من بيغن إلى نتنياهو: ماذا نعرف عن عقيدة إسرائيل لتدمير “النووي الإسلامي”؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/06/25 الساعة 12:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/06/25 الساعة 12:47 بتوقيت غرينتش
تعبيرية - عربي بوست

في يونيو/حزيران من عام 1981، اجتمع رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي مناحيم بيغن مع قادة جيشه في جلسة مغلقة، أعقبتها ضربة جوية مفاجئة دمّرت مفاعل "تموز" النووي في العراق. لم يكن بيغن آنذاك يعلن موقفاً ظرفياً، بل كان يؤسّس لما بات يُعرف لاحقاً بـ"عقيدة بيغن" — التي ترى أن أي مشروع نووي عربي أو إسلامي، حتى وإن كان سلمياً، يُعد تهديداً وجودياً للاحتلال ومشروعه الاستيطاني يُستوجب إجهاضه قبل أن يُولد.

واليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود، يخطو رئيس وزراء الاحتلال والمطلوب دولياً بتهم جرائم حرب بنيامين نتنياهو على خُطى سلفه، لكن بأدوات أشد تعقيداً وأهداف أوسع. ففي يونيو/حزيران 2025، شنّ الاحتلال الإسرائيلي – بدعم لوجستي واستخباراتي أميركي – هجوماً مشتركاً غير مسبوق على منشآت إيران النووية، في هجوم وصفته الإدارة الأميركية بـ"الناجح والدقيق"، بينما اعتبره نتنياهو "خطوة أولى في إعادة صياغة الشرق الأوسط على أسس جديدة"، حسب تعبيره في خطاب ألقاه عقب الضربة أمام الكنيست.

من بيغن إلى نتنياهو، لا يتغير المبدأ، بل تتسع شهية القوة. فلقد أصبحت "عقيدة التدمير المسبق" أساساً بنيوياً في الاستراتيجية الإسرائيلية، عقيدة لا تكتفي بتدمير المفاعل، بل تذهب لتقويض الدولة التي تحمله.

فمنذ السبعينيات، خاضت إسرائيل حملات معقّدة لتقويض كل محاولة عربية أو إسلامية لبناء برنامج نووي: من غارات جوية على العراق وسوريا، إلى عمليات تجسس وتفكيك في ليبيا وباكستان، إلى حرب مفتوحة مع إيران – تتراوح أدواتها بين اغتيال العلماء، وتفجير المنشآت، وهجمات سيبرانية، وفرض هندسة دولية لعزل إيران سياسياً واقتصادياً.

عقيدة بيغن

في عام 1968، أصدرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تقريراً يفيد بأن الاحتلال الإسرائيلي بدأ بنجاح بإنتاج الأسلحة النووية، وكان الاحتلال قد بنى قدراته النووية سرّاً (بدعم فرنسي في الستينيات)، وبرغم أن الاحتلال لم يعترف يوماً بامتلاكه ترسانة نووية، فإن هذا الغموض المُتعمَّد تحوّل إلى ما يشبه "السر المكشوف" في معادلات القوة في المنطقة، إذ يقول الخبراء إنه من أسوأ الأسرار المخبأة في الشرق الأوسط.

بعد ذلك، بلور الاحتلال – دون إعلان رسمي – عقيدة أمنية، باتت تُعرف لاحقاً باسم "عقيدة بيغن"، نسبة إلى رئيس الوزراء مناحيم بيغن الذي دشّنها فعلياً عام 1981 حين أمر بقصف مفاعل "تموز" النووي في العراق، في أول تطبيق عملي لفكرة الضربة الاستباقية لمنع أي توازن محتمل في الردع الإقليمي.

مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، ومخطّط العمليات الإرهابية لعصابات الإرغون – المصدر: الشبكات الاجتماعية

جوهر هذه العقيدة بسيط في مضمونه، وعنيف في فعله: توجيه ضربة استباقية ضد أي منشأة يرى قادة الاحتلال أنها قد تُفضي إلى سلاح نووي، إذا وُجدت في دولة يعتبرها الاحتلال عدوة أو مهدِّدة لتفوّقه الاستراتيجي. وهي لا تقوم على أدلة قاطعة، بل على تقديرات استخباراتية واستباق نوايا الخصم – ما يجعلها وكأنها سيفاً معلقاً فوق أي طموح نووي في المنطقة، سواء كان لأغراض مدنية أو عسكرية.

وقد جرى تغليف هذا المبدأ بمزاج استراتيجي غربي – أميركي خصوصاً – يرى أن منع انتشار الأسلحة النووية في ما تسميه "الدول المعادية للغرب" هو ضرورة استراتيجية، ما شكّل تقاطع مصالح عميقاً بين واشنطن وتل أبيب، حتى وإن اختلف الطرفان أحياناً على مستوى التوقيت أو الأسلوب، أو على درجات المجازفة السياسية.

العراق 1981

بعد وصول صدام إلى الحكم، سعى لتأسيس قدرة نووية عراقية بمساعدة فرنسية وإيطالية تحت غطاء برنامج نووي سلمي. في عام 1976، وقع العراق اتفاقاً مع فرنسا لبناء مفاعل أبحاث نووي من نوع أوزيريس في مركز التويثة قرب بغداد، أطلق عليه الفرنسيون اسم "أوسيراك"، بينما سمّاه العراقيون "تموز-1" (مع مفاعل أصغر تموز-2). ورغم أن الاتفاق كان للاستخدام السلمي وتحت إشراف وكالة الطاقة الذرية، تربّص الاحتلال الإسرائيلي بالمشروع. ومع بدء بناء المفاعل أواخر 1979، تكثّفت التحريضات الإسرائيلية للغرب على مشروع العراق النووي، وصولاً إلى تلويح بيغن صراحةً بالتحرك العسكري.

