلال وسياسييه وكتابه ومفكريه لشن حرب إبادة على الفلسطينيين٬ بما يشمل تدمير البنية التحتية الفلسطينية وقتل المدنيين بما فيهم الأطفال والنساء والشيوخ٬ وسحق البشر والحجر والشجر.
كيف يتتلمذ الإسرائيليون على مفاهيم الإبادة منذ الصغر؟
- قبل نحو شهرين٬ وخلال التجويع والإبادة على غزة٬ ظهرت فتاة إسرائيلية، على إحدى القنوات٬ قرب حدود قطاع غزة المحاصر والمدمر٬ وقالت: "في زمن الحرب، لا يهم من عدوك، يجب أن تُدمّر نسله… حتى لا يُنجب مزيداً منهم". وهذا العينة من الخطاب٬ تكشف كيف أن النظام التعليمي الإسرائيلي٬ صمم على إنتاج أجيال لا ترى في الفلسطيني أو العربي إنساناً.
- وتقول العالمة اللغوية في الجامعة العبرية، نوريت بيليد-إلهان، في كتابها "فلسطين في الكتب المدرسية في إسرائيل: الأيديولوجيا والدعاية في التربية والتعليم"٬ إن المناهج الإسرائيلية تعد التلاميذ ليكونوا جنوداً مطيعين في جيش الاحتلال٬ متعطشين لإبادة الآخر، على النحو الذي كان معتمداً في النظام التعليمي النازي. وتقول إلهان٬ "لا يحتاج الطفل الإسرائيلي إلى رؤية فلسطيني حتى يكرهه، فقد تعلم مسبقاً أن الفلسطيني ليس إنساناً، بل مشكلة. فالنظام التعليمي هناك لا يكتفي بتبرير الاستعمار، بل يصنعه من الداخل: يصوغ العقول، يشوه الوعي، ويمحو الآخر من الخريطة واللغة والتاريخ.
- ومن خلال تحليل دقيق لنصوص لفظية وبصرية في عشرين من كتب التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية المعتمدة في المدارس الإسرائيلية، توضّح نوريت بيليد–إلهان أن محو الفلسطيني لا يبدأ من الساحات أو الحدود، بل من داخل الصفوف الأولى في مدارس الأطفال. فالخرائط، ببساطة، لا تعترف بوجود فلسطين: لا أسماء، لا مدن، لا قرى. حتى الناصرة تُمحى، والتجمعات العربية داخل الخط الأخضر تُقدَّم بعبارات مبهمة، مثل "القطاع غير اليهودي". أما الهوية الفلسطينية، فمحوها أكثر مباشرة: فتُلغى من المعجم المدرسي، ولا يُذكر "الفلسطيني" إلا مقروناً بالإرهاب.
- تقول بيليد-إلهان في كتابها: "غالباً ما يُصوَّر الفلسطينيون غير المواطنين في الأراضي المحتلة على أنهم إرهابيون، وهذا التصوير يعزز السياسة، المقدمة في الكتب المدرسية على أنها ضرورة متفق عليها، للسيطرة المستمرة وتقييد الحركة وحتى الاغتيالات خارج نطاق القضاء".
- وهكذا، حين لا ترى طفلاً عربياً على الخريطة، يصبح لاحقاً أسهل تبرير قتله٬ دون أن يرف جفن، ودون أن يُثار سؤال. ويؤكد الباحث إسماعيل أبو سعد هذا الاتجاه في دراسة له، مشيراً إلى أن النظام التعليمي الإسرائيلي صيغ قانونياً لخدمة المشروع الصهيوني، إذ يُلزِم المدارس بغرس الثقافة الصهيونية كحقيقة مطلقة. في المقابل، تقوم السياسات التربوية على ترسيخ نظرة دونية للفلسطيني، وزرع مواقف عنصرية في ذهن الطالب الإسرائيلي تُصوّر العرب كعنصر متخلف وتهديد دائم، ديموغرافي وأمني.
- إذ لا يقتصر الأمر على إقصاء الفلسطيني من الحاضر، بل يُحمَّل أيضاً وزر واقعه وقمعه تحت يد الاحتلال، ويُعرض ذلك للطفل الإسرائيلي في صورة استشراقية سطحية، توحي بأن ما يعيشه الفلسطيني ليس نتيجة سياسات عنصرية وأسلحة فتاكة، بل انعكاس "طبيعي" لطبيعته العربية التي تُصوَّر على أنها ترفض التطور، فيُصوَّر في الكتب المدرسية لا كضحية، بل كمن جرّ على نفسه مأساته. وهكذا، تُغرس المنهجية الاستعمارية مبكراً في المدارس الإسرائيلية — لا كوجهة نظر، بل كحقيقة مدرسية، تُلقَّن على أنها الواقع الوحيد الممكن.
- وتؤكد الباحثة الإسرائيلية مايا ويند في كتابها "أبراج العاج والفولاذ: كيف تنكر الجامعات الإسرائيلية حرية الفلسطينيين"، أنه حتى "الأكاديميا والجامعات الإسرائيلية لم تكن يوماً محايدة، فقد تأسست دولة إسرائيل نفسها على التهجير الجماعي للفلسطينيين، بهدف خلق أغلبية يهودية تبرّر وجود "دولة يهودية" و"انخرطت الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية في هذا المشروع الاستيطاني الاستعماري القائم على الإبادة والاستبدال منذ ما قبل تأسيس الدولة وحتى اليوم".