كيف تعمّق الإنزالات الجوية و”مراكز المساعدات” الأمريكية حرب التجويع في غزة وتطيل أمد المأساة؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/08/04 الساعة 12:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/08/05 الساعة 00:46 بتوقيت غرينتش
سقوط صناديق الإنزالات الجوية على مناطق الخيام في المواصي جنوب قطاع غزة - تموز 2025 - (رويترز)

في مشهد بات يتكرر بشكل يومي، يهرع آلاف الفلسطينيين ذوي الأجساد النحيلة في شمال غزة أو جنوبها خلف مظلات المساعدات التي تلقيها طائرات إنزال جوي عربية أو غربية. إلا أن الأمل في الحصول على الطعام سرعان ما يتبخر حين تسقط الصناديق في "مناطق حمراء" يسيطر عليها جيش الاحتلال الإسرائيلي٬ فيما تسقط بعضها الآخر في البحر أو على رؤوس النازحين في الخيام٬ وكان آخر ضحايا هذه الصناديق هو الممرض الغزّي عدي القرعان والذي استشهد إثر سقوط صندوق مساعدات عليه بشكل مباشر من عملية "إنزال جوي" نُفذت في بلدة الزوايدة وسط قطاع غزة يوم الإثنين 4 آب 2025.

ورغم التحذيرات المتكررة من مخاطر هذه الإنزالات التي لا تغني ولا تسمن من جوع مقارنة مع حمولة الشاحنات المحجوزة خلف المعابر التي تحاصر غزة٬ إلا أن العديد من دول المنطقة لا تزال تلقي ببضعة صناديق يومياً بالتنسيق مع جيش الاحتلال٬ وتدعي أنها بذلك كسرت الحصار على نحو 2.3 مليون إنسان يتم تجويعهم في مناطق مكتظة لا تتجاوز مساحتها 10٪ من مساحة القطاع. وتساوي حمولة 3 طائرات ترمي صناديق مساعدات وزنها 25 طناً بواسطة المظلات٬ ما يقرب من شاحنة ونصف وفق معدل الأطنان للشاحنة الواحدة٬ بحسب تقرير سابق لصحيفة واشنطن بوست رصد دخول الشاحنات إلى غزة٬ علما أن بعض الشاحنات يمكن أن تحمل ما يصل إلى 25 طناً من المساعدات.

في الوقت نفسه٬ لا تزال تشهد مراكز توزيع المساعدات الأميركية الإسرائيلية منذ بدء عملها في قطاع غزة في نهاية مايو/أيار 2025، يومياً عمليات قتل جماعي واستهداف للمجوّعين. وتمنع سلطات الاحتلال تدفق الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع، وتفرض قيوداً مشددة على إدخال المساعدات، ثم تحوّل نقاط توزيعها المحدودة إلى ساحات قنص وقصف وقتل جماعي على مرأى ومسمع من العالم كله٬ وسط نفي أمريكي وإسرائيلي بوقوع أي جرائم أو حتى وجوع "مجاعة" في القطاع المحاصر. فيما تقول وزارة الصحة في غزة، إن إجمالي شهداء "لقمة العيش" ممن وصلوا المستشفيات بلغ إلى 1,179 شهيدًا وأكثر من 7,957 إصابة خلال الأسابيع الأخيرة.

