من قدامى محاربين في أمريكا إلى أطباء وأمهات في أوروبا.. هكذا أضربت أجساد عن الطعام فقط من أجل غزة!

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/08 الساعة 14:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/08 الساعة 14:07 بتوقيت غرينتش
تعبيرية - عربي بوست

"لا يمكن للمرء أن يكون شديد الحساسية تجاه العالم دون أن يشعر بالحزن مراراً." — عالم النفس والفيلسوف الألماني إريك فروم

في 30 يونيو/حزيران، اقترب مايك فيرنر من واجهة مبنى بعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وسكب جالوناً من دم البقر على زجاجها. ثم أشار إلى الدم المتساقط على النوافذ قائلاً: "تفضلوا، الولايات المتحدة، هذا بعض من الدم! أنتم تحبون سفكه في كل أنحاء العالم؟ خذوا منه إذن!"

لم يكن ذلك فعلاً استعراضياً، بل ربما صرخة يائسة، ففيرنر هو المدير الوطني السابق لمنظمة "قدامى المحاربين من أجل السلام"، ولم يكن وحده في ذلك النهار. فقد تبع ذلك المشهد الرمزي مسيرة صامتة شارك فيها رفاقه من المنظمة، جابت محيط المبنى الأممي حتى وصلت إلى القنصلية الإسرائيلية، حيث تمدد المحتجون على الأرض، وقطعوا حركة المرور بأجسادهم، فتلك التظاهرة – التي جمعت بين سكب الدم، والمشاركة الجماعية في المسيرة، والاعتصام الأرضي – لم تكن سوى الخاتمة العلنية لصيامٍ دام أربعين يوماً، نظمته "قدامى المحاربين من أجل السلام" للمطالبة بالسماح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، ولوقف الدعم العسكري الأميركي للاحتلال الإسرائيلي.

في هذا العالم المترع بالوفرة، هناك من يختار الجوع طواعية. لا لأنه راهب، ولا لأنه يريد أن يعاقب نفسه، بل لأنه لم يجد وسيلة أكثر نقاءً لرفض تلك الإبادة المستمرة منذ 21 شهراً. لا يملك فيرنر ورفاقه طائرات مقاتلة، ولا منصة، ولا جيشاً… فقط أجسادهم الهشة، وإيمانهم بأن الإنسان يمكنه، رغم كل شيء، أن يظل إنساناً. في شوارع أوروبا وأمريكا وجامعاتها، وفي غرف صغيرة حيث لا كاميرات ولا تصفيق، هناك من يربط جسده الهش بجراح غزة.

فهل يمكن حقاً أن يجوع الإنسان من أجل آخر لا يعرفه؟ أن يتألم كي يشارك الألم إنساناً آخر في مكان لا تراه عيناه؟ أن يصوم مقاوماً؟ في هذا المقال، نقتفي أثر من اختاروا أن يواجهوا جريمة الإبادة بالجوع… من آمنوا أن الخسارة الكبرى ليست فقدان الطعام، بل فقدان الضمير.

قدامى المحاربين في أمريكا صاموا من أجل أطفال غزة

على مدار ما يقرب من عامين، حول الاحتلال الإسرائيلي المجاعة إلى سلاحٍ ممنهج ضد الفلسطينيين في غزة. جوعٌ يفتك بالبشر كما تفعل القذائف؛ ثم، إثر قليل من الضغط الدولي، يُسمح بمرور شحنات محدودة من الطعام، فتهدأ الأزمة مؤقتاً، قبل أن يُعاد تشديد الحصار مجدداً، ليقتل الجوع من لم تصبه نيران الطائرات والصواريخ الإسرائيلية الموجهة بعناية.

ومنذ 22 مايو/أيار وحتى 30 يونيو/حزيران 2025، أطلقت منظمة "قدامى المحاربين من أجل السلام" في الولايات المتحدة، بالتعاون مع عدد من المنظمات المتحالفة، حملة صيام لمدة 40 يوماً تحت شعار "صيام من أجل غزة". انضم نحو 800 شخص من داخل الولايات المتحدة وخارجها إلى هذا الصيام، مطالبين بإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل كامل وتحت إشراف الأمم المتحدة، ووقف شحنات الأسلحة الأميركية إلى إسرائيل.

