على مدى عقود طويلة من القرن الحادي والعشرين، كان الدعم السياسي الأميركي لإسرائيل بمثابة تمرين ثنائي الحزبية، يتقاطع مع الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) ليصبح واحداً من المواضيع القليلة المتفق عليها في واشنطن ولا يمكن التشكيك بها. ولكن مع حصار إسرائيل لقطاع غزة ودخول حرب الإبادة الجماعية من عامها الثاني، تآكل هذا الدعم الواسع بشكل كبير.
خلال الحرب، انقسم الحزب الديمقراطي بشأن العلاقة مع "إسرائيل" والدعم المفتوح الذي تقدمه الولايات المتحدة لتل أبيب منذ نحو 7 عقود، وأظهرت حرب الإبادة الجماعية انتقادات حادة وتحركات غير مسبوقة لدولة الاحتلال بين المشرعين الديمقراطيين، لكن يبدو أن التصدعات بدأت تحدث في صفوف الجمهوريين أيضاً.
لطالما مثّل الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة حجر الأساس للدعم السياسي والدبلوماسي والعسكري غير المشروط لإسرائيل، خاصة في العقدين الأخيرين. لكن التطورات الأخيرة المرتبطة بالحرب على غزة، والتغطية الإعلامية الواسعة للكارثة الإنسانية ولحرب التجويع التي تفرضها حكومة نتنياهو على الفلسطينيين، أظهرت أن هذا الدعم بات أقل صلابة مما يبدو، وخصيصاً داخل تحالف "ماغا" (MAGA) اختصاراً لشعار (اجعلوا أمريكا عظيمة مجدداً) الذي أطلقه ويتزعمه الرئيس دونالد ترامب.
كيف وصلت التصدعات في دعم "إسرائيل" إلى داخل الحزب الجمهوري؟
- في أعقاب تصاعد الصراع في غزة وتزايد الانتقادات العالمية لإسرائيل، بدأت تتضح ملامح انقسام داخلي غير مسبوق داخل الحزب الجمهوري، لا سيما بين أجياله المختلفة، وجناحيه التقليدي والشعبوي، بعدما كان لا يمكن تخيل ذلك داخل الحزب الذي يمثل صخرة يمكن لإسرائيل الاعتماد عليها في الدعم المطلق سياسياً وعسكرياً.
- تقول مجلة "الإيكونومست" البريطانية عندما ذهب مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الأمريكي، إلى الحائط الغربي في القدس في الثالث من أغسطس/آب، ووضع في شقوقه مذكرة مكتوبة بخط اليد إلى الله، أعلن: "صلاتنا هي أن تقف أمريكا دائمًا إلى جانب إسرائيل". ثم زار مستوطنة أرييل اليهودية، والتقى في بنيامين نتنياهو في مستوطنة أخرى، شيلو، في عمق الضفة الغربية المحتلة. واستخدم المصطلحات التوراتية للإشارة إلى هذه المنطقة، قائلاً إن "جبال يهودا والسامرة ملكٌ للشعب اليهودي"، ووعد بتشجيع استخدام هذه الأسماء في الخطاب الأمريكي الرسمي.
- ويُمثل جونسون جناحًا راسخًا في الحزب الجمهوري، يقف إلى جانب "إسرائيل" في معظمه دون انتقاد، وقد أشار مساره إلى أن "العديد من الجمهوريين سيباركون ضم إسرائيل الرسمي للضفة الغربية". تدعم المؤسسة الحالية للحزب "إسرائيل" ليس فقط في حقها في الوجود كديمقراطية يهودية مُحاصرة، بل أيضًا في تجسيدها الأكثر قومية عرقية في ظل حكم السيد نتنياهو وحكومته اليمينية المتشددة.
- مع ذلك، هناك وجهة نظر مختلفة ومتزايدة الصراحة حول نقد تحالف أمريكا بين الجمهوريين، ولا سيما من بعض أتباع تحالف "جعل أمريكا عظيمة مجددًا " (MAGA) التي يتبناها ترامب. حيث نشرت مارجوري تايلور غرين، عضوة الكونغرس من جورجيا، بيانًا مفاجئًا على موقع X في 31 يوليو 2025، وصفت فيه حرب إسرائيل في غزة بـ"الإبادة الجماعية". وهو مؤشر على تزايد التشكك لدى اليمين الأمريكي بشأن سلوك إسرائيل في الحرب، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
- قالت غرين في منشورها: "بالطبع نحن ضد الإرهاب الإسلامي المتطرف، لكننا أيضًا ضد الإبادة الجماعية". لم يكن استخدامها لكلمة "إبادة جماعية"، الشائعة بين يسار الحزب الديمقراطي، خطأً أو كتب سهواً. وقالت لصحيفة ديلي ميل : "عندما يُقتل الناس، الأبرياء، بشكل منهجي بسبب هويتهم، أليس هذا هو تعريف الإبادة الجماعية؟ لا أعرف لماذا أنا الجمهورية الوحيدة التي تقول ذلك"، بحسب تعبيرها.