كيف تعمّق الإنزالات الجوية حرب التجويع في غزة؟

  • تقول مسؤولة برنامج المساعدات الخارجية الأمريكية للكوارث نتالي واكسلر إن الإنزالات الجوية ليس السبيل الأمثل لمساعدة غزة. وذكرت المسؤولة في مقال لها نشرته صحيفة "واشنطن بوست" إن إسقاط المساعدات الغذائية الطارئة من الجو على قطاع غزة "أمر سخيف"٬ بحسب توصيفها.
  • وتضيف واكسلر: "من خلال تجربتي كمدير لمكتب المساعدات الخارجية الأميركية في حالات الكوارث، أستطيع أن أؤكد أن مثل هذه العمليات غير فعالة ومكلفة للغاية وخطيرة". واصفة في مقالها أن "إنزال مظلات المساعدات من الطائرات على غزة هو الأسلوب الأكثر ظلماً لإيصال الإمدادات الإنسانية".
  • ترى الكاتبة الأمريكية إنه "ثبت في العديد من مناطق الحرب، فإن الشباب والأقوياء والسريعين والمدججين بالسلاح هم فقط من يحصلون على هذه الإمدادات، إما بالوصول إلى المنصات أولاً أو بالاستلاء عليها بالقوة لاحقًا. وأضافت إنه بدون كوادر إغاثة ماهرة على الأرض لجمع وتوزيع الإمدادات الغذائية الشحيحة أصلاً بشكل عادل على الأطفال والمدارس والمستشفيات وكبار السن والجرحى وغيرهم من السكان المستهدفين، فإن هذه الفئات الأخيرة تخسر وتستمر في الجوع٬ وهو ما يطيل في أمد المأساة ويعمقها.
  • وذكرت المسؤولة الأمريكية إنه في دراسة رئيسية حول عمليات الإنزال الجوي شاركت في تأليفها في معهد تحليلات الدفاع، أشار الباحثون إلى أن "الفائدة الرئيسية ربما تكون لإسقاط الإمدادات جواً هي جعل الدول المانحة تشعر بالرضا، عدا عن التكاليف الباهظة لهذه الطريقة". وبدأت طائرات من بعض الدول العربية منها الإمارات والأردن ومصر مؤخراً، بعمليات إنزال جوي للمساعدات عبر المظلات، بعد سماح جيش الاحتلال لها بذلك، في ظل حرب إبادة ومجاعة تتعرض لها غزة منذ خمسة أشهر.
  • ولا تزال منظمات الإغاثة تحذر من أن هذه الإنزالات مجرد تشتيت بشع للأنظار، عدا عن كونها غير فعالة ومكلفة للغاية. فقد وصف فيليبو لازاريني، المفوض العام لوكالة الأونروا، عمليات الإنزال الجوي بأنها "تشتيت للانتباه وتمويه"، مؤكداً أن "الجوع الذي تسبّب فيه البشر لا يمكن معالجته إلا عبر إرادة سياسية حقيقية". ودعا إسرائيل إلى "إنهاء الحصار، وفتح المعابر، وضمان التنقل الآمن والوصول الإنساني الكريم للمحتاجين". من جانبه، قال سياران دونيلي، نائب رئيس لجنة الإنقاذ الدولية، إن إسقاط المساعدات من الجو "لن يكون قادراً على تلبية حجم أو جودة المساعدات المطلوبة على الإطلاق".
  • وتقول السلطات المحلية في غزة إنه لا يوجد بديل عن توزيع المساعدات عبر البر داخل قطاع غزة، حيث تسقط المساعدات الجوية في مناطق تسيطر عليها قوات الاحتلال. وبحسب الحكومة في غزة فإن المساعدات الجوية تُسرق ولا تصل إلى مستحقيها. وفيما يخص مراكز توزيع المساعدات، تقول الحكومة المحلية إن "مؤسسة غزة الإنسانية" لا تحمل أي صفة للإنسانية كما يزعم القائمون عليها، حيث يقتل يومياً العشرات من الفلسطينيين في مراكز المساعدات رمياً بالرصاص٬ وسط غياب وسائل الإسعاف والنقل.
  • وتقول وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" إن الإسقاط الجوي للمساعدات في غزة يحدث ضجة إعلامية لكن ليس له أي تأثير على الأرض. وتشير الوكالة الأممية إلى أن ما ألقي على قطاع غزة من خلال الإنزالات الجوية يساوي أقل من 1% من حاجة قطاع غزة اليومية. ويؤكد وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، توم فليتشر أن واحدًا من كل ثلاثة فلسطينيين بغزة لم يأكل منذ أيام.
  • من جهتها٬ وصفت حركة "حماس" مؤخراً عمليات الإنزال الجوي بأنها "مسرحية هزلية"، مؤكدة أن إدخال الغذاء والدواء فوراً وبطريقة كريمة هو التعبير الجدي والحقيقي عن جدوى استمرار المفاوضات.
  • ومنذ 2 مارس/آذار الماضي، صعّد الاحتلال الإسرائيلي استخدامه لسلاح التجويع بشكل علني، بإغلاقه الكامل لكافة معابر قطاع غزة، منتهكاً اتفاق التهدئة الموقع في 18 يناير/كانون الثاني، والذي نص على إدخال 600 شاحنة مساعدات و50 شاحنة وقود يومياً إلى قطاع غزة.

