بدلاً من معالجة تراكم البضائع المتزايد على حدود قطاع غزة، ترفض سلطات الاحتلال، التي تعمل على "هندسة التجويع" في القطاع، طلبات عشرات المنظمات الأممية لإدخال مواد أساسية، في مخطط واضح يهدف إلى تكريس "مؤسسة غزة للإغاثة"، أو ما يسميه الفلسطينيون "مصائد الموت"، لتكون ملجأهم الوحيد للحصول على الطعام.
ويحاول الاحتلال الإسرائيلي الالتفاف على "الغضب العالمي" من خلال إدخال عدد محدود من شاحنات المساعدات، والسماح لعدد من الدول بتنفيذ عمليات إنزال جوي محدود للمساعدات.
بحسب بيانات مكتب الإعلام الحكومي في غزة، فإن ما دخل قطاع غزة على مدار الـ18 يوماً هو نحو 1535 شاحنة مساعدات فقط، أي ما يعادل حوالي 15% من الاحتياجات الفعلية.
ويحتاج قطاع غزة إلى أكثر من 600 شاحنة مساعدات مختلفة لتلبية الحد الأدنى من احتياجات المواطنين، في ظل الحرب المستمرة منذ نحو 22 شهراً.
وحتى 14 أغسطس/آب 2025، ارتفعت الحصيلة التي أعلنتها وزارة الصحة في غزة، إذ بلغ عدد شهداء التجويع الإسرائيلي 239 فلسطينياً، بينهم 106 أطفال.

وكشفت بيانات طبية وإنسانية عن معاناة 1.2 مليون طفل دون 18 عاماً في قطاع غزة من حالة انعدام أمن غذائي حاد، فيما يعاني 40 ألف رضيع دون عام واحد من سوء تغذية يهدد الحياة، و250 ألف طفل دون 5 أعوام من نقص غذاء يهدد حياتهم مباشرة.
لكن الوقائع على الأرض تشير إلى أن الاحتلال يحاول قدر الإمكان حصر إطعام الفلسطينيين عبر "مؤسسة غزة للإغاثة"، التي تعتبر مواقعها "مصائد موت" حصدت مئات الفلسطينيين.
ويناقش هذا التقرير شواهد التقييد الإسرائيلي لتكريس واقع "المجاعة" في غزة عبر هندستها، مع تقليل حدة "الغضب العالمي" الذي تصاعد مؤخراً.
أولاً: قيود على المؤسسات الأممية والدولية لـ"هندسة التجويع"
في يوليو/تموز 2025، رفضت إسرائيل عشرات الطلبات من منظمات غير ربحية لتقديم المساعدات إلى غزة، بحجة أنها "غير مرخصة"، بموجب قواعد تسجيل المنظمات غير الحكومية التي تم تقديمها في مارس/آذار الماضي.
وقالت منظمة أوكسفام إنها تلقت بضائع بقيمة تزيد على 2.5 مليون دولار، رفضت إسرائيل دخولها إلى غزة، فيما أعلنت منظمة كير أنها تلقت طروداً غذائية إضافية بقيمة 1.5 مليون دولار وإمدادات طبية ومستلزمات نظافة، لكن الاحتلال رفض دخولها.
وقالت مؤسسة أنيرا إنها تمتلك إمدادات منقذة للحياة بقيمة تزيد على 7 ملايين دولار جاهزة للدخول إلى غزة، بما في ذلك 744 طناً من الأرز تكفي لستة ملايين وجبة، محجوزة جميعها في ميناء أسدود الإسرائيلي.
وفي إطار التضييق، تشترط إسرائيل من أجل السماح للمنظمات بالعمل مشاركة قوائم الموظفين الفلسطينيين العاملين في الإغاثة ومعلومات حساسة عنهم، بدعوى "التدقيق الأمني".
وذكر بيان صادر عن 102 منظمة أنها لا يمكنها أن تضمن سلامة هؤلاء العاملين، وسط "السياق الأكثر دموية في مجال العمل الإنساني، حيث كان أكثر من 98 بالمئة من العاملين الإنسانيين الذين قُتلوا فلسطينيين".
وطبقت إسرائيل قواعد جديدة لتسجيل المنظمات غير الحكومية الدولية في مارس/آذار 2025، وبموجب هذه القواعد يمكن رفض التسجيل بناء على "معايير غامضة ومسيسة". وحذرت المنظمات من أن هذه العملية مصممة للسيطرة على المنظمات المستقلة، وإسكات المناصرة، والرقابة على التقارير الإنسانية.
ثانياً: منع الأونروا
من بين المؤسسات التابعة للأمم المتحدة التي يسمح الاحتلال الإسرائيلي بإدخال المساعدات الشحيحة إلى قطاع غزة، برنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، و"اليونيسف"، و"يونوبس".
