منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تشن إسرائيل حرب إبادة على قطاع غزة، وتوسّع عدوانها بفتح جبهات مع لبنان وسوريا، وتوجيه ضربات إلى العمق الإيراني، في مشهد يختلط فيه الدم بالنار والطموحات التوسعية. في قلب هذه المعركة الممتدة، تمسك "الصهيونية الدينية" بزمام العدوان في تل أبيب، محرّضة على حرب أوسع، من الدعوة إلى إلقاء قنبلة نووية على غزة، وإعادة احتلال القطاع بأكمله وتهجير الفلسطينيين وضم الضفة بالكامل، وبناء المستوطنات في جنوب لبنان، وصولاً إلى إحياء شعار "إسرائيل الكبرى" الذي يمد خرائط الاحتلال إلى ما وراء حدود فلسطين.
وفي أحدث تجليات هذا الخطاب، قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مقابلة مع قناة i24 إنه يشعر بأنه في "مهمة تاريخية وروحية"، مؤكداً أنه "مرتبط جداً" برؤية "إسرائيل الكبرى" التي تشمل الأراضي الفلسطينية، وأيضاً مناطق من الأردن ومصر بحسب صحيفة تايمز أوف إسرائيل.
جاء ذلك بعد أن سأله المحاور شارون غال — النائب اليميني السابق — إن كان يشعر بأنه في مهمة باسم الشعب اليهودي، ليجيبه نتنياهو: "إنها مهمة أجيال — هناك أجيال من اليهود حلمت بالمجيء إلى هنا، وأجيال أخرى ستأتي بعدنا"، قبل أن يختتم قائلاً: "إذا كنت تسأل إن كان لدي إحساس بالمهمة، تاريخياً وروحياً، فالجواب نعم".
لكن، من أين جاءت خيالات "إسرائيل الكبرى"؟ وهل يمكن أن يفسر هذا الإطار الأيديولوجي طبيعة العدوان الإسرائيلي الراهن على الأراضي العربية، من غزة إلى جنوب لبنان والجولان السوري؟
أساطير دينية: "الوعد الإلهي"
يعود أصل وهم "إسرائيل الكبرى" إلى ما يدّعيه اليهود عن الوعد الذي قدمه الله إلى سيدنا إبراهيم -عليه السلام- بمنحه مجموعة من الأراضي تمتد بين نهري العريش والفرات، ويستخدم قادة إسرائيل هذا الوعد لتبرير احتلالها لأراضي فلسطين.
تغطية صحفية | سموتريتش: "أريد دولة يهودية تشمل الأردن ولبنان وأراضي من مصر وسوريا والعراق والسعودية، وبالنسبة لكبار حكمائنا قدر القدس أن تمتد حتى دمشق" pic.twitter.com/1X2czZ4InC
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) October 9, 2024
بحسب ما ورد في التوراة في سفر التكوين: "في ذلك اليوم عقد الله ميثاقاً مع إبراهيم سأعطي نسلك هذه الأرض من وادي العريش إلى النهر الكبير، نهر الفرات. أرض القينيين والقنزيين، والقدمونيين، والحثيين، والفرزيين، والرفائيين، والأموريين، والكنعانيين، والجرجاشيين، واليبوسيين".
قيام دولة الاحتلال
بناءً على هذا الوعد المزعوم، بررت الميليشيات الصهيونية احتلالها للأراضي الفلسطينية، وقتلت وهجّرت الفلسطينيين، عام 1948، فقد حملت بعض الميليشيات الصهيونية شعارات تدل على خريطة "إسرائيل الكبرى"، وأبرزها منظمة "الأرغون".
بحسب ما وثق الكاتب أسعد زروق في دراسة حول "الفكر الاستعماري الصهيوني"، نشرها مركز الدراسات التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1968، فإن خطاباً لديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، قال فيه: "إن خريطة فلسطين الحالية إنما هي خريطة الانتداب، وللشعب اليهودي خريطة أخرى يجب على شباب اليهود أن يحققوها، وهي خريطة التوراة التي جاء فيها: وهبتك يا إسرائيل! ما بين دجلة والنيل".

