من متردد إلى متحمس.. هل نُصدق دعوات ماكرون للاعتراف بدولة فلسطينية؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/05/28 الساعة 15:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/05/28 الساعة 15:19 بتوقيت غرينتش
تعبيرية - عربي بوست

في ديسمبر/كانون الأول 2017، كان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في زيارة رسمية إلى باريس، حيث استقبله الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون، الذي كان لا يزال في عامه الأول داخل قصر الإليزيه. وخلال المؤتمر الصحفي المشترك، طُرحت على ماكرون مسألة الاعتراف بدولة فلسطين. فجاء رده حاسماً وحذراً: "هل الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية سيكون مؤثراً؟ لا أعتقد ذلك، وسيُفهم على أنه ردة فعل على القرار الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل الذي أحدث صدمة في العالم العربي وما بعده". وأضاف ماكرون: "لن أرتكب خطأ مماثلاً، وفرنسا لن تبني قراراتها على ردود فعل".

مرت ثماني سنوات على كلمات ماكرون، ومنذ أكثر من عام ونصف، تشنّ إسرائيل حرب إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً ممنهجاً ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، على مرأى من العالم. في بدايات المجازر، لم يتردّد ماكرون في الاصطفاف مع آلة القتل الإسرائيلية، مانحاً دعمه السياسي الكامل بحجة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".

لم يُنهِ نتنياهو حرب الإبادة الجماعية، بل واصلها بلا توقف، لكن يبدو أن قصر الإليزيه بدأ يشعر متأخراً، بعد مقتل أكثر من 50 ألف فلسطيني، بأن إسرائيل ربما قد تجاوزت ما يمكن أن تتحجج به فرنسا وحلفاؤها دبلوماسياً، ومع ذلك، يبدو أن الرئيس الفرنسي ما زال متردداً، حتى بعد كل ما حدث، وبعد اتساع رقعة الاعتراف الأوروبي. فقد بادرت دول من داخل الاتحاد الأوروبي، مثل إسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا، إلى الاعتراف الرسمي بفلسطين، وانضمت إليهم النرويج من خارج الاتحاد، إضافة إلى السويد التي سبقت الجميع منذ 2014. اليوم، أحد عشر بلداً أوروبياً تعترف بالدولة الفلسطينية، فيما ما زال ماكرون يمارس العادة الفرنسية، متشبثاً بسياسة الازدواجية بين التصريحات والأفعال!

فما نية فرنسا وراء هذه التصريحات؟ هل ستخطو باريس أخيراً نحو الاعتراف، ولماذا الآن؟ والأهم من كل ذلك: هل سيعني هذا الاعتراف شيئاً للفلسطينيين وحقوقهم، أم أنه مجرد محاولة لمجاراة موجة الاعترافات؟

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده بصدد الاعتراف بـ"دولة فلسطينية" في غضون أشهر، ما يعني، إن حدث، أن تصبح فرنسا العضو الأوروبي الثاني عشر الذي يعترف رسمياً بدولة فلسطينية.

فخلال زيارته إلى القاهرة، جاء إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون في الثامن من أبريل/نيسان، حول "الاعتراف المحتمل" بالدولة الفلسطينية، ليعيد تسليط الضوء على مطلب ظل معلقاً لعقود، وليثير تساؤلات حول توقيته ودوافعه. ورغم أن الإليزيه ربط هذا التصريح بانعقاد الدورة الثانية لمؤتمر "التحالف الدولي من أجل حل الدولتين" الذي تنظمه فرنسا والسعودية في نيويورك في يونيو/حزيران المقبل، إلا أن هذا الربط لم يبدد الشكوك، بل عمّقها.

فالاعتراف الفرنسي، وفق ماكرون نفسه، يأتي بورقة مشروطة، مرهونة باعتراف عدد من الدول العربية والإسلامية بدولة الاحتلال. إذ قالها ماكرون صراحة: يريد أن يكون هذا الاعتراف جزءاً من "حركية جماعية"، تقود جميع الأطراف المؤيدة لفلسطين نحو الاعتراف بإسرائيل أيضاً.