وبحسب مجلة ذا نيشن الأميركية، كان نشطاء "قدامى المحاربين من أجل السلام" حريصين على التمييز بين صيامهم والإضراب عن الطعام المفتوح. ومع ذلك، لم تخلُ مشاركتهم من المخاطر. بعد عشرة أيام، طُلب من ناشط يبلغ 72 عاماً التوقف عن الصيام لتجنب فشل أعضائه. وبعد ثلاثة أسابيع، أُدخل فيرنر – الذي قاد الحملة – والبالغ من العمر 74 عاماً، إلى المستشفى، وأُبلغ أن مستويات البوتاسيوم في جسده "لا تتوافق مع الحياة". ردّ فيرنر، ببساطة مفجعة: "سكان غزة لا يملكون هذا الخيار. إنهم فقط يموتون".

بينما جوي ميتزلر، البالغة من العمر 23 عاماً، شاركت في الصيام بصفتها عضوة في "قدامى المحاربين من أجل السلام"، فقد التحقت سابقاً بسلاح الجو الأميركي بعد أن نشأت في ظلال ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، مؤمنةً بأن بلادها تمثل العدالة والسلام العالمي، وأن هذه القيم لا تُحمى إلا بالقوة. فتخرجت من أكاديمية سلاح الجو في يونيو/حزيران 2023، ثم التحقت ببرنامج دراسات عليا في هندسة الطيران. لكن في الشهر ذاته، بدأت القنابل تتساقط على غزة، وبدأت معها قناعاتها الأولى تتصدع.

ومع اتساع رقعة القمع ضد اعتصامات الطلاب في الجامعات الأميركية، بدأت ميتزلر تقترب من نشطاء "قدامى المحاربين"، وبدأت تسأل، لا عن غزة فقط، بل عن دور بلادها العسكري في العالم بأسره. وفي يونيو/حزيران التالي، كانت من المعتصمين في الشارع أمام مقر الأمم المتحدة، تصوم احتجاجاً، بعد أن كانت قبل عام تتدرّب على حمل السلاح.

رغم تلك الجهود النبيلة، استمرت الإبادة، وأخذ اهتمام الإعلام يتضاءل – وهي معضلة وجودية للناشطين الذين تعتمد فاعلية صيامهم على التعاطف الشعبي. يقول فيرنر إن مجموعة "قدامى المحاربين" لم تنجح في لفت انتباه وسائل الإعلام الكبرى، رغم التزامها لأربعين يوماً.

في المقابل، لم تتراجع الإدارة الأميركية عن دعم الاحتلال وجرائمه في غزة، بل واصلت دعمها بلا مواربة. فاستمرت الأسلحة في التدفق نحو آلة الاحتلال، والدعم السياسي لم يتزعزع، بل تصاعد.

واستمر قمع الإدارة الأميركية لملاحقة وقمع الأصوات الداعمة لفلسطين، لوأد أي محاولة للتضامن، فـ"قدامى المحاربين من أجل السلام" لم يكونوا وحدهم. فمع انطلاق الدعوة في مايو/أيار 2025، لبّى النداء تحالف من سكان ولاية مين الأميركية، معلناً انضمامه إلى إضراب عن الطعام لمدة 40 يوماً، من أجل غزة. وقد أعلن "تحالف مين من أجل فلسطين" حينها أن بعض المشاركين سيكتفون باستهلاك 250 سعرة حرارية يومياً، في محاكاة لواقع 90% من سكان غزة تحت الحصار، فيما صام آخرون على نمط رمضان، أي الامتناع عن الطعام كلياً أو الاكتفاء بالماء من الفجر حتى الغروب.

التجويع كسلاح إبادة.. ماذا يحدث لجسد الإنسان حين يُمنع من الطعام؟
الجوع يضرب قطاع غزة بسبب إغلاق المعابر – shutterstock

وفي مدينة شيكاغو، بدأ 12 ناشطاً من منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" إضراباً مفتوحاً في 16 يونيو/حزيران، مطالبين بوقف الإبادة ورفع الحصار وإنهاء الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل. لكن في 4 يوليو/تموز، وبعد 18 يوماً بلا طعام، أنهى أربعة منهم الإضراب، بعد أن اعتُقلت الناشطة آش بويرر وناشط آخر من المشاركين، إضافة إلى ستة من أعضاء المنظمة، على يد عناصر من وزارة الأمن الداخلي، بعد محاولتهم لقاء السيناتورة تامي داكوورث داخل مكتبها.