منذ تأسيس دولة الاحتلال عام 1948، ظلّ هاجس "إسرائيل الكبرى" حاضراً في خطاب قادتها، من بن غوريون إلى نتنياهو. ومع كل حرب تخوضها إسرائيل، تعود تلك الخيالات التوراتية إلى الواجهة؛ من حرب 1967 التي فتحت شهية الاستيطان في الضفة وغزة وسيناء والجولان، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وما تبعه من وثيقة "عوديد ينون" التي وضعت خطة لتفتيت الدول العربية وإخضاع محيطها من النيل إلى الفرات.
واليوم، بعد أكثر من 22 شهراً على بدء حرب الإبادة على غزة، تطل "الصهيونية الدينية" بدعوات صريحة لإعادة الاستيطان في غزة، والتوسع نحو أراضٍ في لبنان وسوريا، في امتداد لمشروع توسعي لم يتخلَّ يوماً عن أحلامه القديمة. وتتزامن تصريحات نتنياهو التوسعية مع استعدادات إسرائيلية فعلية لإعادة احتلال قطاع غزة، وبعد أقل من شهر على إقرار الكنيست مشروع قانون لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية. وفي الوقت نفسه، تواصل دولة الاحتلال انتهاك الأراضي والأجواء السورية واللبنانية بذريعة "الأمن"، في مؤشرات تؤكد أن ما يثرثر به نتنياهو ليس مجرد ضجيج إعلامي، بل إعلان عن نوايا استراتيجية تنتظر اللحظة المناسبة لترجمتها على الأرض.
إلى أين وصل التوسع الإسرائيلي؟
احتلال غزة
في 8 أغسطس/آب 2025، أقرّت الحكومة الإسرائيلية المصغّرة خطة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لاحتلال مدينة غزة ومخيمات الوسط، بما يعني استكمال السيطرة على كامل القطاع. قرارٌ يرى فيه كثير من المراقبين، انعكاساً لمزيج من الدوافع العقائدية والسياسية، ومصالح شخصية لرئيس الوزراء وتحالفه اليميني المتطرف، أكثر من كونه خطوة لحماية الأسرى أو تحقيق مكاسب أمنية.
تتزايد القناعة أن هذه الحرب، تخدم مشروع اليمين الديني الساعي لإعادة الاستيطان في غزة وضم الضفة الغربية، ولو بثمن باهظ على الاحتلال: خسائر عسكرية متوقعة، خطر على حياة الأسرى، استنزاف اقتصادي، وتفاقم عزلة إسرائيل الدولية، مع احتمال فرض عقوبات أوروبية.
فجيش الاحتلال، بقيادة رئيس الأركان هرتسي هاليفي ونائبه زامير، أبدى تحفظاً على الخطة بصيغتها الكاملة، مفضلاً عمليات تدريجية تقوم على حصار المدينة واجتياحات موضعية، بدلاً من اجتياح شامل. ومع ذلك، صادق زامير، بضغط من المستوى السياسي، على "الفكرة الجوهرية" للخطة، مع توجيه برفع جاهزية القوات واستدعاء الاحتياط، في مؤشر على أن المواجهة تتجه نحو فصل دموي جديد، قد لا يحقق أهدافه المعلنة.
ابتلاع الضفة
بالتوازي مع تصريحات نتنياهو المؤيدة لرؤية "إسرائيل الكبرى"، وتصديق حكومة وجيش الاحتلال الإسرائيلي على خطة احتلال غزة، واستمرار الحملة العسكرية في الضفة الغربية التي أودت بحياة أكثر من ألف فلسطيني منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، صعّد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش من خطابه وخططه التوسعية. ففي ندوة أقيمت بمستوطنة "عوفرا"، صرّح أن "غزة ستُدمر بالكامل"، وأن الفلسطينيين سيغادرون "بأعداد كبيرة" إلى دولة ثالثة، بعد نقلهم إلى جنوب القطاع، معتبراً أن العرب يجب أن يتعرضوا لـ"نكبة جديدة" رداً على أحداث 7 أكتوبر.