بحلول عام 1980، كانت إسرائيل قد شرعت بالفعل في حملة سرية لإفشال المشروع العراقي قبل اكتماله. ففي نيسان/أبريل 1979، تعرّضت معدات نووية مخصصة للعراق للتخريب في ميناء فرنسي قبل شحنها بساعات في عملية غامضة.

وفي حزيران/يونيو 1980، اغتيل عالم الذرة المصري يحيى المشد (الذي كان يعمل مع المشروع العراقي) في غرفته بأحد فنادق باريس؛ ووجدت جثته مصابة بكسور في الجمجمة، فيما اختفت آخر شخص رآه (سيدة فرنسية) إثر حادث غامض بعد أسبوعين.

وذهبت أصابع الاتهام آنذاك إلى جهاز الموساد الإسرائيلي الذي كان قد وضع علماء المشروع العراقي تحت المجهر. فقد شهدت تلك الفترة سلسلة اغتيالات غامضة لعلماء عراقيين أو متعاونين أجانب: فبعد المشد، اغتيل في ديسمبر 1980 المهندس العراقي الكردي عبد الرحمن رسول في باريس (بإطلاق نار مع العثور على "فيروس مجهول" في دمه)، ثم في يونيو/حزيران 1981 عُثر على سلمان رشيد اللامي، العالم النووي العراقي، ميتاً في جنيف. كانت جثته منتفخة بشكل غريب. سجّل طبيب شرعي سويسري أن الوفاة ناجمة عن فيروس مجهول، فأصدر صدام قراراً بمنع سفر العلماء النوويين العراقيين إلى الخارج حفاظاً على حياتهم.

من بيغن إلى نتنياهو: ماذا نعرف عن عقيدة إسرائيل لتدمير
المفاعل النووي العراقي تموز خلال مرحلة البناء/ AFP

في السابع من حزيران/يونيو 1981، أطلقت طائرات إسرائيلية من طراز F-15 وF-16 ستة عشر صاروخاً موجهاً نحو مفاعل "تموز" النووي العراقي في منطقة التويثة قرب بغداد. كل صاروخ كان يحمل قرابة ألف كيلوغرام من المتفجرات، في ضربة واحدة دمّرت قلب المفاعل تماماً. سُمّيت العملية "أوبرا" أو "بابل"، وكانت أول تجسيد فعلي لعقيدة بيغن.

تقول مجلة The National Interest الأميركية إن هذه الغارة وُثقت رغم غموضها، ووُثق كذلك السياق الذي حدثت فيه، باستفاضة، بواسطة توم كوبر وفرزاد بيشوب في مقالة مذهلة نُشرت في مجلة Air Enthusiast في عام 2004، والتي أشارت إلى تنسيقات بين إيران والاحتلال الإسرائيلي لاستهداف المشروع العراقي، تنسيق بين إيران وإسرائيل لتنفيذ الضربة الجوية ضد المشروع النووي العراقي. وأرجع المقال هذا التعاون الاستثنائي إلى مخاوف مشتركة جمعت الطرفين تجاه حشد صدام حسين العسكري وطموحاته الإقليمية في تلك الفترة.

أثار الهجوم الإسرائيلي على أوزيراك إدانات دولية نادرة ضد تل أبيب، حتى من حلفائها. فقد أدانته الولايات المتحدة علناً مدعية عدم علمها المسبق به، وأصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 487 بالإجماع – حالة شبه فريدة عندما تكون إسرائيل هي الطرف المعتدي.

وصف القرار الهجوم بـ"الانتهاك الواضح لميثاق الأمم المتحدة"، ودعا إسرائيل إلى الامتناع عن مثل هذه الأعمال مستقبلاً، رغم ذلك لم تواجه إسرائيل عقوبات عملية تُذكر؛ واستمرت المساعدات الأميركية ولم تتأثر العلاقات الاستراتيجية على المدى البعيد.

لكن كل ذلك لم يردع الاحتلال، ولم يتراجع بيغن، بل استغل ذلك سياسياً مع اقتراب الانتخابات التشريعية داخلياً، في مواجهة خصمه شمعون بيريز الذي كان يعارض العملية. خرج بيغن ليعلن تحمّله "المسؤولية الكاملة عن تلك العملية الاستثنائية"، متعهداً بجعل الحرب الوقائية "التزاماً وطنياً طويل الأمد". قالها بوضوح: "ترك صدام حسين ينتج قنابله النووية سيُضيِّع هذا البلد وهذا الشعب، ولرأينا هولوكوست أخرى في تاريخ الشعب اليهودي."

في المقابل، دفعت الضربة بغداد إلى المُضي قدماً بسرية على طريق السلاح النووي. في كتابه الاعتراف الأخير، يروي د. جعفر ضياء جعفر، رئيس البرنامج النووي العراقي، كيف استدعاه صدام حسين بعد الغارة الإسرائيلية، وسأله: "كيف يكون من المقبول أن تمتلك إسرائيل أسلحة نووية وفي الوقت نفسه يُمنع العرب من تشغيل المفاعلات النووية لأغراض علمية وسلمية؟"

ثم أمره ببناء مفاعل بديل بموارد عراقية خالصة، مؤكداً أن امتلاك السلاح النووي بات "ضرورة ردعية". وأضاف موجّهاً كلامه لرئيس استخباراته آنذاك برزان التكريتي: "أعطوا هذا الرجل كل ما يحتاجه من أجل العراق ومستقبل العراق."