قبل ذلك، كانت آلاء، وهي أم فلسطينية تعيش في غزة، قد بعثت لهم برسالة كتبت فيها: "أن تربطوا أجسادكم بجسد أم مثلي، لا تعرف ما إذا كانت ستتمكن من إطعام أطفالها غداً، هو إعلان بأن حياتنا لا تزال ذات قيمة. من قلب هذه الكارثة، أقول لكم: نحن نراكم، نشعر بكم، وأفعالكم تصل إلينا حتى وإن ظلت الحدود مغلقة".

طلاب الجامعات الأميركية يصومون من أجل غزة

ورغم زيادة القمع في الجامعات الأميركية وملاحقة الطلاب داخل وخارج أسوار الحرم الجامعي، امتدّ الصدى. ففي جامعة ييل، بدأ طلاب إضراباً عن الطعام في 10 مايو/أيار. وفي كاليفورنيا، أطلق أكثر من 30 طالباً من نظام جامعات ولاية كاليفورنيا (CSU)، وجامعة ستانفورد، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA) إضرابات مماثلة في مطلع الشهر ذاته، "تضامناً مع مليوني فلسطيني يواجهون خطر المجاعة في غزة".

في جامعة ستانفورد وحدها، واصل نحو عشرين طالباً صيامهم حتى منتصف يونيو/حزيران، مطالبين بسحب استثماراتها من الشركات "التي تجني أرباحاً من حصار غزة"، وإسقاط التهم الموجهة إلى الطلبة والخريجين الذين اعتقلوا خلال احتجاجات العام الماضي، ورفع القيود المفروضة على حرية التعبير بعد تفكيك الاعتصام، إلى جانب مطالب أخرى.

أما في جامعة ولاية سان فرانسيسكو، أنهى الطلاب إضرابهم عن الطعام في 12 مايو/أيار بعد التوصل إلى اتفاق مع الإدارة، تعهدت بموجبه بتوسيع تنفيذ سياسة الانسحاب من الاستثمارات، والعمل نحو شراكة أكاديمية مع جامعات فلسطينية، إلى جانب التزامات أخرى. وكانت الجامعة قد أعلنت في وقت سابق عن قرارها سحب استثماراتها من شركات تصنيع الأسلحة، في سياسة "غير مخصصة لمنطقة بعينها"، بحسب ما أفادت صحيفة الغارديان.

من قدامى محاربين في أمريكا إلى أطباء وأمهات في أوروبا.. هكذا أضربت أجساد عن الطعام فقط من أجل غزة!
صورة أرشيفية لقوات مكافحة الشغب الأمريكية تعتقل طالبة في جامعة "تكساس" خلال مظاهرة تضامنا مع غزة/ رويترز

وفي جامعة ولاية كاليفورنيا لونغ بيتش، أنهى الطلاب إضراباً عن الطعام استمر 12 يوماً، مؤكدين في بيان: "هذا ليس تراجعاً، بل إدراك أن أجسادنا تحتاج إلى التعافي حتى نتمكن من مواصلة هذا النضال المشترك بقوة متجددة".

وفي جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس (UCLA)، نُقلت الطالبة مايا عبد الله إلى المستشفى في اليوم التاسع من إضرابها، بحسب فرع "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" في الجامعة.

حين اختار أطباء وفنانون وأمهات في أوروبا الجوع.. فقط من أجل غزة

لم يقتصر الإضراب عن الطعام من أجل غزة على الولايات المتحدة، ففي فرنسا، وإيرلندا، واسكتلندا، وبلجيكا، قرر أطباء وممرضون وأمهات وفنانون أن يُجَوِّعوا أجسادهم، لا حباً في الألم، بل رفضاً لصمت الحكومات، ولامبالاتها.