وعلى صعيد الضفة الغربية، منح سموتريتش الضوء الأخضر لتنفيذ خطة الاستيطان المعروفة بـ"إي 1″، الهادفة إلى عزل القدس عن محيطها الفلسطيني وربطها بمستوطنة معاليه أدوميم عبر بناء نحو 3400 وحدة استيطانية، ما يؤدي فعلياً إلى تقسيم الضفة إلى شطرين ويقضي على فكرة الدولة الفلسطينية. وأكد سموتريتش أن المشروع يحظى بدعم نتنياهو والإدارة الأميركية، وأنه سيكون "الرد على أي اعتراف بدولة فلسطينية"، ليس بالوثائق أو التصريحات، بل بـ"حقائق على الأرض".
بحسب تحليل الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثي، فإن خطة "إي 1" لا تمثل فقط إنهاءً لأي إمكانية لقيام دولة فلسطينية أو حلٍّ وسط، بل هي بمثابة "دفن نهائي" لاتفاق أوسلو ولأي رهان على مفاوضات مستقبلية، ما يجعلها خطوة محورية في المشروع الاستيطاني الأوسع الذي تمضي فيه الحكومة الإسرائيلية.

وبحسب أرقام هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية الصادرة في مارس/آذار الماضي، صادرت سلطات الاحتلال منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أكثر من 52 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية، منها 46 ألف دونم في عام 2024 وحده، عبر أوامر عسكرية شملت إنشاء مناطق عازلة حول المستوطنات، وإقامة 60 بؤرة استيطانية جديدة. أكثر من 24 ألف دونم صودرت بزعم أنها "أراضي دولة"، في أكبر عملية استيلاء منذ أكثر من ثلاثة عقود.
ترافق ذلك مع حملة هدم واسعة، حيث أصدرت السلطات الإسرائيلية 939 أمر هدم عام 2023، ونفذت 684 عملية هدم، غالبيتها في مناطق (ج) مثل القدس والخليل ورام الله ونابلس وأريحا. وتقدّر الهيئة عدد المستوطنين بنحو 770 ألفاً في 180 مستوطنة و256 بؤرة، بينما قُتل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب على غزة حوالي ألف فلسطيني، وأصيب ما يقارب 7 آلاف على يد جيش الاحتلال والمستوطنين.
ماذا تفعل إسرائيل في لبنان؟
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على لبنان في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي اتسعت في سبتمبر/أيلول 2024 لتحصد أكثر من 4 آلاف قتيل و17 ألف جريح، بقي الجنوب في مرمى الأطماع الإسرائيلية.
رغم اتفاق وقف إطلاق النار الموقّع في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بين حزب الله وإسرائيل، والذي خرّقته تل أبيب أكثر من 3 آلاف مرة، متسببة بمئات الضحايا، فإن الجيش الإسرائيلي لم ينسحب كلياً من الجنوب اللبناني. فمع انتهاء المهلة الثانية للانسحاب، غادر بعض القرى، لكنه أبقى على سيطرته في خمس تلال استراتيجية مقابل مستوطنات شمال فلسطين المحتلة، معلناً نيته الاحتفاظ بها رغم رفض حزب الله. هذه المواقع التي انتزعها خلال الحرب الأخيرة تمنحه تفوقاً ميدانياً وقدرة مراقبة متقدمة، لكنها تهدد بتقويض الهدنة الهشة وإعادة إشعال الحرب.
في 14 أغسطس/آب 2025، حذّرت إسرائيل سكان بلدة شبعا الحدودية جنوب لبنان من الاقتراب إلى بعض المناطق في البلدة، بحسب وكالة الأنباء اللبنانية. وأفادت الوكالة بأن مسيّرة إسرائيلية ألقت منشورات على البلدة "حذّرت فيها المواطنين من الاقتراب من منطقة لبنانية أُشير إليها باللون الأحمر". وفي خبر منفصل، ذكرت الوكالة أن مسيّرة إسرائيلية ألقت قنبلة على مركبة كانت قد استهدفتها صباحاً بقنبلة صوتية في شبعا، في حين حلّقت طائرات مسيّرة إسرائيلية على علو منخفض فوق العاصمة بيروت وضواحيها.