من بيغن إلى نتنياهو: ماذا نعرف عن عقيدة إسرائيل لتدمير
صدام حسين عام 1976 خلال زيارته لباريس والتباحث مع رئيس الوزراء الفرنسي جاك شيراك لانشاء مفاعل نووي عراقي/ AFP

وبالفعل، تحوّل البرنامج العراقي بعد 1981 إلى مشروع سري لتخصيب اليورانيوم تحت ستار العمل على مفاعل جديد للأغراض السلمية. وبحسب جعفر، فإن العراق كان بحلول عام 1990 "قريباً نسبياً من القنبلة"، إذ كانت تحتاج ما بين ثلاث إلى أربع سنوات لإنتاجها، لولا أن غزو الكويت في أغسطس من العام نفسه وفرض العقوبات الأممية لاحقاً أوقف المشروع نهائياً.

بل إن الولايات المتحدة عادت وقصفت ما تبقى من المنشآت النووية العراقية في اليوم الأول من حرب الخليج عام 1991، وأعلن حينها الرئيس جورج بوش الأب أن "البرنامج النووي العراقي لم يعد يشكل تهديداً للسلام الدولي."

لم تتوقف "عقيدة بيغن" عند العراق، بل ستصبح دليل عمل دائم ضد سوريا، ليبيا، إيران، بل وحتى باكستان في مراحل مختلفة.

باكستان: "القنبلة الإسلامية" وحرب الموساد الاستخباراتية

رغم أن باكستان ليست دولة في الشرق الأوسط وتبعد عن إسرائيل جغرافياً، إلا أن برنامجها النووي كانت له ارتدادات إقليمية مهمة في حسابات الاحتلال الإسرائيلي الأمنية، بوصفه أول قنبلة ذرية في دولة ذات غالبية مسلمة.

في عام 1965، قال الرئيس الباكستاني الراحل ذو الفقار علي بوتو: "إذا صنعت الهند القنبلة (النووية)، فسوف نأكل العشب أو الأوراق، بل سنجوع، لكننا سنحصل على قنبلتنا"، وبالفعل بدأت مساعي باكستان لامتلاك السلاح النووي في أعقاب التفجير النووي الهندي عام 1974.

وأخذ العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان على عاتقه مهمة بناء برنامج نووي لبلاده، يمنحها القدرة على "منافسة" خصومها، واكتساب قدرات نووية في المنطقة. وفي هذا الإطار، خاض خان مراحل تعليمية وعملية مختلفة خارج باكستان، للوصول إلى تلك المرحلة.

في المقابل، كان الاحتلال يراقب هذا المشروع عن كثب، ويعدّه خطراً مستقبلياً عليه لا بد من إحباطه. فنفذ الموساد عمليات تخريب ضد شبكة إمداد المشروع في أوروبا، كما شنّ الاحتلال الإسرائيلي حملة دبلوماسية لحشد الضغط الغربي على إسلام آباد. في عام 1979، وجّه مناحيم بيغن رسالةً إلى رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر يُحذّرها فيها من علاقات باكستان بالعقيد الليبي معمر القذافي، حيث كان يخشى أن تمرر باكستان أسلحة نووية إلى ليبيا.

لكن اعتبارات الحرب الباردة جعلت واشنطن ولندن أقل حماسة لاتخاذ إجراءات حاسمة ضد باكستان؛ فالأخيرة كانت حليفاً مهماً في دعم المجاهدين الأفغان ضد السوفييت، مما دفع الغرب إلى التغاضي عن نشاطها النووي مقابل وعود باكستانية مبهمة بعدم إجراء اختبار. مع ذلك، استمر القلق الإسرائيلي، خاصةً بعد نجاح قصف تموز/يوليو 1981 في العراق. وحينها قرأ الجنرالات الباكستانيون رسالة أوزيراك بوضوح: إذا كانت واشنطن تغض النظر، فإن إسرائيل لن تتردد في الضرب منفردة.

وبحلول منتصف الثمانينيات، سادت تقارير عن خطة هندية-إسرائيلية مشتركة لضرب منشأة تخصيب اليورانيوم الباكستانية، ويفصل العميد السابق فيروز حسن خان المخاوف الباكستانية من هجوم إسرائيلي هندي مشترك على منشأة كاهوتا النووية الباكستانية في منتصف الثمانينيات في كتابه أكل العشب، حيث يعمل مفاعل ومنشأة طرد مركزي بناها خان.

كانت العملية المقترحة ستحاكي الضربة الإسرائيلية عام 1981 على مفاعل أوزيراك العراقي. كادت الهند أن تُنفذها. وُضعت الخطط، واختيرت القواعد، وجُهّزت الطائرات. لكن في النهاية، تراجعت نيودلهي.

ويُذكر أن الاستخبارات الأميركية أعلمت باكستان عام 1984 بوجود نوايا هندية إسرائيلية لقصف كاهوتا، مما دفع إسلام آباد إلى إصدار تهديدات مبطنة بالانتقام باستخدام طائرات إف-16 التي حصلت عليها حديثاً من الولايات المتحدة. ولم تكن واشنطن، الحريصة على استخدام باكستان لتسليح المجاهدين الأفغان ضد القوات السوفيتية، في مزاج يسمح لها بتوجيه ضربة هندية إسرائيلية.