ولم يتردد في التصريح بأن الهدف من هذه "الحركية الجماعية"، التي يريدها في المؤتمر الفرنسي السعودي، هو "مكافحة" إيران، باعتبارها "ترفض وجود إسرائيل"، وكذلك العمل على ضمان "استتباب الأمن في المنطقة".

هل غيّر إعلان ماكرون موقف فرنسا من القضية الفلسطينية؟

اللافت في الموقف الفرنسي أن الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي يمتلك دستورياً صلاحيات رسم السياسة الخارجية، يكرر منذ أشهر أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية "ليس من الممنوعات" بالنسبة إليه.

لكن ما تقوله باريس لا ينعكس في أفعالها، بل تتلكأ باريس وراء حجج وذرائع لتبرير عدم إقدامها على خطوة صوّت عليها البرلمان الفرنسي في توصية تعود لعشر سنوات خلت. إلى جانب ذلك، فهي فكرة متداولة في الطبقة السياسية الفرنسية منذ أكثر من أربعة عقود دون أي خطوة حاسمة.

وبالعودة إلى تاريخ فرنسا مع القضية الفلسطينية، سنجد فرنسا أكثر شركاء الاحتلال التجاريين أهمية، والتي ساعدت في تسليحه نووياً، كانت أيضاً الدولة التي حاولت، بعد حرب 1967، إعادة التوازن في سياستها الخارجية بتبنّي ما سُمّي "السياسة العربية لفرنسا" بقيادة الجنرال ديغول، رغبةً في طيّ صفحة الجزائر والاصطفاف مع إسرائيل.

إذ تدّعي فرنسا بأنها تمسك بالقانون الدولي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. فموقع وزارة الخارجية الفرنسية ينص بوضوح على أن باريس تدعو إلى "احترام القانون الدولي، لا سيما قرارات الأمم المتحدة، وتدعم حل الدولتين، وكذلك حلاً عادلاً للاجئين، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، والحفاظ على وضعية القدس".

بل وتعتبر باريس بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية "مصادرة غير شرعية للأراضي"، وتعدّ الاستيطان "مخالفاً للقانون الدولي". بل وتشدد على أن أي مفاوضات مستقبلية ينبغي أن تُبنى على أساس خطوط الرابع من يونيو/حزيران 1967.

من متردد إلى متحمس.. هل نُصدق دعوات ماكرون للاعتراف بدولة فلسطينية؟
شارل ديغول \ مواقع التواصل

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1975، سمحت باريس بفتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية. ثم دفعت لاحقاً، في عهد فاليري جيسكار ديستان، إلى إعلان المجلس الأوروبي في البندقية عام 1980 ضرورة الاعتراف بحقوق الطرفين، وضرورة إشراك منظمة التحرير في عملية السلام.

في مايو/أيار 1989، استقبلت باريس الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في زيارة رسمية خلال عهد فرنسوا ميتران، الذي حاول دعم قيادة فلسطينية تؤمن بحل الدولتين، حسب شهادة جان-بيار فيليو، أحد مؤرخي تلك المرحلة.

وعند إعلان دولة فلسطين في الجزائر عام 1988، اختار الرئيس الفرنسي آنذاك فرنسوا ميتران التحفّظ، مبرراً موقفه بأن الدولة الفلسطينية تفتقر إلى سلطة فعلية على الأرض. لكنه تجاهل حقيقة واضحة: أن الاحتلال العسكري الإسرائيلي هو ما يمنع هذه السلطة من التشكل، وهو ما يُبقي الدولة الفلسطينية، بحكم القوة، في حالة تجميد دائم. ومع ذلك، وخلال شهر واحد فقط، سارعت 75 دولة، غالبيتها من العالم العربي وأفريقيا وآسيا، إلى الاعتراف بدولة فلسطين، في مشهد كشف عزلة الموقف الفرنسي.

وبعد ست سنوات على توقيع اتفاق أوسلو، أصدرت 15 دولة أوروبية في مارس/آذار 1999 إعلاناً يؤكد "الحق الدائم وغير المشروط للفلسطينيين في إقامة دولتهم"، معربة عن استعدادها للنظر في الاعتراف بها "عندما يحين الوقت". اللافت أن هذا الموقف الأوروبي كان بإلهام مباشر من فرنسا، وتحديداً من الرئيس جاك شيراك. لكن شيراك نفسه لم يترجم هذا الإلهام إلى سياسة عملية، وظل أسير الخطاب دون الفعل، كما فعل أسلافه.