ما أهمية التلال الخمسة الاستراتيجية؟
ووفقاً للخريطة، فإن التلال الخمسة التي يتمسك الاحتلال بها، تقع في مقابل المستوطنات الحيوية للاحتلال الإسرائيلي في شمال فلسطين المحتلة.
تلة الحمامص في القطاع الشرقي:
- ترتفع حوالي 900 متر فوق مستوى سطح البحر، مما يوفر رؤية شاملة للمنطقة المحيطة.
- تقع التلة على بعد حوالي 1 كيلومتر شمال الخط الأزرق، بالقرب من بلدة الخيام في قضاء مرجعيون
- تبعد التلة حوالي 10 كيلومترات جنوب نهر الليطاني، وتشرف على عدة قرى جنوب لبنان، أبرزها بلاط، ومركبا والعديسة وحولا وكفركلا والوزاني، مما يجعلها نقطة مراقبة استراتيجية لهذه المناطق، بحسب موقع "الجنوبية" اللبناني.
- توفر تلة الحمامص رؤية واضحة لمستوطنات إسرائيلية بارزة، وهي المطلة وكريات شمونة.
تلة العويضة في القطاع الأوسط:
ومنذ العام 1975 كانت تلة العويضة هي أهم مربض مدفعية للجيش اللبناني، وكان خلال الاحتلال الإسرائيلي للبنان قبل عام 2000، مرفأً لطوافات إسرائيلية لنقل الجنود إلى الداخل اللبناني.
وتبرز أهمية تلة العويضة على أنها:
- تعد الأعلى في القطاعين الأوسط والشرقي.
- تشرف التلة على أودية مثل السلوقي والحجير، وعلى قرى واقعة شمال الليطاني، فضلاً عن أنها تشرف على كامل القطاع الشرقي.
- تشرف التلة على مستوطنات إسرائيلية مثل المنارة ومسكاف عام.
تلة العزية في القطاع الأوسط:
- تبعد نحو 2 كيلومتر عن الحدود، وتشرف على مجرى الليطاني من المحمودية إلى الزوطرين جنوب لبنان.
- تشرف على مستوطنات إسرائيلية مثل زرعيت وشوميرا.
جبل بلاط في القطاع الغربي:
- يبعد مسافة 800 متر عن الخط الأزرق، يقع على ارتفاع 753 متراً فوق مستوى سطح البحر، و153 متراً فوق سطح الأرض المحيطة به.
- يقع الجبل بين القطاعين الأوسط والغربي جنوب لبنان.
- يشرف على مستوطنات إسرائيلية مثل شتولا وزرعيت.
تلة اللبونة في القطاع الغربي:
- تبعد 300 متر عن الحدود وهي على امتداد المنطقة خراج علما الشعب والناقورة.
- تقابلها أبرز مستوطنات الجليل الغربي من روش هانيكرا إلى شلومي ونهاريا.
وفي أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار، أصر وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس على إبقاء الجيش في هذه التلة وأربع مواقع أخرى يصفها بـ"الاستراتيجية"، ضمن ما يسميه "منطقة عازلة" داخل جنوب لبنان، بحجة ضمان أمن مستوطنات الشمال.

غير أن البعد الميداني ليس وحده الحاضر؛ إذ كشف مقتل عالم الآثار اليهودي إيرليخ في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 عن جهوده الخطيرة لتحديد ووضع علامات على الخريطة لقائمة المواقع والمقابر اليهودية في جنوب لبنان.
ما يعني، بنظر المستوطنين، أن الجيش حين يتواجد هناك، فهو ليس احتلالاً يخدم غرضاً سياسياً أمنياً فقط، بل يخدم أهدافاً أثرية مزوّرة، ما يجعل هذه الادعاءات الأثرية المتوهمة مدعاة لمزيد من التوسع الاستيطاني.
