تحت ضغط الانتقادات الدولية المتزايدة، أعلنت الحكومة الإسرائيلية مؤخراً أنها سمحت بدخول مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة، في محاولة لتخفيف وطأة الاتهامات بارتكاب جرائم تجويع جماعي. غير أن الوقائع الميدانية تكشف عن صورة مختلفة تماماً: فحجم المساعدات التي دخلت لا يقترب من الحد الأدنى المطلوب لتفادي المجاعة، وغالبها انتهى في يد عصابات مسلحة تعمل بتنسيق مع جيش الاحتلال، وسط حالة من الفوضى المقصودة التي تمنع وصول الإغاثة إلى مستحقيها.
فما حقيقة ما سُمح بدخوله من مساعدات؟ ومن يسيطر فعلياً على توزيعها؟ وما دور الاحتلال في تفكيك شبكات التوزيع وتأمين الغطاء للعصابات؟ وما حجم الفجوة بين الكميات المتاحة وما يحتاجه الفلسطينيون في القطاع فعلاً يومياً للبقاء على قيد الحياة؟
منذ 2 مارس/آذار الماضي، صعّد الاحتلال الإسرائيلي استخدامه لسلاح التجويع بشكل علني، بإغلاقه الكامل لكافة معابر قطاع غزة، منتهكاً اتفاق التهدئة الموقع في 18 يناير/كانون الثاني، والذي نص على إدخال 600 شاحنة مساعدات و50 شاحنة وقود يومياً إلى قطاع غزة.
منذ إغلاق المعابر بدأت المواد الغذائية تنفد تدريجياً من الأسواق. مع الوقت، تفاقمت معاناة السكان، وظهرت عليهم علامات واضحة لسوء التغذية، خصوصاً مع النقص الحاد في الحليب، اللحوم، الدواجن، والخضراوات. كما شمل الحظر دخول الأدوية ومستلزمات النظافة، ما أدى إلى تدهور خطير في الصحة العامة. ووفق تقارير طبية، فقد انهارت أجهزة المناعة لدى كثير من السكان، وأصبحت أجسامهم غير قادرة على مقاومة الأمراض المنتشرة.
إذ لم يعد الجسد الغزّي يملك ما يكفي من القوة لمواجهة الحياة، ناهيك عن مقاومة أبسط الأمراض. أجهزة المناعة انهارت تماماً، وأصبح الأطفال يصارعون المرض بلا دواء، وجوعاً بلا طعام. كبار السن يذبلون يوماً بعد يوم، يسقطون بصمت وسط عجز مطبق.
Primeira página do jornal francês Libération pic.twitter.com/vZ7Mww1KNt
— Comunidade Cultura e Arte (@comculturaearte) July 24, 2025
وبحسب وزارة الصحة في غزة، أسفر هذا الحصار الغذائي الخانق عن موت 133 فلسطينياً، من بينهم 87 طفلاً، خلال هذه الفترة فقط. ويعود ذلك إلى منع الاحتلال إدخال أكثر من 80 ألف شاحنة مساعدات ووقود منذ مارس/آذار وحتى اليوم.
هل تم إدخال مساعدات مؤخراً؟
على وقع مشاهد الجوع والانهيار الإنساني غير المسبوق في قطاع غزة، والتي لم يعد ممكناً إنكارها حتى من قبل حكومات وصحف غربية يمينية تُعرف بدعمها للاحتلال، تصاعدت المطالبات الدولية لوقف سياسة التجويع التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي. ومع تصاعد الضغوط من المؤسسات الأممية، والتحركات الشعبية الغاضبة في العالمين العربي والأوروبي، أعلن جيش الاحتلال، يوم السبت 26 يوليو/تموز، السماح بإدخال المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الشاحنات العالقة على الجانب المصري من معبر رفح، وذلك عبر معبر كرم أبو سالم.
لكن الإعلان، رغم ما رافقه من تغطية إعلامية وتصريحات سياسية، لم يعكس واقعاً حقيقياً لتخفيف الكارثة. فقد اقتصر إدخال المساعدات على 87 شاحنة فقط عبر كرم أبو سالم ومنفذ زيكيم شمال القطاع، وأشرفت إسرائيل على سرقتها، وفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
أما عمليات الإسقاط الأولية التي شاركت فيها إسرائيل، الأردن، والإمارات، فلم تتجاوز في الواقع عدداً ضئيلاً من الشاحنات، وأسفرت عن إصابة ما لا يقل عن 10 أشخاص، وفقاً لتقرير المجلس الأطلسي الأمريكي.