لكن الاحتلال يمنع منذ فترة طويلة وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من القيام بمهامها، في إطار مساعيه لإنهاء عمل المؤسسة الأممية في المنطقة.
وتقول الأونروا، في منشور على منصة (إكس)، إن الاحتلال الإسرائيلي ولأكثر من خمسة أشهر، منعها وهي أكبر منظمة إنسانية في غزة، من إدخال الغذاء والدواء وغيرها من الإمدادات الحيوية.

وبحسب الوكالة الأممية، فإن الاحتلال قتل نحو 350 موظفاً من موظفيها منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة.
وفي تطور لافت، كشفت الوكالة الأممية عن لقاء جمع بين مؤسسات أخرى تابعة للأمم المتحدة مع "مؤسسة غزة للإغاثة"، محذرة من أن ذلك يعتبر بمثابة تواطؤ في جرائم الحرب.
ونشرت مجلة "نيو هيومانيتاريان" أن اجتماعاً عُقد في 6 أغسطس/آب 2025 بين مسؤولي أربع وكالات تابعة للأمم المتحدة و"مؤسسة غزة للإغاثة" التي تدعمها الولايات المتحدة وإسرائيل، وتم التوافق على "تعاون أكثر اكتمالاً" بينها.
وفي رسالة كتبها المفوض العام لوكالة الأونروا فيليب لازاريني إلى وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فليتشر، قال إن "الأمم المتحدة لديها التزام واضح بالدفاع عن الفلسطينيين المعرضين لانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي وحمايتهم، بما في ذلك عندما ترتبط هذه الانتهاكات بمؤسسة غزة للإغاثة".
وشدد على أن "الصمت على حوادث قد ترقى إلى جرائم حرب – والتي استمرت منذ اجتماع الأسبوع الماضي – قد يُنظر إليه على أنه تواطؤ".
ثالثاً: قلة عدد الشاحنات وقتل فرق التأمين
أكدت مصادر لـ"عربي بوست" أن الاحتلال الإسرائيلي تعمّد قصف مئات الشاحنات داخل قطاع غزة، الأمر الذي تسبب بنقص حاد في عدد تلك التي تنقل المساعدات عبر المعابر المحيطة بالقطاع.
وبحسب المصادر ذاتها، فإن الاحتلال رفض عرضاً مصرياً بالسماح بإدخال شاحنات جديدة محمّلة بالمساعدات إلى قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم.
وبرز مؤخراً اغتيال عناصر التأمين الذين تم تشكيلهم إما من شركات أمن خاصة أو من العائلات، بالقرب من حواجز كيسوفيم وزيكيم حيث تتدفق المساعدات.
وفي الأربعاء 13 أغسطس/آب 2025، شن الاحتلال الإسرائيلي ثلاث غارات متفرقة على عناصر تأمين المساعدات، أسفرت في مجملها عن استشهاد 11 عنصراً.
وفي بيان لها في اليوم ذاته، أدانت وزارة الداخلية في قطاع غزة "إصرار الاحتلال الإسرائيلي على استمرار مظاهر الفوضى في دخول كميات من المساعدات الإنسانية على محدوديتها، وارتكابه المجازر بحق لجان التأمين العشائرية والشعبية المدنية".

وأوضحت وزارة الداخلية أن التمادي الإسرائيلي في استهداف عناصر تأمين المساعدات "وقتلهم بشكل ممنهج" يأتي ضمن "سياسة هندسة التجويع" التي تمارسها تل أبيب بحق فلسطينيي القطاع.
وأكدت أن استهداف عناصر تأمين المساعدات "يحرم عشرات آلاف الأسر الفلسطينية مما يسد جوعهم وجوع أطفالهم".
ويتسبب مقتل عناصر التأمين في اعتراض شاحنات المساعدات والسطو عليها ونهبها من مجموعات اللصوص والبلطجية، مما يعزز سياسة الفوضى التي ينتهجها الاحتلال في القطاع.
رابعاً: عرقلة رحلة شاحنات المساعدات وتقنينها
يتبع الاحتلال الإسرائيلي ثلاث ممرات لإدخال المساعدات: اثنان منها في جنوب قطاع غزة، وهما خط موراج (يبدأ من كرم أبو سالم)، وخط كيسوفيم، وواحد فقط في شماله، وهو خط زيكيم الذي يغذي مدينة غزة.
لكن رحلة الشاحنات معقدة ومكلفة للغاية، وتصطدم بالعديد من العراقيل، وهي:
- يتعين على الشاحنات السفر من الحدود الأردنية أو ميناء أسدود أو من الأراضي الفلسطينية إلى معابر قطاع غزة، وتتطلب هذه الرحلات تنسيقاً معقداً مع السلطات الإسرائيلية والحصول على موافقة الجمارك.
