"في كثير من الأحيان، بدا وكأن الـBBC تقوم بمهام العلاقات العامة للحكومة والجيش الإسرائيليين." كانت هذه شهادة موظفين من داخل هيئة الإذاعة البريطانية نفسها.
فأكثر من 100 صحفي في BBC وقّعوا على رسالة موجّهة إلى الإدارة، يعبّرون فيها عن غضبهم من التغطية المنحازة لإسرائيل، وتحول الهيئة – كما قالوا – إلى "أداة علاقات عامة للحكومة والجيش الإسرائيليين"، وفضّل هؤلاء الموظفون البقاء مجهولي الهوية، خشية التعرّض لعقوبات تهدد مستقبلهم المهني.
فوفقاً لمقال لأحد صحفيي "BBC" في مجلة جاكوبين الأمريكية في شهر مايو/أيار 2025، يخشى المحررون في هيئة الإذاعة البريطانية توبيخ رؤسائهم بسبب تقارير لا تروق للحكومة الإسرائيلية.
وفي الرسالة، كتبوا: "نكتب إليكم لنعرب عن قلقنا من القرارات التحريرية الغامضة ومن الرقابة المفروضة على تغطية هيئة الإذاعة البريطانية لأحداث إسرائيل/فلسطين. نعتقد أن رفض بثّ الفيلم الوثائقي 'غزة: مسعفون تحت النار' ما هو إلا حلقة في سلسلة طويلة من القرارات الخاضعة لأجندات معيّنة. وهو يُظهر، مرة أخرى، أن الـBBC لا تنقل الأحداث 'بدون خوف أو محاباة' عندما يتعلق الأمر بإسرائيل."
وتلفت الرسالة إلى أن قرار حجب الفيلم الوثائقي لم يكن مهنياً، بل اتخذته إدارة الـBBC رغم أن المحتوى نال الموافقات التحريرية الكاملة وفقاً لإرشادات المؤسسة. هذا، برأي الموقّعين، يكشف عن "قرار سياسي" – كما جاء في الرسالة – أن الهيئة "مشلولة بفعل الخوف من أن تُتّهم بانتقاد الحكومة الإسرائيلية."
هذه الرسالة، بحسب الموقّعين، لم تكن مطلباً بانحياز لطرف، بل "دعوة إلى يُسمح لنا بأداء عملنا، بنقل الحقائق بشفافية وبالسياق اللازم."
تغطية تساهم في نزع الإنسانية عن الفلسطينيين
وهذا لم يكن المشهد الوحيد الذي يعكس الانحياز، إذ رُصدت دراسة تحليلية واسعة شملت أكثر من 600 مقال و4000 منشور مباشر على موقع BBC بين 7 أكتوبر/تشرين الأول و2 ديسمبر/كانون الأول 2023، سجّلت الصحفية منى شلبي — الكاتبة في الغارديان — أن التغطية استخدمت نمطاً لغوياً متكرراً يُسهم في نزع الإنسانية عن الضحايا الفلسطينيين.
فبينما يُشار إلى القتلى الفلسطينيين بأوصاف ضبابية مثل "أشخاص" أو "سقط عدد من الناس"، وربما حتى بدون فاعل كما في الجملة: "150 ماتوا اليوم في غزة جرّاء العمليات الإسرائيلية العسكرية"، في المقابل، تُصوّر التقارير القتلى الإسرائيليين بأسماء وأوصاف تعكس علاقاتهم الأسرية والاجتماعية مثل "أم"، و"جدة"، و"صديق"، و"أخ"، و"ابن"، و"حفيدة".

وفي مشهد آخر يعكس الانحياز في التغطية للجانب الإسرائيلي، أظهر تحقيق لموقع "ديكلاسيفايد" البريطاني كيف أن التغطية الإخبارية للـBBC تُغفل عن عمد واحدة من أخطر القضايا الاستراتيجية في المنطقة: الترسانة النووية الإسرائيلية.
تحليل موقع "ديكلاسيفايد" أظهر أن هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) تفشل منهجياً في تقديم تغطية متوازنة حول الترسانة النووية الإسرائيلية، على الرغم من التغطية الواسعة التي قدمتها للغارات الإسرائيلية والأمريكية على إيران خلال يونيو/حزيران الماضي.