وتحذر منظمات الإغاثة من أن هذه الإجراءات مجرد تشتيت بشع للأنظار، عدا عن كونها غير فعالة ومكلفة للغاية.
فقد وصف فيليبو لازاريني، المفوض العام لوكالة الأونروا، عمليات الإنزال الجوي بأنها "تشتيت للانتباه وتمويه"، مؤكداً أن "الجوع الذي تسبّب فيه البشر لا يمكن معالجته إلا عبر إرادة سياسية حقيقية". ودعا السلطات الإسرائيلية إلى "إنهاء الحصار، وفتح المعابر، وضمان التنقل الآمن والوصول الإنساني الكريم للمحتاجين".
⭕️ المفوض العام للأونروا: أسوأ سيناريو للمجاعة يحدث الآن في #غزة
— عربي بوست (@arabic_post) July 29, 2025
◾️ أعلن المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أن "أسوأ سيناريو للمجاعة يحدث الآن في غزة"، وفقاً لأبرز الخبراء العالميين.
◾️ وقال إن "عتبة المجاعة قد تم تجاوزها بالفعل، حيث… pic.twitter.com/4Y0YIS19LC
من جانبه، قال سياران دونيلي، نائب رئيس لجنة الإنقاذ الدولية، إن إسقاط المساعدات من الجو "لن يكون قادراً على تلبية حجم أو جودة المساعدات المطلوبة على الإطلاق".
ورغم أن الإعلان الإسرائيلي عن السماح بدخول بعض المساعدات تزامن مع تصريحات رسمية مصرية تحدّثت عن إدخال مئات الشاحنات يومياً، إلا أن لجنة الطوارئ المركزية في قطاع غزة نفت صحة هذه الروايات، مؤكدة في بيان رسمي أن ما يُنشر من أرقام "لا يعكس الواقع إطلاقاً"، بل "يُساهم في تضليل الرأي العام و'تجميل صورة' تقصير فادح ومؤلم في تلبية الحد الأدنى من احتياجات القطاع".
وأشار البيان إلى أن التصريحات المصرية الأخيرة بشأن ما يُسمى بـ"الجهود لتخفيف المعاناة"، تُعد في جوهرها تبريراً للتقاعس عن أداء واجب إنساني وأخلاقي وعربي تجاه أهل غزة.
وأوضح البيان أن ما يُعلن عن دخول مساعدات عبر معبر رفح "لا وجود له على الأرض"، وأن عمليات الإخلاء الطبي لا تغطي إلا نسبة ضئيلة من الجرحى والمرضى، وتتم بآليات بطيئة ومهينة.
كما حمّل البيان السلطات المصرية مسؤولية تقاعسها الإنساني، داعياً إلى فتح فوري وغير مشروط لمعبر رفح، وإلغاء التنسيق المعقّد الذي يعيق دخول الإغاثة والوقود، مع المطالبة بنشر الأرقام الحقيقية بدلاً من "صناعة وهم التضامن".
واختتمت اللجنة بيانها بدعوة مصر إلى الخروج من موقع "الوسيط المحايد" والانحياز إلى موقف أخلاقي حاسم، يليق بثقلها و"دورها العربي، وموقعها الطبيعي، وواجبها القومي، ودورها الذي ينتظره الفلسطينيون والعرب جميعاً".
ورغم الشهادات الدولية والوقائع الميدانية، يواصل رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو — المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم حرب — إنكار مسؤولية حكومته عن سياسة التجويع، ويقول: "يُصوَّر الأمر وكأن إسرائيل تشن حملة تجويع في غزة. يا لها من كذبة صارخة. لا توجد سياسة تجويع، ولا توجد مجاعة في غزة."
هذا في وقت كانت فيه الشاشات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي تعرض صور أطفال بوجوه غائرة وعيون غائرة.