مع العلم أن هذا يعني عملياً إزالة الحدود بين الدول، والاستناد إلى المواقع الأثرية بدل القرارات السياسية، وهو ما كشفه العديد من آباء الاستيطان الذين أعلنوا بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أن "إسرائيل ستتوسع حتى نهر الليطاني"، ما يذكرنا بأساليب المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقد زعم علماء الآثار اليهود أن مناطق واسعة من جنوب لبنان، ومدناً مثل صيدا، كانت في السابق مركزاً يهودياً.
وفي السياق نفسه، نشرت حركات استيطانية مثل "أوري تسافون" — التي تأسست خلال الحرب على غزة — خرائط تضم 300 مستوطنة وهمية في جنوب لبنان، مع استبدال الأسماء العربية ببدائل عبرية توراتية، على غرار ما فعلته الحركة الصهيونية في فلسطين بعد نكبة 1948. وتستند هلاوس هذا المشروع إلى أساطير تزعم أن مناطق واسعة من الجنوب اللبناني، بما فيها صيدا وحصبيّا، كانت ملكاً لقبائل "نفتالي" حتى نفيها في العهد الآشوري، وأنها "جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل".

بالتوازي مع ذلك أيضاً، بعد اتفاق وقف إطلاق النار حينها، بدأ أعضاء حركة "أوري تسافون" — وتعني "هيا إلى الشمال" — العمل على إقامة مستوطنة في جنوب لبنان، بزعم العلاقة القديمة بين اليهود ولبنان، وما يُتردد من مزاعم بشأن المواقع ذات التراث اليهودي القريبة من الحدود، مثل قبر الحاخام "آشي".
وادعوا بأن مناطق جنوب لبنان ملك لقبائل "نفتالي" اليهودية، التي سكنوها في فترة الهيكل الأول حتى نفيهم على يد الإمبراطورية الآشورية، بما فيها منطقة "حصبيّا" اللبنانية، وسط جهود إسرائيلية رسمية وغير رسمية للاعتراف بما تزعم أنه التاريخ اليهودي في لبنان، للاعتراف بأنه جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل، من خلال "اكتشاف" الجذور اليهودية في كل مكان فيه.
مع العلم أن هذه الحركة، التي أُنشئت خلال الحرب على غزة، نشرت على موقعها الرسمي خريطة تضم مواقع 300 مستوطنة وهمية، استُبدلت فيها الأسماء العربية للقرى والبلدات اللبنانية بأسماء عبرية ذات دلالة توراتية.
وهو أسلوب اتبعته الحركة الصهيونية لطمس التاريخ وتهويد القرى والأحياء الفلسطينية بعد نكبة 1948، بهدف استئصال الذاكرة العربية من المواقع الجغرافية، واستبدالها بهوية مزيفة لصبغ المكان بطابع قومي يهودي مرتبط بالسرديات التوراتية والتاريخ العبري المتخيل للأراضي المحتلة.
لا يتردد علماء الآثار اليهود في المطالبة علانية بضرورة توسيع حدود الاحتلال الإسرائيلي إلى نهر الليطاني في جنوب لبنان، بزعم أن كل مكان وُجدت فيه مستوطنة يهودية، مهما كان الزمن، يحتاج إلى إعادة إنشائه.
حتى إن بعضهم قام بإعداد خرائط رسموا فيها مقابر تشير إلى الاستيطان اليهودي القديم في جنوب لبنان، متجاهلين عن خبث مقصود البقايا الأثرية لباقي القوميات والأعراق الإنسانية، التي لا تقل أهمية عن نظيرتها اليهودية.
على الصعيد الميداني، في نهاية الشهر الماضي، أعلن بتسلئيل سموتريتش أن جيش الاحتلال لن ينسحب من النقاط الخمس التي سيطر عليها في جنوب لبنان، مؤكداً أن القرى التي دمّرها الجيش "لن تُعاد بناؤها"، وأن "سكان الشمال لن يروا حزب الله على السياج الحدودي بعد الآن".
