على الرغم من التفوق العسكري الذي مكنته لها الولايات المتحدة على مدار عشرات السنوات، فإن الحروب التي تخوضها إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كشفت هشاشتها، وأنها لم تتمكن من تحقيق الهيمنة الإقليمية، رغم أن عمرها كـ"دولة" بلغ 74 عاماً.
ومنذ تأسيسها على أنقاض النكبة الفلسطينية عام 1948، تمكنت إسرائيل، بالاعتماد على تفوقها العسكري عبر الدعم الغربي، خاصة الأمريكي، من ترسيخ نفوذ كبير في المنطقة، لكنه محصور بالنفوذ الأمني حتى الآن.
فيما كشفت عملية "طوفان الأقصى"، وما تلاها من حرب على غزة، ومواجهة مع حزب الله في لبنان، وتصعيد كبير مع إيران على جولتين، أن إسرائيل دولة ما زالت غير قادرة على الاعتماد على نفسها، وتواجه طموحاتها لتصبح القوة المهيمنة في الشرق الأوسط عقبات هيكلية وسياسية واجتماعية تتجاوز قدراتها العسكرية.
ومؤخراً، وبعد حرب استمرت 12 يوماً مع إيران، زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن "إسرائيل" وضعت نفسها في مصاف القوى العالمية الكبرى.
لكن المعطيات تذكر غير ذلك، ومن شواهدها تصريحات رؤساء الولايات المتحدة الذين يتفاخرون بـ"إنقاذ إسرائيل"، كاشفين عورة دولة الاحتلال التي تعتاش على المعونات العسكرية الأمريكية والغربية.
وقبل أن يتحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تصريحاته الأخيرة بأنه "أنقذ إسرائيل" بعد حربها على إيران، فقد سبقه الرئيس السابق جو بايدن، بتبني "إنقاذ إسرائيل" بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
هل حققت إسرائيل الهيمنة الإقليمية؟
والهيمنة الإقليمية اصطلاح يُستخدم لوصف دولة ما لديها القدرة على التأثير في نطاق جغرافي أو إقليم محدد، وفي تعريف آخر: هي "دولة تنتمي إلى منطقة محددة جغرافياً، وتهيمن على هذه المنطقة من الناحية الاقتصادية والعسكرية، وقادرة على ممارسة الهيمنة الإقليمية في المنطقة وعلى الصعيد العالمي".
يقول البروفيسور الأمريكي ستيفن والت، إن القوى المهيمنة الإقليمية تتمتع بقوة هائلة مقارنة بجيرانها، لدرجة أنها لم تعد تواجه أي تهديدات أمنية كبيرة منهم، وليس لديها قلق من ظهور منافس حقيقي في أي وقت.
وعلى سبيل المثال، أشار والت في مقال على مجلة "فورين بوليسي" إلى نموذج الولايات المتحدة في بداية القرن العشرين، حيث انسحبت القوى العظمى الأخرى من نصف الكرة الغربي، ولم يعد بإمكان أي دولة أو مجموعة في المنطقة أن تضاهي مزيج القوة الاقتصادية والإمكانات العسكرية الأمريكية.

وباستثناء أزمة الصواريخ الكوبية، التي تضمنت قيام قوة خارجية (الاتحاد السوفيتي) بإرسال صواريخ نووية إلى نصف الكرة الغربي، لم تواجه الولايات المتحدة أي تحدٍ عسكري كبير من داخل نصف الكرة الغربي منذ أواخر القرن التاسع عشر.
وقد سمح هذا الوضع المتميز لواشنطن بتركيز سياساتها الخارجية والدفاعية على أوراسيا، بهدف منع أي قوة أخرى من تحقيق وضع مماثل داخل أي منطقة ذات أهمية استراتيجية.
لكن إسرائيل، كما يذكر البروفيسور الأمريكي، لا تستوفي هذا المعيار، مشيراً إلى التحدي الذي يشكله الحوثيون حتى الآن، وكذلك حركة حماس في قطاع غزة، رغم الدمار الهائل الذي ألحقه الجيش الإسرائيلي بالقطاع.
ورغم عدم وجود دولة أو تحالف عربي يضاهي إسرائيل اليوم، فإن كلاً من تركيا وإيران تمتلكان قوات عسكرية ضخمة وعدداً سكانياً أكبر بكثير، ويمكن لكل منهما بناء دفاع قوي في حال نشوب حرب شاملة.
ما هي أبرز الشواهد على أن إسرائيل ليست دولة ذات هيمنة إقليمية؟
أولاً: حدود قوتها العسكرية
في عام 2024، زاد الإنفاق العسكري الإسرائيلي بنسبة 65% ليصل إلى 46.5 مليار دولار، بفعل الحروب التي تخوضها، لتكون هذه الكلفة الحربية هي الأكبر منذ حرب الأيام الستة عام 1967.
ورغم هذا الإنفاق الضخم والمتزايد، فإن الهجمات التي شنتها إسرائيل على غزة ولبنان وإيران، لم تتمكن من إضعاف حركة حماس أو حزب الله، اللتين لا تزالان جماعتين تعملان كقوة صامدة ضد إسرائيل.
وتشير مجلة "الدبلوماسية الحديثة" إلى أن هجمات يونيو/حزيران 2025 على إيران، على الرغم من تسببها في أضرار جسيمة، لم تتمكن من إيقاف البرنامج النووي الإيراني بالكامل.