وقد تبع تصريحاته تكذيب حتى من داخل أكثر الدول الداعمة لإسرائيل. إذ قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب: "بعض هؤلاء الأطفال، هذا هو الجوع الحقيقي… لا يمكنك تزييف ذلك"، داعياً إسرائيل إلى السماح بدخول "كل ذرة غذاء" إلى غزة.
كيف تُسرق المساعدات؟
في ظل رفض الاحتلال الإسرائيلي تأمين نقل المساعدات إلى مخازن المؤسسات الدولية العاملة في قطاع غزة، تبقى الكميات القليلة التي يُسمح بدخولها عالقة في نقاط توزيع عشوائية، أو تحت سيطرة جهات غير رسمية، ما يفاقم حالة الفوضى. ويتجمع يومياً مئات الآلاف من الفلسطينيين أمام المعابر ومراكز التوزيع، يقطع كثير منهم مسافات طويلة سيراً وسط الخطر، دون أي ضمان للحصول على شيء، في مشهد يتحول في كثير من الأحيان إلى ساحة صراع على الفتات، أو إلى كمين دموي تنصبه نيران الاحتلال.
ووفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن "الاحتلال ارتكب مجزرة مركّبة، بدأت برفض إدخال شاحنات المساعدات، قبل أن يستهدف عناصر تأمينها التابعة للعشائر والعائلات، ما أدى إلى مقتل 11 شخصاً"، مضيفاً أنه "بعد التأكد من قتلهم، فتح الاحتلال المجال لإدخال الشاحنات، لتقع في يد عصابات إجرامية ولصوص تحت حمايته المباشرة بالطائرات المسيّرة، والرصاص الحي والمباشر تجاه المواطنين".
وكانت مصادر خاصة من القطاع قد كشفت لـ"عربي بوست" في وقت سابق أن العصابات المسؤولة عن سرقة المساعدات تنشط بشكل رئيسي قرب معبري كرم أبو سالم ورفح، وتتمتع بحماية مباشرة من جيش الاحتلال، ما يمنع الأجهزة الأمنية الفلسطينية من ملاحقتها أو احتوائها. وتُعدّ عصابتا شادي الصوفي وياسر أبو شباب أبرز تلك المجموعات، حيث تشير المصادر إلى أن الصوفي محكوم بالإعدام في قضية قتل، وأُفرج عنه مع اندلاع الحرب نتيجة الظروف الأمنية، في حين يواجه أبو شباب سجلاً حافلاً بقضايا جنائية، أبرزها الاتجار بالمخدرات.

ورغم خلفيته الجنائية، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية اليمينية، المعروفة بانحيازها لإسرائيل، مقالاً لياسر أبو شباب، قدّم فيه نفسه كممثل لـ"إدارة فلسطينية غير تابعة لحماس"، وزعم أن مجموعته المسلحة نجحت في "إبعاد الجماعات المسلحة" عن شرق رفح، حيث "يحصل الناس على الغذاء والماء والمأوى دون خوف من سرقة حماس للمساعدات أو التعرض لنيران الجيش الإسرائيلي"، بحسب تعبيره.
وتنسجم هذه الرواية انسجاماً كاملاً مع الخطاب الإسرائيلي الرسمي الذي يسعى إلى تحميل الفوضى في القطاع للمقاومة، في تجاهل فاضح لما وثقته منظمات دولية ومحلية حول مسؤولية إسرائيل المباشرة عن تعطيل إيصال المساعدات الإنسانية، ومنع المؤسسات الدولية من أداء مهامها، واستهداف طواقمها، وتفكيك شبكات التوزيع المحلية. كما تثبت المعطيات الميدانية أن الاحتلال يفتح المجال عمداً أمام عصابات مسلّحة محلية تعمل بتنسيق معه، للاستيلاء على المساعدات، وفرض الفوضى كواقع حتمي.
فبحسب تقرير "للمجلس الأطلسي"، تتعمد الحكومة الإسرائيلية تجويع القطاع الفلسطيني، وهو واقع اعترفت به مؤخراً منظمتان إسرائيليتان حقوقيتان. التقرير الصادر عن منظمة بتسيلم حمل عنوان: "إبادتنا"، فيما نشرت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان الإسرائيلي تقريراً بعنوان: "إبادة جماعية في غزة".