وفي السياق نفسه، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية في 14 أغسطس/آب أن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، زار المنطقة الشمالية على الحدود مع جنوب لبنان لتفقّد القوات المنتشرة هناك، وقام بجولة داخل الأراضي اللبنانية في خطوة هدفت إلى إظهار الواقع الأمني الجديد على الحدود.
ماذا تفعل إسرائيل في سوريا؟
منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، سارعت إسرائيل إلى استغلال حالة الفراغ الأمني، والتحول المفاجئ في السلطة داخل سوريا، لتبدأ في رسم معادلة أمنية جديدة في الجنوب الغربي لسوريا، من خلال استراتيجية تهدف إلى تعزيز نفوذها وتوسيع المساحات التي تحتلها، وتحديداً في المناطق المحيطة بهضبة الجولان المحتلة.
ورغم مزاعم تل أبيب وتصريحات كبار المسؤولين عقب سقوط النظام، أن تدخل إسرائيل في سوريا سيكون مؤقتاً، فإن تحركاتها الأخيرة تكشف عن نوايا لبقاء طويل الأمد، فيما تثير هجماتها وتوغلاتها في الأراضي السورية تنديداً من الإدارة السورية الجديدة، إضافة إلى تنديد من دول عربية وبعض الدول الأوروبية.
بعد هروب الأسد بساعات، بدأت إسرائيل توغلها في المنطقة العازلة، أو ما تُسمى بـ"المنطقة الفاصلة" بينها وبين سوريا، وذلك في أول توغل إسرائيلي في المنطقة منذ 50 عاماً، لتنتهك بذلك اتفاقية فك الاشتباك.

أُنشئت المنطقة العازلة بموجب الاتفاقية التي وقّعتها سوريا وإسرائيل عام 1974، والتي جاءت عقب "حرب تشرين 1973″، وكان الهدف من المنطقة الفصل بين القوات المتحاربة من الجانبين السوري والإسرائيلي.
تُعرف حدود المنطقة العازلة بخطين، هما: "خط ألفا"، وهو من جهة الأراضي التي تحتلها إسرائيل في الجولان، و"خط برافو"، ويقع في الجانب السوري من المنطقة العازلة.
وتنتشر في المنطقة العازلة قوات من الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، المعروفة بـ"أوندوف – UNDOF"، ويبلغ طول المنطقة حوالي 80 كيلومتراً، في حين أن عرضها يتراوح من 10 كيلومترات في وسطها، ويصل إلى أقل من كيلومتر في بعض المناطق.
تبلغ مساحة المنطقة العازلة 235 كيلومتراً مربعاً، وبسيطرة إسرائيل عليها، يكون الاحتلال قد أضاف هذه المساحة إلى نحو 1170 كيلومتراً مربعاً تحتلها إسرائيل في هضبة الجولان السورية، التي تُقدَّر مساحتها الكلية بـ1860 كيلومتراً مربعاً.
وتوجد في المنطقة العازلة مدينة القنيطرة وعدد من القرى، إضافة إلى تضاريس جبلية يهيمن عليها جبل الشيخ، الذي يقع بين سوريا ولبنان، والذي سيطر عليه الاحتلال الإسرائيلي بعد ساعات من سقوط النظام في سوريا.
تشير تعزيزات إسرائيل العسكرية في المنطقة العازلة، وتصريحات مسؤوليها، إلى أنها لن تغادر المناطق الجديدة المحتلة في الأمد القريب.
بناء مواقع وقواعد عسكرية لإسرائيل في سوريا
سارعت إسرائيل إلى استغلال احتلالها لمزيد من المساحات السورية داخل المنطقة العازلة، وعملت على فرض واقع أمني جديد، من خلال إقامة قواعد ومراكز عسكرية، غالبيتها موجودة داخل حدود المنطقة العازلة.
ومنذ ديسمبر/كانون الأول 2024 وحتى 21 مارس/آذار 2025، أنشأ الاحتلال الإسرائيلي 9 قواعد عسكرية، 7 منها داخل حدود المنطقة العازلة، وتمتد من شمالها عند جبل الشيخ وصولاً إلى الجنوب.