فبينما وُظفت مئات المقالات والخرائط والتحليلات لشرح برنامج إيران النووي ومخاطر "تخصيب اليورانيوم"، لم يُذكر امتلاك إسرائيل لأسلحة نووية – والتي تُقدَّر بـ90 إلى 300 رأس نووي بحسب معهد ستوكهولم لأبحاث السلام – إلا في ست مقالات فقط من أصل 103 نُشرت خلال الفترة، وغالباً كجملة عابرة في نهاية النصوص: "يُعتقد على نطاق واسع أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية، رغم أنها لا تؤكد ولا تنفي ذلك."
ورغم أن العديد من مقالات الـBBC حول إيران تنقل تصريحات مسؤولين إسرائيليين حول البرنامج النووي الإيراني، فإن الهيئة تفشل في الاستعانة بمصادر مستقلة بشأن الأسلحة النووية الإسرائيلية.
ويشير التقرير إلى تجاهل BBC المتكرر لحقيقة أن إسرائيل ليست طرفاً في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، وأنها تعتمد سياسة "الغموض النووي" وتمنع أي تفتيش دولي على منشآتها.
في المقابل، نُقلت اتهامات إسرائيل المتكررة لإيران دون فحص نقدي، وتُرك الجمهور البريطاني دون أي إشارة إلى ازدواجية المعايير النووية، أو إلى واقع أن الدولتين المهاجمتين (الولايات المتحدة وإسرائيل) تمتلكان فعلياً ترسانات نووية ضخمة، بينما الدولة المستهدفة (إيران) لا تمتلك سلاحاً نووياً.
غضب من الانحياز
تُسلّط رسالة موظفي BBC الضوء على اسم محوري داخل المؤسسة، إذ جاء في الرسالة: "لم يحدث ذلك صدفة، بل وفق تصميم واضح. الكثير من تغطية الـBBC في هذا المجال تحكمها نزعة عنصرية ضد الفلسطينيين. إن الطريقة المتضاربة التي تُطبّق بها التوجيهات التحريرية، تُسلّط الضوء على دور السير روبي غيب، عضو مجلس إدارة الـBBC وعضو لجنة المعايير التحريرية. ونحن قلقون من أن يكون لشخص على صلة وثيقة بصحيفة Jewish Chronicle – التي نشرت مراراً محتوى معادياً للفلسطينيين، وعنصرياً في كثير من الأحيان – تأثير في قرارات الـBBC التحريرية، بما في ذلك قرار عدم بثّ "غزة: مسعفون تحت النار".
ولا يخفون شكوكهم من تأثير غيب، فبحسب الرسالة: "في المقابل، يواصل غيب شغل منصب مؤثر دون شفافية كافية حول قراراته، رغم وضوح ميوله الأيديولوجية. لم يعد بإمكاننا أن نطلب من دافعي رسوم الترخيص أن يتجاهلوا انحيازات غيب الأيديولوجية."
وسبق أن نشرت منصة MintPress في يناير/كانون الثاني 2025 تقريراً استعرض فيه الصحفي آلان ماكليود تأثير رافي بيرغ، رئيس تحرير قسم "الشرق الأوسط" في BBC، على الخط التحريري المتعلق بتغطية الأحداث في فلسطين والمنطقة.
وأشار التقرير إلى أن بيرغ يضطلع بدور في صياغة المحتوى المتعلق بالصراع، بدءاً من العناوين والصور وحتى انتقاء المصطلحات وتحديد الزوايا التحريرية. ووفقاً لما ورد، فإن توجهاته التحريرية تعكس تركيزاً ملحوظاً على إبراز الرواية الإسرائيلية، في مقابل حضور محدود أو مشكك فيه للرواية الفلسطينية.
كما تطرّق التقرير إلى خلفية بيرغ الأكاديمية، مشيراً إلى دراسته "الدراسات اليهودية والإسرائيلية" في الجامعة العبرية بالقدس، ومشاركته السابقة في تظاهرة داعمة لإسرائيل في لندن عام 2009.
وفي جانب آخر، أشار التقرير إلى علاقات بيرغ المهنية والشخصية مع شخصيات إسرائيلية بارزة، من بينها داني ليمور، المسؤول السابق في جهاز الموساد، والذي تعاون معه في إعداد كتاب عن الجهاز. وذكر التقرير أن بيرغ أعرب في مقابلات عن تقديره الشديد للموساد، وظهر مكتبه مزيناً بصور تجمعه مع مسؤولين إسرائيليين، إضافة إلى رسالة شكر من يائير نتنياهو، نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي، تعبيراً عن الامتنان.