فبحسب تلك التقارير، تمنع إسرائيل بشكل منهجي إدخال المساعدات، وأقامت حواجز وعقبات تحول دون وصول القليل المسموح به بشكل آمن، وروّجت لسرديات كاذبة تهدف إلى تشويه سمعة المجتمع الإنساني وتبرير منعها للمساعدات. ومن بين هذه الادعاءات المتكررة أن حماس تسرق المساعدات، أو أن المنظمات الإنسانية تعمل مع حماس.
ويوضح التقرير كيف صنعت إسرائيل "عاصفة خبيثة مثالية" لضمان نهاية بطيئة ومؤلمة لسكان غزة، رغم أن جيشها نفسه، وفقاً لتقرير نشرته "نيويورك تايمز"، "لم يعثر قط على دليل يُثبت أن حركة حماس قامت بسرقة المساعدات الأممية بشكل منهجي"، بحسب اثنين من كبار مسؤولي الجيش الإسرائيلي واثنين آخرين مطلعين على المسألة.
الإضافة إلى ذلك، فإن شحّ المساعدات، ونهبها الممنهج تحت إشراف الاحتلال، مقارنة بالاحتياجات اليومية الملحة لسكان غزة، لا يُظهر أي نية لتخفيف الكارثة، بل يُستخدم كأداة لإدارة الضغط الدولي المتزايد تجاه الاحتلال.
ما حجم المساعدات المطلوبة فعلاً لإنقاذ غزة؟
بحسب تقديرات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية:
- يحتاج قطاع غزة إلى 600 شاحنة مساعدات يومياً لتأمين الحد الأدنى من الاحتياجات.
- ما لا يقل عن 500 ألف كيس طحين أسبوعياً لضمان توفير الخبز.
- و250 ألف علبة حليب شهرياً لإنقاذ حياة 100 ألف رضيع دون العامين، بينهم 40 ألف طفل تقل أعمارهم عن عام.
ولن يكون لهذه الأرقام أي أثر دون السماح الفوري بدخول المساعدات وتسليمها للمؤسسات الدولية المعتمدة لتوزيعها، مع فتح المجال أمام إدخال البضائع للقطاع الخاص، لتأمين المواد الغذائية والسلع الأساسية التي يحتاجها الفلسطينيون يومياً.
Israel continues to starve the people of Gaza. pic.twitter.com/RPbgi38poc
— TIMES OF GAZA (@Timesofgaza) July 25, 2025
ماذا يحاول الاحتلال أن يفعل؟
تعيش غزة اليوم واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخها. لم يعد القتل مقتصراً على القصف، بل امتد ليأخذ شكل موت بطيء بسبب الجوع. الأجساد الهزيلة تنهار، ولم تعد تقوى على الوقوف أو الانتظار، فقد بدأت تأكل نفسها من شدة الجوع. وبحسب المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية، حنان بلخي، فإن قطاع غزة يواجه واحدة من أشد أزمات الجوع في العالم، نتيجة مباشرة لحرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب الحصار الخانق المفروض على القطاع.
ويرى العديد من المحللين أن ما يحاول الاحتلال الإسرائيلي فعله في هذه المرحلة لا يتعلق فعلاً بإنقاذ حياة المجوعين في غزة، بل بإنقاذ صورته أمام الرأي العام الدولي. فبعد أن أصبحت صور الهزال والمجاعة في غزة أكبر من قدرة الإعلام الغربي على التجاهل، إذ لم يعد ممكناً إنكار الكارثة.
وتحت ضغط التصعيد الأخلاقي من الشعوب، والأمم المتحدة، ومنظمات إنسانية، بل وحتى من حلفاء تقليديين مثل فرنسا وبريطانيا، لجأت إسرائيل إلى استراتيجية تخفيف الضغط دون تغيير الواقع، من خلال السماح بدخول شحنات قليلة من المساعدات أو إسقاطها جواً، مع تضخيمها إعلامياً باعتبارها بادرة إنسانية.
لكن الحقيقة أن هذه العمليات ليست سوى ستار رملي سياسي، يُستخدم لتقويض الاتهامات الدولية المتصاعدة باستخدام المجاعة كسلاح حرب.