ويبدو أن هذا الردع نجح في كبح أي مخطط من هذا النوع، خصوصاً مع تغير المناخ السياسي في الهند بعد مقتل أنديرا غاندي عام 1984. في موازاة ذلك، كان رئيس الأركان الباكستاني الجنرال ضياء الحق يتبع استراتيجية دفاعية مضادة: فبعد تدمير مفاعل تموز العراقي، عمد ضياء إلى تشتيت منشآته النووية وزيادة تأمينها، ونقل بعض البنية التحتية قرب أفغانستان وفي مواقع تحت الأرض، تحسّباً لأي ضربة.

كما حرصت باكستان على خفض بصمة برنامجها النووي إعلامياً كي لا تثير استفزازاً دولياً كبيراً قبل إنجاز المهمة. وبحلول أواخر الثمانينيات، تمكّنت باكستان من إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب وصناعة أول أسلحتها النووية، وفي سبتمبر/أيلول 1986، تمكّنت باكستان من القيام بأول تفجير نووي تحت سطح الأرض، وفق صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، في خطوة تمثّل أبرز إنجاز عسكري حققته باكستان في تاريخها، وما زالت إلى اليوم هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي بلغت مرحلة إنتاج القنبلة النووية.

وتشير مصادر غربية إلى أن العمل الذي أنجزه خان في 6 أعوام في البرنامج النووي لبلاده يستغرق في العادة عقدين من الزمان في الدول الغربية ذات التقاليد الراسخة في مجال الصناعة النووية. وقد ساعده كتمانه الشديد على نجاح مشروع إنشاء القنبلة النووية الباكستانية، كما ساعدته علاقاته بالشركات الغربية ذات الصلة بميدان التخصيب وبناء آلات الطرد المركزي على أن يشتري ما يُعينه على بناء مختبراته وعلى تطوير بحوثه.

وكانت التجارب النووية لباكستان عام 1998 بمثابة تأشيرة دخول إسلام آباد إلى النادي النووي. واحتفت باكستان ببطلها النووي في تلك الفترة بشكل غير مسبوق.

ولكن بعد أن تمكّنت إسلام آباد من صناعة القنبلة النووية، أثار الكشف عن برنامجها النووي ردود فعل غربية؛ حيث مُورست ضغوط على الحكومة الباكستانية، ورُفعت دعوى قضائية في هولندا ضد خان بتهمة سرقة وثائق نووية سرية، قبل أن تُسقط محكمة أمستردام العليا التهم.

وبدأت الدول الغربية تفرض ضغوطاً هائلة اقتصادية وسياسية على باكستان؛ ففرضت واشنطن عقوبات اقتصادية عليها، كما رُفعت قضية على عبد القدير خان بداية الثمانينيات في هولندا تتهمه بسرقة وثائق نووية سرية، وهو أمر نفاه خان وفنّدته حكومة إسلام آباد مراراً، وقد أسقطت التهمةَ محكمةُ أمستردام العليا بعد ذلك.

بدأت المتاعب تلاحق عبد القدير خان منذ عام 2003، حين استُجوِب هو وبعض علماء الذرة الباكستانيين في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه من جانب الأمن الباكستاني بشأن احتمال وجود علاقة بين البرنامجين النوويين في باكستان وإيران، وتسريب أسرار نووية إلى دول مثل ليبيا وكوريا الشمالية.

من بيغن إلى نتنياهو: ماذا نعرف عن عقيدة إسرائيل لتدمير
صورة لمهندس البرنامج النووي الباكستاني عبد القدير خان/رويترز

ومع الضغوط الخارجية ومطالبة الولايات المتحدة باستجوابه، واستمرار التحقيق بشأن الاتهامات الموجهة له، ظهر العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان في 4 فبراير/شباط 2004 على شاشات التلفزيون ليعترف بتسريب أسرار نووية إلى دول أخرى، نافياً أي مسؤولية عن حكومة بلاده.

لكن خان نفسه رأى في ذلك الاعتراف تضحية شخصية من أجل وطنه، حيث قال في مقابلة مع وكالة فرانس برس عام 2008: "أنقذتُ البلاد لأول مرة عندما جعلتُ باكستان دولة نووية، وأنقذتُها مجدداً عندما اعترفتُ (بالذنب) وتحملتُ كل اللوم".

وأثارت قضية "بيعه أسراراً نووية" غضب الجيش أثناء حكم الرئيس السابق برويز مشرف، لكن وبرغم التضييقات الأمنية التي فُرضت عليه طويلاً، فإن خان ظلّ رمزاً قومياً في عيون الملايين من الباكستانيين، الذين رأوا فيه بطلاً أنقذ بلادهم من الهيمنة الخارجية. وبالفعل، في ظل التضامن الشعبي الكبير معه باعتباره بطلاً قومياً، أعلن مجلس الوزراء الباكستاني لاحقاً العفو عن خان.

وقالت وزارة الخارجية الأميركية، في عام 2009، إن خان كان يدير "شبكة دولية واسعة النطاق لنشر المعدات والمعرفة النووية التي وفّرت محطة تسوّق للدول التي تسعى إلى تطوير أسلحة نووية". ووصفت وزارة الخارجية الأميركية أعمال هذه الشبكة بأنها "غيّرت بشكل لا رجعة فيه مشهد انتشار الأسلحة النووية، وكانت لها آثار دائمة على الأمن الدولي".

وهكذا بقيت باكستان هي الحالة الوحيدة التي نجحت في امتلاك سلاح نووي في العالم الإسلامي رغماً عن أنف الاحتلال.

سوريا: تدمير موقع الكبر 2007

بعد ذلك بحوالي عقدين، وتحديداً في منتصف العقد الأول من الألفية، بدأت سوريا مساراً نووياً سرياً بالتعاون مع كوريا الشمالية، في محاولة لبناء قدرة ردع سيادية تحفظ توازن المنطقة في وجه احتكار الاحتلال الإسرائيلي المطلق للسلاح النووي.