في هذا الإطار، يقول المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هارئيل، إن الصدمة التي أحدثتها الهجمات على المواقع والصواريخ، واغتيال كبار المسؤولين، ومقتل كبار العلماء النوويين في إيران، قد تدفع المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، إلى التخلي عن "الفتوى القديمة" التي كانت تحرم ظاهرياً إنتاج الأسلحة النووية، كما أن الخشية من هجمات جديدة قد تقابلها غريزة البقاء لدى النظام الإيراني، الذي قد يدرك حاجته إلى الأسلحة النووية للدفاع عن نفسه أكثر من ذي قبل.
ورغم أن عقيدة القوة العسكرية الإسرائيلية قامت على ثلاث طبقات أساسية تنسب إلى ديفيد بن غوريون، وهي: الردع، والإنذار، و"النصر الحاسم"، بحسب معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، إلا أنها فشلت جميعها بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبحسب مجلة "الدبلوماسية الحديثة"، فإن إخفاقات إسرائيل منذ 7 أكتوبر، تشير إلى أن القوة العسكرية الإسرائيلية، على الرغم من كونها مدمرة، لا يمكن أن تؤدي إلى هيمنة دائمة، حيث تستمر المقاومة الإقليمية ضدها.
ثانياً: الاعتماد على الولايات المتحدة
على الرغم من قوتها العسكرية، تعتمد إسرائيل اعتماداً كبيراً على دعم الولايات المتحدة وأوروبا.
وتقول مجلة "فورين بوليسي"، إنه على مدى عقود، ورغم التقدم المطرد في التكنولوجيا العسكرية والتدريب وجمع المعلومات الاستخبارية، اعتمدت إسرائيل بشكل حاسم على تحالفها مع الولايات المتحدة في معظم نجاحها.
وعندما سئل خبير العلاقات الدولية في جامعة حيفا، بنيامين ميلر، عما إذا كانت إسرائيل قادرة على الاستغناء عن الدعم الأمريكي، أجاب بكلمة واحدة: "لا".
وتتلقى إسرائيل 3.8 مليارات دولار سنوياً كمساعدات أمريكية عسكرية، أما على الساحة الدولية، فإن الدعم السياسي غير متناهٍ في المؤسسات الأممية، وخاصة الأمم المتحدة.
في هذا الإطار، يوضح ميلر أن الولايات المتحدة "إذا أوقفت دعمها في مجال التسلح، فستُشكّل هذه مشكلة كبيرة لإسرائيل".

وبفضل حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الولايات المتحدة في مجلس الأمن لصالح إسرائيل، أُحبطت عدة قرارات تتعلق بوقف إطلاق النار في غزة خلال الأشهر القليلة الماضية وحدها.
وهذا الاعتماد يخلق ضعفاً استراتيجياً، فإذا انخفض الدعم الغربي، إما بسبب التغيرات في السياسات الداخلية الأمريكية أو الضغط العالمي لمحاسبة إسرائيل على انتهاكات حقوق الإنسان، فستفقد إسرائيل قدرتها على الحفاظ على وضعها الحالي، بحسب المجلة.
ويشدد الخبير الأمريكي والت، أن القوة المهيمنة الإقليمية الحقيقية لا يتعين عليها الاعتماد على الآخرين للهيمنة على جوارها، وإسرائيل تفعل ذلك.
كما تتطلب الهيمنة الإقليمية الحقيقية الاكتفاء الذاتي الاستراتيجي، وهو ما تفتقر إليه إسرائيل.
علاوة على ذلك، فإن الإجراءات العدوانية مثل عملية "الأسد الصاعد" تزيد من خطر جرّ الولايات المتحدة إلى صراع أوسع، مما قد يقلل من الدعم الغربي.
ويُظهر هذا الهشاشة أن إسرائيل، بدلاً من أن تكون قوة مهيمنة، تعمل بشكل أكبر كلاعب معتمد على القوى الأجنبية، بحسب مجلة "الدبلوماسية الحديثة".
ثالثاً: الافتقار إلى الشرعية الإقليمية
يذكر الخبير الأمريكي والت، أن الهيمنة الإقليمية الدائمة تتطلب من الدول المجاورة قبولاً بمركز القوة المهيمنة، وإلا ستظل الأخيرة قلقة من تجدد معارضتها في المنطقة، وستُجبر على اتخاذ إجراءات مضادة.
وأوضح أن هذه سمة حسن الجوار غير موجودة مع إسرائيل، كما أن النفوذ المتزايد للقوى اليمينية والمتطرفين فيها يضعف من احتمالية ذلك.
كما أن احتلال الضفة الغربية وشرق القدس وحرب غزة وقمع الفلسطينيين، التي أدانتها منظمات حقوق الإنسان باعتبارها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، قد صورت إسرائيل كقوة قمعية.
ولم تُغضب هذه السياسات الفلسطينيين فحسب، بل منعت أيضاً دول المنطقة، بما في ذلك الجهات الفاعلة القوية مثل تركيا وقطر، من قبول إسرائيل كقوة مهيمنة، وإقامة علاقات معها.
وبحسب مجلة "الدبلوماسية الحديثة"، فإنه حتى الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، تحافظ على هذه العلاقات إلى حد كبير لأسباب معينة وتحت ضغط غربي، وليس من باب قبول هيمنة إسرائيل.