مراكز "المساعدات" التي أنشأها ترامب ليست حلاً بل هل المشكلة

  • ومع ارتفاع أعداد الشهداء اليومي في مراكز التوزيع هذه التي تحولت لمصائد موت مرعب للشباب والكبار والنساء وحتى الأطفال٬ تتعرض خطة الرئيس الأمريكي ترامب -المعتمدة من قبل إسرائيل- والتي يزعم أنها صممت لحل لمشكلة المجاعة٬ لانتقادات شديدة دولياً وعالمياً ومن جانب منظمات العمل الإنساني التي تقول إنها تحولت لمشكلة بحد ذاتها وتزيد مأساة الشعب الفلسطيني في غزة٬ ولن تفعل شيئا يذكر لوقف المجاعة الواسعة النطاق الناجمة عن قرار إسرائيل بحصار 2.3 مليون إنسان وقطع المساعدات عنهم.
  • ويقول موقع The intercept الاستقصائي الأمريكي إن خطة ترامب هو تقديم المساعدات لسكان غزة غامضة وسخيفة٬ وصرح ترامب للصحفيين يوم الثلاثاء الماضي على متن طائرة الرئاسة الأمريكية أن "إسرائيل ستشرف على مراكز توزيع الغذاء لضمان التوزيع السليم". وقد كرر المسؤولون الإسرائيليون ادعائهم غير الموثوق بأن "حماس تحوّل مسار المساعدات الغذائية لصالحها"، وهو ادعاء رفضته المنظمات الإنسانية على نطاق واسع، مبررين بذلك تعمد تضييق الخناق على تدفق المساعدات إلى غزة وتهميش منظمات الإغاثة القائمة في المنطقة وعلى رأسها الأونروا.
  • وفي الأشهر التي سبقت صرخة الأسبوع الماضي من جانب المتظاهرين في الدول الأوروبية والمسؤولين في الأمم المتحدة بشأن خطورة المستوى الذي وصلت له المجاعة في غزة٬ اعتمدت إدارة ترامب إلى حد كبير على الترويج لـ"مؤسسة غزة الإنسانية" لتوزيع المساعدات الغذائية٬ والتي يديرها ضباط وجنود متقاعدون ومرتزقة أمريكيون يشاركون الجنود الإسرائيليين في إهانة الفلسطينيين وإطلاق الرصاص وقنابل الغاز على المجوعين٬ مما أسفر عن سقوط مئات الضحايا وآلاف الجرحى من الشباب والنساء والأطفال٬ مثل الطفل الأمير الذي قبل يد جندي أمريكي قدم له المساعدات وقتله جيش الاحتلال بعد ذلك بقليل.
  • ومنذ تشديد الحصار على غزة٬ كانت ما تسمى بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، وهي منظمة مجهولة الهوية وحديثة الإنشاء تدعمها الحكومتان الأمريكية والإسرائيلية، القناة الرئيسية للمساعدات الأمريكية لسكان غزة المجوعين. وقد وافقت وزارة الخارجية الأمريكية على تمويل بقيمة 60 مليون دولار أمريكي للمؤسسة.
  • لكن صحيفة "واشنطن بوست" كذبت يوم الأحد الماضي تصريحات الخارجية الأمريكية٬ وقالت إن وزارة الأمريكية خصصت 30 مليون دولار فقط لهذا الغرض، ولم يُحوّل سوى 3 ملايين دولار إلى ما يسمى "صندوق غزة الإنساني" حتى الآن. وقالت الصحيفة: إنه على الرغم من ادعاءات الرئيس ترامب المتكررة بأن الولايات المتحدة ساهمت بمبلغ 60 مليون دولار لتلبية الاحتياجات الغذائية في غزة، إلا أن التعهدات الأمريكية لم تتجاوز نصف هذا المبلغ، ولم يُسلم منه سوى جزء ضئيل.
  • يأتي هذا في الوقت الذي أعلن فيه "المكتب الإعلامي الحكومي" في قطاع غزة أن "الاحتلال يواصل هندسة التجويع والحصار والفوضى ويمنع دخول 22,000 شاحنة مساعدات متكدسة على معابر قطاع غزة٬ غالبيتها تابعة لمنظمات أممية ودولية وجهات متعددة، ويمنع الاحتلال إدخالها عمداً ضمن سياسة ممنهجة لـ"هندسة التجويع والحصار والفوضى"، في إطار جريمة الإبادة الجماعية المستمرة ضد أكثر من 2.3 مليون إنسان في قطاع غزة".