المشروع الذي تطوّر بهدوء في منطقة الكُبر، شرق سوريا، كان تعبيراً عن حق مشروع لدولة مستقلة في امتلاك تكنولوجيا نووية، تماماً كما تمتلكه عشرات الدول الأخرى حول العالم. تميّز الموقع بدرجة عالية من الكتمان، إذ بُني في عمق الصحراء بعيداً عن المدن وبدون إعلان أو حتى إبلاغ للوكالة الدولية للطاقة الذرية.

من بيغن إلى نتنياهو: ماذا نعرف عن عقيدة إسرائيل لتدمير
صورة بالأقمار الصناعية لمنشأة قيل إنها المفاعل النووي السوري عام 2007 (Getty)

لكن بالنسبة للاحتلال، لا يُسمح لأي قوة عربية أو إسلامية، حتى وإن كانت تنوي تطوير برنامج سلمي، بأن تقترب من حدود التقنية النووية.

وفي مارس/آذار 2007، تجاوزت إسرائيل مرة أخرى الخطوط الحمراء الأخلاقية والدبلوماسية، حين نفّذ عملاء الموساد عملية تجسسية في قلب العاصمة النمساوية فيينا. استهدفوا شقة إبراهيم عثمان، رئيس هيئة الطاقة الذرية السورية، خلال مشاركته في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وخلال ساعة واحدة فقط، اقتحم العملاء الشقة، وسرقوا معلومات بالغة السرية من حاسوبه الشخصي، قبل أن ينسحبوا دون أثر.

وقد ترافق هذا التصعيد مع قلق أميركي متزايد. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، سعى حافظ الأسد لبناء قاعدة نووية سلمية بالتعاون مع روسيا والأرجنتين، إلا أن هذه الجهود أفشلها الضغط الأميركي المتواصل.

وعندما عادت سوريا في أواخر 2006 لتحريك مشروعها، بدأ الاحتلال بجمع معلومات استخباراتية عن احتمال تجدد النشاط النووي. كما كانت هناك شكوك حول مبنى ضخم "غامض" قيد الإنشاء في صحراء شمال شرق سوريا، وفقاً لما قاله الجنرال مايكل هايدن، مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك.

تأكدت الشكوك بأن دمشق تبني مفاعلاً بالتعاون مع كوريا الشمالية على غرار مفاعل "يونغبيون" لإنتاج البلوتونيوم المستخدم في الأسلحة النووية. اعتبر الإسرائيليون ذلك انتصاراً استخباراتياً كبيراً مكّنهم من رصد المشروع قبل اكتماله، وهرع رئيس الموساد مئير داغان لعرض هذه الصور في واشنطن على مستشار الأمن القومي الأميركي ستيفن هادلي، في لقاء وُصف بأنه صادم للأميركيين، إذ لم يكن بحوزتهم معلومات مماثلة.

كان حينها الاحتلال في عجلة من أمره؛ فبحسب التقديرات، كان المفاعل سيصبح جاهزاً للعمل خلال أشهر، ما يعني أنه "سيصبح حارّاً" ومشحوناً بالوقود الإشعاعي، مما يجعل ضربه عسكرياً أكثر خطورة وتلويثاً.

لكن إدارة جورج بوش الابن ترددت في القيام بعمل عسكري ضد المفاعل السوري، لعدة أسباب سياسية واستخباراتية، حيث كانت مصداقية الاستخبارات الأميركية قد تضررت بشدة بعد خطأ تقدير أسلحة الدمار الشامل في العراق عام 2003، فبدا مجتمع الاستخبارات الأميركي حذراً من تبنّي ضربة استباقية جديدة تستند إلى معلومات سرية.

من بيغن إلى نتنياهو: ماذا نعرف عن عقيدة إسرائيل لتدمير
إيهود أولمرت وجورج بوش/ أرشيفية، رويترز

كما عارضت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس وبعض المسؤولين فكرة فتح جبهة عسكرية جديدة ضد دولة عربية أخرى في أواخر عهد بوش، خاصةً أن واشنطن كانت منخرطة في العراق وأفغانستان بالفعل.

علاوة على ذلك، أضعفت حرب إسرائيل مع حزب الله عام 2006 ثقة رايس في قدرة الجيش الإسرائيلي على اتخاذ القرارات. فوفقاً لمسؤول كبير سابق في الإدارة: "اعتقدت كوندوليزا رايس أن الجيش الإسرائيلي غير موثوق به، وأنه لم يعد ذلك الجبابرة الذين نشأنا معهم". خشيت رايس أن تؤدي الضربة إلى صراع أوسع، بما في ذلك حرب مع كل من سوريا وحزب الله.

حاولت إسرائيل إقناع الأميركيين بتولي مهمة تدمير المفاعل – حتى إن رئيس الوزراء إيهود أولمرت طرح على بوش أن تتولى واشنطن الضربة بما "يضرب عصفورين بحجر": إيصال رسالة للأسد وردع إيران في آنٍ معاً.

لكن بوش أبلغ أولمرت صراحةً في يونيو/حزيران 2007 أنه لا يستطيع تبرير ضربة عسكرية لسوريا ما لم تجزم وكالات الاستخبارات بوجود برنامج تسلح نووي متكامل، وهو أمر لم يكن متحققاً سوى وجود المفاعل فقط. رغم ذلك، لم يُشر بوش في أي لحظة إلى أن الولايات المتحدة ستمنع أي عمل إسرائيلي، بل وفقاً لجنرال إسرائيلي آنذاك: "قال أولمرت إنه لم يطلب من بوش الضوء الأخضر، لكن بوش لم يُعطِ أولمرت الضوء الأحمر". "أولمرت اعتبره أخضر".