الصحافة الاستعمارية
هذا النوع من الانحياز ليس استثناءً، بل يعكس نمطاً أعمق في العديد من المنصات الإعلامية الغربية، فبسبب ارتباطاتها المؤسسية الوثيقة بأفكار الهيمنة الغربية، كما أشار أحد المحررين في الـBBC في مقال له.
ويرى أستاذ الصحافة دايا ثوسو، من جامعة هونغ كونغ المعمدانية، الذي قضى ثلاثة عقود يدرس الصحافة والاتصال في جامعة غولدسميث البريطانية وركّز في أبحاثه على الهيمنة والانحياز الغربيين في الإعلام، أن هذا "انحياز بنيوي". ويرجع ذلك إلى بنية ذهنية استعمارية تشكل العمود الفقري لما يصفه بـ"وسائل الإعلام المسؤولة عن وضع أجندة الأخبار في العالم" (Agenda-setting media).
استمدّت المؤسسات الإعلامية الكبرى، مثل رويترز البريطانية، والوكالة الفرنسية للأنباء، وأسوشييتد برس الأمريكية، وبي بي سي، ونيويورك تايمز، وواشنطن بوست، نفوذها العالمي من إرث طويل في صناعة الإعلام ومن سمعتها المهنية الراسخة في تغطية القضايا المحلية. وإلى جانب انتمائها إلى الدول العظمى التي وضعت أسس النظام الدولي الحالي، أصبحت هذه المؤسسات النموذج المثالي للممارسين الإعلاميين والجمهور على مستوى العالم.
لقد تحوّلت هذه المؤسسات إلى مصانع لإنتاج الأخبار ومُحدِّدات للأجندات الخبرية، حيث تعتمد غالبية وسائل الإعلام على اشتراكات في خدماتها للحصول على الأخبار العاجلة، إلى جانب المواد الصوتية والمرئية المصاحبة، وفقاً لتقرير معمق لموقع حبر.
وقد نشأت الصحافة الحديثة في الغرب مع اختراع التلغراف في منتصف القرن التاسع عشر، مما أتاح ولادة وكالات الأنباء الدولية، مثل وكالة رويترز البريطانية التي اتخذت من لندن، عاصمة الإمبراطورية الاستعمارية، مقراً لها.
ومع توسّع النفوذ البريطاني في العالم، نمت رويترز جنباً إلى جنب مع هذا التوسّع، حيث صُمِّمت سياساتها التحريرية لخدمة الاحتياجات الاستعمارية، كما يوضح دايا ثوسو في ورقة أكاديمية نشرها عام 2022 في مجلة الدراسات الصحفية التابعة لأكسفورد.
ويؤكّد ثوسو أن تغطية غزة مثال صارخ على هذا الانحياز البنيوي، إذ يقول: "ثمة تاريخ طويل لتمثيل هذه المؤسسات لمصالح السياسة الخارجية لبلدانها سابق على غزة؛ من فيتنام، وأميركا اللاتينية، إلى العراق وأفغانستان. لك أن تنظر للطريقة التي يقدمون بها الصين أو روسيا أو الهند اليوم".
هذا الامتداد التاريخي يضع ما تفعله BBC ضمن سياق أوسع من التحيّز المؤسسي الذي يخدم مصالح القوة، لا الحقائق. وهو ما تؤكده أيضاً أعمال نقدية أخرى، من بينها كتاب "السابع من أكتوبر: تقصّي حقائق وأكاذيب اليوم الذي غيّر العالم" للصحافي البلجيكي ميشيل كولون بالتعاون مع جان بيير بوشي. في هذا الكتاب، يقدّم الكاتبان تفكيكاً دقيقاً للتناول الإعلامي الأوروبي، خصوصاً الناطق بالفرنسية، ليوم 7 أكتوبر وما تلاه من عدوان.

ويكشفان في كتابهما عن كثير من النتائج التي توصّلا إليها فيما يخصّ التغطية الإعلامية الغربية المشينة للإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل منذ ما يزيد على العام ضد قطاع غزة، قبل أن تتوسّع اليوم لتشمل لبنان واليمن وسوريا والعراق وإيران.
فعبر استعراض مئات المواد المرئية والأرشيفية، يكشف المؤلفان عن تواطؤ هذه المنصات الإعلامية في الترويج لسردية إسرائيلية متحيزة، تصف الفلسطينيين بأنهم معتدون، بينما تُمنح إسرائيل حق الدفاع عن النفس تحت ذريعة "حرب الحضارة ضد البربرية"، كما يروّج بنيامين نتنياهو، المطلوب دولياً بتهم ارتكابه جرائم حرب.