قتل وذل وإهانة.. جيش الاحتلال يمتهن كرامة نساء غزة في "مصائد الموت" الأمريكية

  • في السياق٬ تقول الصحفية في وكالة "صفا" الفلسطينية مادلين خلة٬ إن ما يسمى بمراكز توزيع المساعدات الأمريكية-الإسرائيلية تتعمد امتهان كرامة نساء غزة٬ حيث تجبر النساء على الوقوف في طوابير طويلة تحت لهيب الشمس، بانتظار الحصول على بعض المساعدات الشحيحة٬ فيما كان يتعمد جيش الاحتلال بفتح النيران على النساء خلال انتظارهن المساعدات مما أدى لاستشهاد وإصابة العديد منهن٬ بحسب شهادات نقلتها الوكالة الفلسطينية.
  • وتنقل الصحفية مادلين خلة رواية إحدى النساء التي تدعى "أم زهير"، والتي تنطلق كل يوم نحو منطقة الشاكوش غربي مدينة رفح، وتسير مشياً على الأقدام لساعات طويلة متحاملة على جوعها، لكنها كانت تعود خالية الوفاض محملة بآلام جسدها.
  • تقول أم زهير: "في مراكز المساعدات وقفنا في طوابير طويلة، ولم نرَ سوى أربعة طرود حصلت عليها عشر نساء، ثم طلبوا منا المغادرة، وعندما اعترضنا، رشّونا بغاز الفلفل". وتضيف "إحدى النساء كانت قد أحضرت صغيرها فاحترق جسده ولم تعد الرؤية واضحة، ثم بدأ الرصاص ينهال علينا من كل حدب وصوب حتى سقطت النساء أرضًا من الذعر والخوف والتعب".
  • وتتابع أم زهير: "أخذت النسوة بالركض والنجاة بحياتهن وكأنه يوم القيامة دون النظر خلفهن، لقد كانت مصيدة، وليس مركز لتلقي المساعدات.. خرجتُ للحصول على بعض الطعام لصغاري كون زوجي كفيف ولا يستطيع إعالة الأسرة، إلا أنني وقعت في شباك الموت لأنجو منه بأعجوبة".
  • لم تكن "أم زهير" الوحيدة التي اضطرها الجوع للتوجه نحو "مصائد الموت"، بل كانت شبيهاتها كُثر، لتعود الحاجة "إم إسماعيل" (56 عاماً) خالية الوفاض تجر أذيال الخيبة، بعدم حصولها على قوت لأسرتها. تقول "أم إسماعيل" للصحفية مادلين خلة: "لقد رأينا إهانة وذل، ذهبتُ لإحضار الطعام لي ولزوجي، لا نملك شيئًا نأكله، ولم أتخيل أن أتعرض للاهانة بهذه الطريقة". وتضيف: "كنت أمنع أولادي من الذهاب هناك، خشية أن يأتيني أحدهم بكيس، وعندما سمعتُ عن يوم النساء، قررت الذهاب إلا أنني عُدت برصاصة في قدمي اليسرى". وتؤكد أن المعاملة هناك كانت وحشية وتتشابه كثيرًا مع ما يحدث للشباب، فالرصاص والدخان والإهانة اللفظية والدهس على المصابات والشهداء كان سيد الموقف.
تحميل المزيد