وهكذا حسم الاحتلال أمره بتنفيذ العدوان على سوريا منفرداً، كما فعل في عام 1981. تكتم الاحتلال عن هذه الضربة، وبحسب "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي"، منح هذا الصمت بشار الأسد "مساحة للإنكار"، ووفّر عليه الحاجة إلى الرد عسكرياً على الهجوم، أو حتى إدانته. خيّم الصمت على تلك الضربة حتى مارس/آذار 2018، حين خرج الاحتلال أخيراً عن صمته واعترف رسمياً بتفاصيل العملية بعد عقدٍ من الزمن.

ليبيا: برنامج نووي لم يكتمل

سعى الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي منذ سبعينيات القرن العشرين إلى دخول النادي النووي، مدفوعاً بطموحاته الثورية وإرث العداء مع إسرائيل والغرب.

في العقود الأولى من حكمه، حاولت ليبيا شراء أو تطوير قدرات نووية بشتى الطرق: تواصلت مع الاتحاد السوفييتي لبناء مفاعل بحثي صغير (أُنشئ مفاعل تاجوراء البحثي في 1981 لأغراض سلمية)، لكنها لم تحظَ بمفاعلات كبيرة للطاقة. وتشير بعض المصادر إلى أن القذافي بحث في السبعينيات إمكانية شراء قنبلة نووية جاهزة أو تمويل مشروع نووي لمصر مقابل الحصول على التقنية، ومع ذلك، ونظراً لإصرار القذافي على الحصول على نتائج أسرع مما يستطيع تحقيقه، فشل المشروع المشترك وتبخّر الدعم المالي الذي كان يقدمه القذافي.

ومع ذلك، بعد فترة وجيزة، ذهبت ليبيا للخيار الباكستاني، إذ كانت باكستان قد أطلقت برنامجها النووي رداً على الأسلحة النووية الهندية. وكان مهندس البرنامج الباكستاني ذو الفقار علي بوتو، الذي عُيّن رئيساً لباكستان أواخر عام 1970، مصمماً على تطوير ردع نووي. وقد أقام بالفعل علاقات مع باكستان في عهد ذو الفقار علي بوتو، ويُعتقد أنه قدّم دعماً مالياً للمشروع الباكستاني الناشئ في مقابل وعود بالتعاون النووي في المستقبل، لكن توقعات القذافي في الحصول على نتيجة أُحبطت بعد عزل بوتو في يوليو/تموز 1977 على يد الجنرال محمد ضياء الحق، الذي كان لا يثق بالقذافي، وبالتالي فضّل الحصول على التمويل السعودي للبرنامج النووي الباكستاني.

ومع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، وجدت ليبيا منفذاً أخيراً عبر شبكة العالم الباكستاني عبد القدير خان للحصول على تقنية تخصيب اليورانيوم. اشترت طرابلس على مراحل أجهزة طرد مركزي ومكونات نووية سرية، من شبكة تهريب الأسلحة النووية، وذلك في ظل عزلتها الدولية وضعف الرقابة خلال فترة ما بعد الحرب الباردة.

في أكتوبر/تشرين الأول 2003، وبعد أشهر قليلة من سقوط بغداد تحت الاحتلال الأميركي، اعترضت أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية سفينة شحن ألمانية محمّلة بمعدات تخصيب نووي كانت في طريقها إلى ليبيا. وقد جاءت هذه العملية ضمن تعاون استخباراتي واسع، كُشف خلاله عن جزء من شبكة تهريب تكنولوجيا نووية يقودها العالم الباكستاني عبد القدير خان، وتم شحنها عبر شركة ماليزية تُدعى "سكومي للهندسة الدقيقة"، وكانت موجّهة لدعم مشروع ليبي لتخصيب اليورانيوم، يجري تطويره في الخفاء منذ سنوات، في محاولة لبناء قدرة ردع ذاتية خارج شروط الهيمنة الغربية.

من بيغن إلى نتنياهو: ماذا نعرف عن عقيدة إسرائيل لتدمير
الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش خلال تفقده المواد النووية وأجهزة الطرد المركزي التي سلمتها ليبيا وتم نقلها جواً إلى مختبر أوك ريدج، بولاية تينيسي الأمريكية عام 2004/ Creative Commons

هذا الكشف شكّل نقطة تحوّل، إذ تبعته ضغوط سياسية مكثّفة ومفاوضات سرية مع لندن وواشنطن. فتلك الحادثة لم تكن معزولة، بل كانت حلقة في سلسلة طويلة من المراقبة والضغوط التي فُرضت على برنامج نووي بدأ القذافي تطويره منذ الثمانينيات، خارج شروط التفتيش الغربي.

هذه الحادثة لم تكن معزولة، إذ يذهب بعض المحللين إلى أنه بعد مشاهد التدمير الممنهج في العراق، وانكشاف هشاشة الحماية الإقليمية والدولية، اختار القذافي القيام بانعطافة مفاجئة: ففي مفاوضات سرّية جرت مع لندن وواشنطن، قررت طرابلس – تحت وطأة العقوبات وشبح الاجتياح – أن تتخلّى عن طموحها النووي مقابل إعادة التطبيع السياسي والاقتصادي مع أمريكا، ورفع الحصار الذي أرهق البلاد لعقود.