- عندما تصل الشاحنة الأردنية أو المصرية إلى إسرائيل، يتم نقل بضائعها إلى شاحنات إسرائيلية تتجه إلى معبر كرم أبو سالم أو زيكيم وتفرغ البضائع هناك.
- يلي تلك العملية تعبئة البضائع في شاحنات فلسطينية تصل إلى المعابر من داخل قطاع غزة.
- تقول صحيفة "هآرتس" إن هذه الطريقة المعقدة للغاية من الناحية اللوجستية تزيد من تكاليف النقل وتسبب تأخيراً كبيراً.
- تذكر الصحيفة أن إسرائيل شددت مؤخراً شروطها وبدأت باشتراط حراسة شرطية لكل قافلة تغادر إلى غزة عبر الأردن، ويقتصر هذا الشرط على القوافل التي تحمل مواد غذائية ومساعدات لصالح دول (مثل دول الخليج) وليس منظمات.
- وفقاً للمنظمات، فإن شرطة الاحتلال غير متحمسة للتعاون مع القوافل، وتؤخر الشاحنات أو تلغيها بعد تخلف سيارة الحراسة الشرطية عن الحضور.
- كما أن جنود الجيش الإسرائيلي يحثون الشاحنات على تحميل البضائع بسرعة والانطلاق، ثم غالباً ما يؤخرونها لساعات طويلة، ويرسلونها إلى طرق خطرة في القطاع.
إلى ذلك، فإن الاحتلال الإسرائيلي يتعمد إرجاع أو إلغاء عدد كبير من المساعدات بسبب وجود أصناف ممنوعة من دخول قطاع غزة، رغم أنها أساسية.
وبحسب التقرير الإسرائيلي، فإن الاحتلال منع مؤخراً على سبيل المثال إدخال البطاطا والتمور، وكان السبب المقدم أن البطاطس صالحة للاستخدام لفترة طويلة ويمكن استخدامها في التجارة أو سرقتها من قبل عناصر حماس، أما بالنسبة للتمور، فقد قيل إنها "كماليات".
وفي يوليو/تموز، نشرت صحيفة "هآرتس" قائمة بالمعدات الممنوعة من الدخول، وتشمل معدات طبية ولوجستية يرتبط بعضها ارتباطاً مباشراً بالقدرة على علاج مرضى سوء التغذية، مثل المباني المخصصة للاستخدام كعيادات، والمولدات الكهربائية، والبطاريات، والألواح الشمسية، ومجموعات المواد الكيميائية للفحوصات الطبية، وثلاجات حفظ الدم، وغيرها.
ما الذي يريده الإسرائيليون؟
بحسب مصادر لـ"عربي بوست"، فإن الاحتلال الإسرائيلي في مفاوضات الوقف المؤقت لإطلاق النار الأخيرة تمسك بعمل "مؤسسة غزة للإغاثة"، طالباً أن تكون الجهة المركزية في وصول المساعدات إلى السكان، وهو ما رفضته حركة حماس.
ويحاول الاحتلال الإسرائيلي حصر تدفق المساعدات إما من خلال دول أجنبية ودول المنطقة، سواء عبر الإنزال الجوي أو المعابر البرية، أو من خلال "مؤسسة غزة للإغاثة".
وبحسب المصادر ذاتها، فإن العدد الأكبر من شاحنات المساعدات الشحيحة التي دخلت إلى قطاع غزة كان لدولة الإمارات عبر عملية "الفارس الشهم"، أو الهيئة الخيرية الأردنية، أو الهلال الأحمر المصري.
ومؤخراً، طالبت "مؤسسة غزة للإغاثة" – التي تسببت بمقتل مئات الفلسطينيين قرب نقاط التوزيع المعتمدة لها من الاحتلال – الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بالعمل معها.

فيما أعلن السفير الأمريكي في تل أبيب مايك هاكابي عن خطة لتوسيع عمليات توزيع المساعدات عبر "مؤسسة غزة للإغاثة".
وتنوي الولايات المتحدة تمويل مراكز توزيع جديدة، حيث من المقرر أن يرتفع عدد نقاط تسليم المساعدات من أربع حالياً إلى 16 نقطة إضافية.
يأتي ذلك في الوقت الذي حذر فيه خبراء الأمم المتحدة من قلقهم البالغ إزاء عمليات "مؤسسة غزة الإنسانية".
وقال الخبراء: "إن مؤسسة الإغاثة الإنسانية العالمية، وهي منظمة غير حكومية أنشأتها إسرائيل في فبراير/شباط 2025 بدعم من الولايات المتحدة، لتوزيع المساعدات المزعومة في غزة، تُعد مثالاً مقلقاً للغاية على كيفية استغلال الإغاثة الإنسانية لتحقيق أجندات عسكرية وجيوسياسية سرية، في انتهاك خطير للقانون الدولي".