- وكان انتقاد تحالف أمريكا مع إسرائيل يتردد صداه أيضًا في غرفة أخرى داخل تحالف "ماغا"، مثل بعض المذيعين المؤثرين، بينهم تاكر كارلسون ومات غيتز وجو روغان. لكن بالنسبة للجزء الآخر يبدو أن المتشككين حيال التحالف مع إسرائيل داخل تحالف MAGA مدفوعون بالخوف من التورط في التصريح بآرائهم علناً.
- جاءت نقطة محورية خلال الحرب التي استمرت 12 يومًا بين إسرائيل وإيران في يونيو. كانت السيدة غرين والسيد كارلسون وستيف بانون، المستشار السابق لترامب خلال فترة ولايته الأولى، من بين أولئك الذين حذروا من أن أمريكا تخاطر بالانجرار إلى حرب كارثية ومكلفة أخرى في الشرق الأوسط. هدأ ترامب مخاوفهم من خلال الأمر بمشاركة محدودة، وإرسال قاذفات B -2 لتدمير المنشآت النووية المدفونة عميقًا ثم فرض وقف إطلاق النار على الفور. لكن يبدو أن انتقاد دعم إسرائيل أصبح مسموحًا به على أساس مبادئ أمريكا أولاً.
- من نواحٍ عديدة، تعني "أمريكا أولاً" ما يقوله ترامب. فقد كان متناقضًا بشأن إسرائيل، كما هو الحال في كثير من جوانب سياسته الخارجية، لا سيما في نهجه المتغير تجاه الحرب في أوكرانيا. فبعد انضمامه لفترة وجيزة إلى إسرائيل في قصف إيران الشهر الماضي، لعن نتنياهو أمام الكاميرات لخرقه وقف إطلاق النار. ويُلقي باللوم على حماس في الحرب في غزة، لكنه رثى تجويع الفلسطينيين.
دعم إسرائيل يتراجع بشكل واضح بين الجيل الشاب من المحافظين الأمريكيين
- بينما لا تزال غالبية الجمهوريين الرئيسيين تدعم حرب إسرائيل على غزة "دون قيد أو شرط تقريبًا"، فإن المحافظين المستعدين للتحدث ضد حرب غزة "يزدادون نفوذًا على الإنترنت وخارج واشنطن"، وفقًا لموقع ريسبونسبل ستيتكرافت"، وهذا صحيح "خاصةً بين المحافظين الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا".
- يُشير مؤثرون، مثل ستيف بانون، إلى أن الآراء حول التحالف تتغير في أوساط تحالف "ماغا". وصرح بانون لصحيفة politico الأمريكية: "يبدو أن قاعدة مؤيدي تحالف "ماغا" ممن تقل أعمارهم عن 30 عامًا لا تحظى بدعم يُذكر لإسرائيل، وأن محاولة نتنياهو إنقاذ نفسه سياسيًا بجر أمريكا إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط قد أبعدت شريحة كبيرة من مؤيدي تحالف "ماغا" الأكبر سنًا".
- وفقًا لأحدث استطلاعات الرأي التي أجرتها شركة YouGov لصالح مجلة Economist، لا يزال الدعم لإسرائيل بين أولئك الذين يطلقون على أنفسهم اسم "المحافظين" أو "المحافظين للغاية" قويًا ولكنه آخذ في الانخفاض. ورداً على سؤال "في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، لمن تميل تعاطفك أكثر؟"، وكانت نتيجة إجابة المحافظين (أقصى اليمين) مستوى تعاطف مرتفع تجاه إسرائيل (حوالي 70% بدايةً، لكن بدأ بالانخفاض تدريجيًا حتى 2025 ليصل لحوالي 60%)، وهو مؤشر غير مسبوق بين الجمهوريين المتشددين.
- وأشار استطلاع أجرته مؤسسة Pew ونُشر في أبريل/نيسان الماضي إلى أن الآراء غير الداعمة لإسرائيل كانت أكثر وضوحًا بين الجمهوريين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و49 عامًا.
- قد تعكس الفجوة العمرية تأثير صور المعاناة التي تسببت بها إسرائيل في غزة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يراها الناخبون الأصغر سنًا، على النقيض من المواد المؤيدة لإسرائيل على قنوات التلفزيون الجمهورية المحافظة مثل Fox News.