وأعلن القذافي تخلّيه الطوعي عن المشروع يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2003، وسلّمت طرابلس كافة المعدات والوثائق النووية لواشنطن مباشرة بعد ذلك في يناير/كانون الثاني 2004، تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وبعد تخلّي ليبيا عن مشروعها النووي العسكري، تحوّل تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية نحو الاستخدامات السلمية للطاقة، وتُوّج ذلك باتفاق عام 2007 لتشغيل مركز البحوث النووية في تاجوراء، بهدف تطوير الطب النووي وإنتاج النظائر المشعة، بدعم روسي وفرنسي.

غير أن اندلاع الثورة الليبية في فبراير/شباط 2011 أدى إلى توقف المشروع بالكامل، مع مغادرة الخبراء الأجانب وتضرر بعض المنشآت بفعل النزاع المسلح. ونتيجة لانهيار الاستقرار وغياب سلطة مركزية، علّقت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعاونها مع ليبيا.

متى وكيف بدأ المشروع النووي الإيراني؟

بدأ البرنامج النووي الإيراني في خمسينيات القرن الماضي، عقب خطاب الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور الشهير بعنوان "تسخير الذرة من أجل السلام"، الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1953.

هذا الخطاب مهّد الطريق، إذ شجّع البلدان في مختلف أنحاء العالم، بما فيها إيران وباكستان والهند والبرازيل، على تطوير برامجها الخاصة في مجال الطاقة النووية والبحوث، فوقع الشاه محمد رضا بهلوي اتفاق تعاون مع الولايات المتحدة في عام 1957، بموجبه حصلت إيران على مساعدات فنية نووية من واشنطن.

في عام 1968، انضمت إيران إلى معاهدة حظر الانتشار النووي، متعهدة باستخدام التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية. وخطّطت، في ظل حكم الشاه محمد رضا بهلوي، لبناء 23 محطة نووية، منها محطة بوشهر الشهيرة، التي تقع جنوب طهران على الخليج العربي.

وتأسس مركز طهران للأبحاث النووية عام 1967 بدعم أميركي وفرنسي وألماني، وتم تزويده بمفاعل أبحاث بقدرة 5 ميغاواط. إلا أن الثورة الإيرانية عام 1979 غيّرت المشهد، حيث علّق المرشد الأعلى آية الله روح الله الخميني المشروع النووي، مما أدى إلى إيقاف تلك الخطط مؤقتاً.

ظل البرنامج النووي الإيراني متوقفاً إلى حد كبير أثناء الحرب الإيرانية العراقية، ثم في عام 1995، أعادت إيران إحياء مشروعها بمساعدة روسيا، التي وافقت على استكمال محطة بوشهر.

ولكن الإدارة الأميركية علمت أن روسيا عرضت على إيران سراً مرافق من شأنها أن تعزّز قدرتها على إنتاج الأسلحة. وتحت ضغط من الولايات المتحدة، قلّصت روسيا تعاونها النووي مع إيران.

في نفس الفترة، استخدم العالم الباكستاني عبد القدير خان شبكة دولية لنقل تكنولوجيا نووية متقدمة إلى دول عديدة، بما فيها إيران. ففي عام 2003، اكتشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران تمتلك آلات متطورة لتخصيب اليورانيوم تستند إلى تصميمات من مصادر أجنبية حصلت عليها في عام 1989.

يُعتقد أن الدافع وراء البرنامج النووي الإيراني هو امتلاك جيرانها، مثل باكستان وإسرائيل، أسلحة نووية، رغم أنها لم تُعلن عن ذلك قط. ووفقاً لتقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كان البرنامج الإيراني بين أواخر التسعينيات وعام 2003 يحمل "أبعاداً عسكرية"، حيث حاولت إيران الحصول على مواد ومعدات عسكرية وإنشاء مسارات سرية لإنتاج "تصميم محلّي لسلاح نووي".

ويعتقد بعض الخبراء أنه في عام 2003، أوقفت إيران برنامجها النووي خشية اكتشاف أبحاثها بعد غزو العراق.

وبحسب تقرير لصحيفة The Sydney Morning Herald، يقول جون كارلسون، الخبير الدولي في مجال منع الانتشار النووي: "باختصار، حاولت إيران إخفاء أنشطتها النووية قبل عام 2003، عندما تم اكتشاف برنامجها السري لتخصيب اليورانيوم وغيره من الأنشطة. ومنذ ذلك الحين، وفي حين حاولت إخفاء جوانب من الماضي، امتثلت لالتزامات الضمانات الأساسية، ولكنها كانت تتهرب من الالتزامات الهامشية".

ومع انكشاف أجزاء من هذا البرنامج سراً عبر معلومات منشقين عام 2002 (مجموعة مجاهدي خلق سرّبت معلومات عن منشأتي نطنز وأراك)، بدأ الاحتلال أفعاله المعتادة وشن حملة دولية حيال مشروع طهران النووي.

فتبنت حكومة رئيس الوزراء أرييل شارون آنذاك حملة دبلوماسية لحشد تأييد عالمي ضد البرنامج الإيراني، واعتبرته "تهديداً وجودياً" صريحاً لها.

ومع تعثّر المسار الدبلوماسي وتعاقب جولات عقوبات أممية على إيران منذ 2006، انتقل الاحتلال إلى مرحلة "الحرب السرية" لعرقلة المشروع الإيراني من الداخل. هذه الحرب متعددة الأوجه استخدمت فيها كل الأدوات الاستخباراتية والتخريبية الممكنة: من الهجمات السيبرانية، إلى الاغتيالات الممنهجة، والتخريب الميداني، وصولاً إلى سرقات الوثائق السرية.