لكن في عام 2010، رفعت فرنسا التمثيل الفلسطيني لديها من المندوبية إلى البعثة الفلسطينية. ويُشار إلى الدبلوماسي الذي يقود البعثة الفلسطينية في فرنسا بلقب السفير.

وفي عام 2011، أتيحت لفرنسا فرصة تاريخية جديدة لمطابقة الأقوال بالأفعال، لكنها ضيّعتها مجدداً. فمع أن باريس كانت من المتحمسين لحل الدولتين، تراجع الرئيس نيكولا ساركوزي عن دعم تعديل وضع فلسطين في الأمم المتحدة من "كيان مراقب" إلى "دولة عضو".

لماذا الآن؟

تشير بعض التحليلات من الصحف ومراكز الأبحاث الفرنسية إلى أن توجه ماكرون نحو الاعتراف بدولة فلسطين ينبع من رغبة في تصحيح التناقضات في السياسة الخارجية الفرنسية، واستعادة دور فرنسا في الشرق الأوسط، وتعزيز نفوذها الدبلوماسي، خاصة في ظل تراجع الدور الأمريكي وتزايد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة. الخطوة تهدف أيضاً إلى استعادة مكانة فرنسا كقوة دبلوماسية فاعلة على الساحة الدولية، بالإضافة إلى الاستجابة للضغوط الداخلية من المجتمع المدني والتيارات اليسارية.

اليمين المتطرف في فرنسا ماكرون
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون/ رويترز

هل يتجرأ ماكرون على الاعتراف؟ وهل ذلك الاعتراف مهم؟

حين أدلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ببعض التصريحات العلنية بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية في شهر أبريل/نيسان 2025، أثار ذلك ردود فعل حادة وسريعة من الاحتلال. فكتب وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في "إكس" أن "الاعتراف الأحادي بدولة فلسطينية خيالية… يعزز حركة حماس". ما دفع ماكرون إلى التوضيح عبر صفحته في المنصة نفسها، فقال: "نعم للسلام، نعم لأمن إسرائيل، نعم لدولة فلسطينية من دون حماس". لكنه لم يقنع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي هاجم ماكرون لاحقاً، متهماً إياه بالسعي خلف "أوهام منفصلة عن الواقع".

رغم ذلك، أعاد ماكرون التأكيد في 28 مايو/أيار على دعمه لحل الدولتين، قائلاً من إندونيسيا: "لا ازدواجية في المعايير الفرنسية" تجاه الشرق الأوسط. وأعلن أن باريس، بالتعاون مع الرياض، ستنظّم مؤتمراً حول غزة في نيويورك قريباً، بهدف "إعطاء زخم جديد للاعتراف بالدولة الفلسطينية، والاعتراف بدولة إسرائيل وحقها في العيش بسلام وأمن في هذه المنطقة".

لكن خلف هذه التصريحات، يبقى التنفيذ غامضاً. فالوضع على الأرض يزداد قتامة، وغزة تُباد بكل الطرق الوحشية، والضفة الغربية تُسحق. وبحسب وكالة رويترز، لا توجد حتى الآن أي مؤشرات على أن أي دولة إسلامية أو عربية جديدة مستعدة للتحرك نحو تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي.

بالإضافة إلى ذلك، يعاني ماكرون من انقسام داخلي واضح: ضغط من الشارع ومن اليسار الفرنسي، وخصوصاً حزب "فرنسا الأبية" من جهة. فبحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، يواجه الرئيس الفرنسي تحدياً كبيراً في البرلمان، المنقسم بين اليمين المتطرف وأقصى اليسار. وأصبحت القضية الفلسطينية، منذ اندلاع حرب غزة، مثار جدل مستمر ونزاع حاد بين مختلف الكتل النيابية، بشكل يضعف التكتل الرئاسي في الهيئة التشريعية.