في مارسيليا، في 31 مارس/آذار، أطلق أطباء فرنسيون عادوا من غزة مبادرة "جائعون من أجل العدالة لفلسطين"، أعلن فيها عشرون منهم الإضراب عن الطعام، تنديداً بما وصفوه بـ"التواطؤ الأوروبي" مع الإبادة المستمرة، فقال الدكتور باسكال أندريه، الذي بدا منهكاً حينها وهو يتحدث أمام مجلس الشيوخ الفرنسي: "نحن جوعى للعدالة، عطشى للعدالة"، وأضاف وهو يشير إلى نسخة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان معلقة على الجدار: "إذا بقينا صامتين، فإن الشعب الفلسطيني ليس وحده من يموت، بل هذا الإعلان أيضاً".

وفي إسكتلندا، وخلال شهر مايو/أيار 2025، دخلت مجموعة من 20 أماً إسكتلندية في إضراب عن الطعام، احتجاجاً على ما يتعرض له المدنيون في قطاع غزة. كان الصيام على هيئة نوبات متناوبة لمدة 48 ساعة لكل مشاركة، في محاولة للفت الأنظار إلى المجاعة المتفاقمة، والمطالبة بتحرك سياسي عاجل. قالت كات، وهي أم لثلاثة أطفال، بحدة وغضب: "رئيس الوزراء ووزير الخارجية يعلمان تماماً ما يجري… دماء هؤلاء الأطفال ستكون على أيديهما".

في إيرلندا، اختارت حينها الشابة صوفي ني خويمين (27 عاماً) أن تبدأ إضراباً مفتوحاً عن الطعام، حتى يُقر البرلمان "قانون المناطق المحتلة"، ويعود الغذاء إلى أطفال غزة. صوفي، وهي من مدينة كيلدير وتقيم في مدينة غالواي، كانت قد قالت لصحيفة Irish Independent إنها شاركت طويلاً في التظاهرات المناهضة للعنف الإسرائيلي، وذكرت أنها المغنية الرئيسية في فرقة غالواي المحلية "Kettle Boilers"، التي نظمت خلال العام الماضي فعاليات دعم وجمع تبرعات لفلسطين.

لكن مع استمرار الحرب، لم تعد هذه التحركات كافية في نظرها، ووصفت جهود الحكومة الأيرلندية بأنها "غير مجدية". وقالت: "لقد مُنعت المساعدات، وبالتالي لم تعد حملات التبرع وكل أنشطة المجتمع المدني التي كنا نقوم بها فعالة… فاضطررتُ لاختيار الخيار الأكثر راديكالية دون أن أؤذي أحداً".

من قدامى محاربين في أمريكا إلى أطباء وأمهات في أوروبا.. هكذا أضربت أجساد عن الطعام فقط من أجل غزة!
أمهات غزة – shutterstock

وأضافت، بصوت تغمره المسؤولية الأخلاقية: "إنه تضامن مع الجائعين هناك، محاولة للارتباط بمعاناتهم. لديّ الكثير من الأطفال الرائعين في حياتي… ولم أعد أستطيع أن أرى أطفالاً يموتون جوعاً". واختتمت بعبارة تكشف عن ثقل الشعور: "صرت أفكر في غزة طوال الوقت… إلى درجة أشعر معها بالذنب حين أتناول الطعام".

ورغم هذا النبل الإنساني الذي تجلّى في أجساد أضربت عن الطعام من أجل الفلسطينيين في غزة، فلم يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على الاحتلال، ولم يتزحزح الموقف الأميركي. بل ذهبت واشنطن أواخر الشهر الماضي إلى ما هو أبعد من الدعم العسكري التقليدي، حين حرّكت طائراتها الحربية وقنابلها الأشد فتكاً لقصف إيران، لا دفاعاً عن مواطنيها، بل حمايةً لأمن الاحتلال وقادته المتطرفين.

في الوقت نفسه، شدد جيش الاحتلال قبضته على غزة، فارضاً أطول حصار شامل منذ بداية الحرب، ولا يزال مستمراً حتى اليوم. وقد أطلقت الأمم المتحدة خلاله سلسلة تحذيرات من خطر المجاعة الشامل، فيما جاء التطور الأشد فظاعة الشهر الماضي، حين استدرج جيش الاحتلال الإسرائيلي مدنيين جائعين إلى نقاط توزيع الغذاء التابعة لمؤسسة إنسانية مدعومة أميركياً، ثم أطلق النار عليهم، ما أدى إلى مقتل مئات بهذه الطريقة.

تحميل المزيد