برز إلى العلن لأول مرة سلاح سيبراني تخريبي غير مسبوق أواخر العقد الأول من القرن الـ21: فابتداءً من 2009، انتشر فيروس سُمي "ستكسنت Stuxnet". يُعتقد أن برنامج ستوكسنت الخبيث طُوّر كعملية مشتركة بين أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، وقد اخترق أنظمة التحكم الصناعية في منشأة نطنز لتخصيب المواد النووية في إيران.

حيث صُمّم ستوكسنت خصيصاً للتسبب في تعطل أجهزة الطرد المركزي مع توفير قراءات لمشغليها بأنها تعمل بشكل طبيعي.

تشير التقارير إلى أن الولايات المتحدة سعت إلى تنفيذ عملية ستوكسنت كوسيلة لإضعاف برنامج الأسلحة النووية الإيراني دون اللجوء إلى غارة جوية أو هجوم من قبل قوات العمليات الخاصة. كان ستوكسنت أول حالة معروفة علناً تسببت فيها عملية إلكترونية في أضرار مادية خارج بيئة اختبار خاضعة للرقابة.

تشير التقديرات إلى أن هذا الهجوم الإلكتروني، الذي كُشف أمره عام 2010، أعاد برنامج التخصيب الإيراني للوراء عدة أشهر على الأقل. واعتُبر ستكسنت باكورة "الحرب السيبرانية" في العالم، وأظهر مستوى التعاون الوثيق بين الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد ووحدة 8200 الإلكترونية) ونظيرتها الأميركية (وكالة NSA وغيرها) في مواجهة إيران.

بين عامي 2010 و2022، شنّ الاحتلال الإسرائيلي حرباً خفية معقّدة ضد المشروع النووي الإيراني، قادها جهاز الموساد عبر اغتيالات متسلسلة استهدفت علماء بارزين في طهران، أبرزهم مسعود علي محمدي، مجيد شهرياري، مصطفى أحمدي روشن، ومحسن فخري زاده. نُفذت العمليات عبر تفجيرات مغناطيسية، إطلاق نار مباشر، أو تقنيات إلكترونية عن بُعد. الهدف كان واضحاً: إرهاب العقول العلمية الإيرانية وشلّ بنية البرنامج من الداخل دون الحاجة إلى حرب تقليدية.

بالتوازي، نفذت إسرائيل عمليات تخريبية ميدانية ضد منشآت نووية رئيسية، أبرزها تفجيرات في نطنز وبارشين، وأعمال تجسس استثنائية مثل سرقة الأرشيف النووي السري في 2018، وهو ما استُخدم لاحقاً كذريعة في الحملة الدولية لعزل إيران دبلوماسياً والانسحاب من الاتفاق النووي.

سياسياً، قادت إسرائيل جهوداً مكثفة ضد اتفاق 2015 النووي، ونجحت في إقناع إدارة ترامب بالانسحاب منه في 2018 وفرض سياسة "الضغط الأقصى". كما استفادت من اتفاقيات أبراهام (2020) لتطبيع علاقتها مع دول خليجية شكّلت معها محوراً إقليمياً غير معلن ضد النفوذ الإيراني.

رغم هذا الزخم الاستخباراتي والدبلوماسي، اعترفت مصادر إسرائيلية أن كل تلك العمليات لم تُبطئ البرنامج النووي الإيراني إلا بنسبة تقارب 20%. ومع استمرار التخصيب وتطور تقنيات الطرد المركزي، رُفعت نغمة التهديد بشن حرب علنية.

وبالفعل، هذا ما حدث. فمع انفجار المشهد الإقليمي بعد "طوفان الأقصى"، استغلّ نتنياهو اللحظة التاريخية لتصعيد غير مسبوق ضد إيران. ففي 13 يونيو/حزيران 2025، شنّ الاحتلال – بتنسيق أميركي – ضربة واسعة ضد مواقع نووية وعسكرية داخل إيران، ألحقت دماراً جزئياً في منشآت نووية، وأودت بحياة عدد كبير من المسؤولين العسكريين والعلماء النوويين. فردّت طهران بقصف مباشر على الأراضي المحتلة، فيما دخلت واشنطن رسمياً ولأول مرة على خط المواجهة المباشرة داخل الأراضي الإيرانية عبر استخدام صواريخ "توماهوك" و12 قنبلة خارقة للتحصينات، استهدفت بها منشأة فوردو النووية المحصّنة، والتي تُعدّ واحدة من أكثر المواقع النووية حساسية في إيران، فهي تُنتج يورانيوماً عالي التخصيب بنسب تقترب من العتبة العسكرية.

استمر القصف المتبادل 12 يوماً، وانتهى – على ما يبدو – دون أن تحقّق تل أبيب وواشنطن هدفهما الاستراتيجي المعلن: إنهاء البرنامج النووي الإيراني وإسقاط النظام. فحسب التقديرات الغربية، لم تُدمّر المنشآت الحيوية بالكامل، كما لم يُنهَ المشروع الصاروخي. بل على العكس، يرى كثيرون أن هذه الحرب عززت قناعة طهران بأن امتلاك السلاح النووي هو السبيل الوحيد للردع الحقيقي.

لقد فتحت ضربة فوردو باباً لن يُغلق بسهولة، وقد تكون عقيدة بيغن قد بلغت مداها. فاليوم، يبدو أن الحديث عن "احتواء إيران" قد انتهى، لتدخل المنطقة في طور جديد من سباق الردع. فمشروع التخصيب، في نظر طهران، لم يعد خياراً تفاوضياً، بل ضرورة وجودية.

تحميل المزيد