- بشكل عام، تُظهر استطلاعات الرأي المختلفة أن الدعم لإسرائيل آخذ في الانخفاض في جميع أنحاء أمريكا منذ بداية الحرب، بل أن مظاهر نبذ إسرائيل باتت أكثر حدة بين الديمقراطيين، حيث أصبحت غالبية الذين يطلقون على أنفسهم اسم "ليبراليين" أو "ليبراليين للغاية" الآن أكثر عرضة للتعبير عن تعاطفهم مع فلسطين ودعمها ورفع شعارات مثل "تحرير فلسطين من البحر إلى النهر".
- وقال كوستاس باناغوبولوس، أستاذ العلوم السياسية بجامعة نورث إيسترن الأمريكية، لمجلة نيوزويك، إن "الجمهوريين الراغبين في التحدث علنًا عن سلوك إسرائيل في زمن الحرب يُرجَّح أنهم يقرأون نتائج استطلاعات الرأي العام في الولايات المتحدة. ويتعرض المشرعون لضغوط من الدوائر الانتخابية الخاصة بهم بشأن ما يحدث في غزة، ويُطلب منهم محاسبة إسرائيل".
هل يتسع انتقاد إسرائيل داخل صفوف الجمهوريين؟
- هناك أسباب دينية دفعت بعض الجمهوريين لانتقاد حرب إسرائيل على غزة، فبعد قصف كنيسة العائلة المقدسة، الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزة من قبل الطيران الإسرائيلي مما أدى لمقتل عدد من الفلسطينيين وإصابة آخرين، قالت غرين التي نددت بـ"الإبادة الجماعية" ضمن وصفها لمحادثة مع قس مسيحي في القطاع المحاصر. وكتبت غرين عبر منصة X: "هناك أطفال يتضورون جوعاً. وقُتل وأصيب مسيحيون، بالإضافة إلى العديد من الأبرياء. إذا كنت مسيحيًا أمريكيًا، فهذا أمر مرفوض تمامًا بالنسبة لك".
- لكن إلى أي مدى سيصل هذا الانتقاد والتململ الصريح من العلاقة مع إسرائيل بين الجمهوريين؟ أوضح ترامب مراراً أنه في صف إسرائيل، على الرغم من لحظات انزعاجه من صديقه نتنياهو. بل إنه ندد بالنظام القضائي الإسرائيلي لاتهام رئيس الوزراء بالفساد. وحضر السفير الأمريكي المتشدد، مايك هاكابي، محاكمة نتنياهو تعبيرًا عن دعمه. وقد دعم ترامب إسرائيل بشدة خلال ولايته الأولى وخلال حملته لإعادة انتخابه العام الماضي. وبمجرد توليه منصبه، سارع إلى نفي منتقدي إسرائيل باعتبارهم "معادين للسامية" من الجامعات وأماكن أخرى. كما أُلقي القبض على ناشطين مؤيدين للفلسطينيين تمهيدًا لترحيلهم.
- وصرحت النائبة غرين لصحيفة "ديلي ميل" البريطانية: "لا أعلم إن كان الحزب الجمهوري قد تخلّى عني، أو إن لم أعد أشعر بالانتماء إليه". وقد يُسهم نجاحها هي وغيرها من المتشككين في "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" في إبعاد ترامب، ولو جزئيًا، عن العقيدة الجمهورية الراسخة تجاه إسرائيل في تحديد مصير الحرب في غزة وما بعدها.
- وذكرت صحيفة "ذا هيل" الأمريكية أن "القلق" يتزايد بين الجمهوريين من سياسة ترامب تجاه غزة وهو ما يسلّط الضوء على علاقات الإدارة الوثيقة مع إسرائيل، ويثير في الوقت نفسه "تساؤلات إضافية" حول خطط ترامب المستقبلية تجاه تل أبيب.
- وذكرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أن تصاعد العنف الإسرائيلي في كل من غزة والضفة الغربية يؤثر بشكل مباشر على مواقف العديد من مؤيدي ترامب المحافظين "التقليديين"، والذين قد يكونون متأثرين بـ"الإيذاء الذي يلحق بالمسيحيين" في غزة من قبل جيش إسرائيل.
- ونقلت صحيفة فاينانشال تايمز عن خبير في شؤون الشرق الأوسط مقرب مع الإدارة الأمريكية، قوله لمتبرع يهودي مؤخرًا: "شعبي بدأ يكره إسرائيل". ومع ذلك، من المهم تجنب "المبالغة في تقدير تأثير المنتقدين على اليمين المتطرف". قال الخبير، الذي طلب عدم الكشف عن هويته: "لا أعتقد أن إحباطات تحالف "ماغا" ستؤدي إلى أزمة حادة مع إسرائيل وترامب. لكن هناك أشخاص في البيت الأبيض يراقبون تطور هذا الخطاب النقدي لإسرائيل في أوساط اليمين، وفي أوساط حملة "ماغا".