أما القاعدتان الأخريان، فتم إنشاؤهما خارج حدود المنطقة العازلة، الأولى: عند التل الأحمر القريب من قرية "كودنة" (شرق المنطقة العازلة)، والثانية: قرب قرية معربة، وبجوار أقصى جنوب المنطقة العازلة.
إقامة منطقة أمنية جنوب سوريا
تشير جميع التحركات الإسرائيلية في جنوب سوريا منذ سقوط نظام الأسد إلى أن إسرائيل تنوي البقاء لفترة طويلة في الأراضي السورية، وهو ما أكّده وزير الدفاع يسرائيل كاتس خلال زيارته إلى جبل الشيخ في 11 مارس/آذار 2025، حيث تحدّث عن رؤية إسرائيل للمنطقة الأمنية التي تسعى إلى فرضها في سوريا.

وفي موازاة ذلك، تمارس سياسة تحريض ممنهجة لمكونات سورية متعددة — من الدروز إلى الأكراد والعلويين — لدفعهم إلى مواجهات مسلحة مع الحكومة، مع عرض الدعم وفتح ممرات إنسانية خاصة بهم.
وقد تجلّى هذا المشهد في منتصف يوليو/تموز 2025، حين شهدت محافظة السويداء تصعيداً غير مسبوق بين مجموعات درزية محلية ومسلحين من العشائر البدوية، في سياق هجمات متبادلة واتّهامات بالانتقام الطائفي. جاء ذلك بعد انسحاب القوات النظامية السورية، في أعقاب تصعيد عسكري إسرائيلي مكثف شمل أكثر من 160 غارة على مقار عسكرية ومراكز حكومية في دمشق، من بينها مقر هيئة الأركان والقصر الرئاسي.
في هذا السياق، كشفت تصريحات أمريكية وإسرائيلية، بتاريخ 12 أغسطس/آب 2025، عن جهود للتوصل إلى اتفاق يسمح بفتح ممر إنساني مباشر بين إسرائيل والسويداء، مخصص لتقديم المساعدات "للطائفة الدرزية" فقط.
وبحسب مركز جسور للدراسات، تسعى إسرائيل عبر هذا التحرك إلى:
- ترسيخ نفوذها داخل سوريا من خلال توغلات برية وتوسيع السيطرة على خطوط التماس، وإنشاء جناح محلي موالٍ لها، بما يتيح لها التدخل في الشؤون الداخلية السورية وتقويض أي استقرار محتمل بعد سقوط نظام الأسد.
- تحريض مكونات سورية أخرى، كالأكراد والعلويين، على الدخول في مواجهات مع الحكومة، مع الاستعداد لدعمهم وفتح ممرات إنسانية خاصة بهم، لضمان استمرار النزاعات الداخلية، مع تركيز المساعدات للدروز فقط، بهدف ضرب السلم الأهلي وإفشال جهود المصالحة المجتمعية التي رحّب بها بيان عمّان.
- تدويل ملف حماية الأقليات لإقناع المجتمع الدولي بالتدخل، تمهيداً لتقسيم سوريا أو إقامة كانتونات خارجة عن سلطة الحكومة المركزية، تحتفظ ميليشياتها بالسلاح وترفض الاندماج في القوات الوطنية. والمفارقة — كما يشير المركز — أن واشنطن تطرح في لبنان مبادرة لنزع سلاح حزب الله، فيما تتوسط في سوريا لاتفاق يضمن للميليشيات الدرزية الاحتفاظ بسلاحها وسيطرتها على أراضٍ سورية.
ما يجري اليوم في غزة ولبنان وسوريا ليس سلسلة من التحركات المعزولة، بل حلقات متصلة في مشروع استعماري متجدد تحافظ إسرائيل على روحه منذ تأسيسها، وتعيد إنتاجه كلما سنحت لها الفرصة. من خريطة التوراة في خطاب بن غوريون إلى تصريحات نتنياهو عن "المهمة التاريخية والروحية"، يتجسد الحلم التوسعي في سياسات ميدانية تسعى لتغيير الجغرافيا والسيطرة على الموارد وتفكيك المجتمعات المحيطة.