وبحسب التقرير، يريد ماكرون أن "يُخرج القضية الفلسطينية" من البرلمان الفرنسي، ويبعدها عن النقاش السياسي الداخلي، المشحون بالاستقطاب والانقسامات الأيديولوجية العميقة.

غير أن ردود الأفعال على تصريحاته الأخيرة كشفت عمق الانقسام: فاليسار رحّب بالاعتراف واعتبره "خطوة تأخرت كثيراً"، فيما هاجمه اليمين المتطرف وصديق الاحتلال الإسرائيلي بشراسة.

فصرّح نائب رئيس حزب "التجمع الوطني"، سيباستيان شينو، لإحدى القنوات الفرنسية بأن أي اعتراف من هذا النوع "يرسل إشارة خطيرة: مارس الإرهاب وسنعترف لك بدولة". أما ماتيلد بانو، رئيسة كتلة "فرنسا الأبية"، فكتبت على "إكس": "أخيراً، بعد قرابة عامين من الإبادة الجماعية في غزة، تتحرك فرنسا نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية".

بالإضافة إلى ذلك، لم يتوقف نتنياهو عن التصعيد، فوصف ماكرون لاحقاً بأنه "يقف مع منظمة إرهابية قاتلة"، بحسب تعبيره، مكرراً الاتهامات الواهية المعتادة ضد أي موقف يُظهر تعاطفاً مع الفلسطينيين. وبحسب وكالة رويترز، فإن إسرائيل تهدد فرنسا، وتهديداتها تراوحت بين تقليص تبادل المعلومات الاستخباراتية وتعقيد المبادرات الإقليمية لباريس، بل حتى التلميح بخطوات تصعيدية، كضم أجزاء من الضفة الغربية التي تتوسع فيها بالاستيطان بالفعل، إذا ما مضت فرنسا في قرار الاعتراف.

لذا، يجدر بنا أن نتساءل عما إذا كان الرئيس الفرنسي سينفذ وعده خلال انعقاد مؤتمر "التحالف من أجل حل الدولتين"، فبحسب رويترز، يرى دبلوماسيون وخبراء أن هذه الخطوة قد تكون سابقة لأوانها وغير مجدية في الضغط على إسرائيل للمضي نحو اتفاق سلام مع الفلسطينيين.

ويشيرون أيضاً إلى أن هذا التحرك قد يعمق الانقسامات الغربية، ليس فقط داخل الاتحاد الأوروبي المنقسم بالفعل، بل أيضاً مع الولايات المتحدة، أكبر حلفاء الاحتلال الإسرائيلي. ويرون أنه يجب أن يترافق هذا الاعتراف مع إجراءات أخرى، من بينها عقوبات وحظر تجاري، إذا ما كان الهدف منه يتجاوز كونه مجرد لفتة رمزية.

والحقيقة أن اعتراف فرنسا، أو أي دولة أخرى، بدولة فلسطين — ما لم يتضمن تحديداً لطبيعتها وحدودها وضماناً لسيادتها الفعلية — يبقى غير كافٍ. فمن بين 193 دولة عضواً في الأمم المتحدة، تعترف 148 بدولة فلسطين، لكن ذلك لم يُفضِ إلى قيام دولة حقيقية. على العكس، بات الوجود الفلسطيني ذاته مهدداً، بعد نكبات متتالية، واستمرار سياسات التطهير العرقي والضم المنهجي للأراضي، في ظل فشل المجتمع الدولي في وقف العدوان أو فرض المحاسبة على إسرائيل.

وبحسب الاتفاقيات الدولية، فالاعتراف لا يُنشئ الدولة، بل يُعد مجرد اعتراف بوضع قائم. فوفقاً لاتفاقية مونتيفيديو لعام 1933، التي تُعد إحدى الركائز الأساسية في تعريف الدولة من الناحية القانونية، فإن "الوجود السياسي للدولة ليس مرهوناً باعتراف دول أخرى". فالدولة، كما تنص المادة الأولى من الاتفاقية، تُعرف بامتلاكها أربعة عناصر: سكان دائمون، إقليم محدد، حكومة قائمة، وقدرة على إقامة علاقات مع دول أخرى. وبناءً على هذا التعريف، لا حاجة لاعتراف خارجي كي توجد الدولة أو تُمارس سيادتها.

تحميل المزيد