ظلّ الدولار الأمريكي العملة المهيمنة في التجارة والتمويل العالميين لأكثر من سبعة عقود. وخلال تلك الفترة، لم يُشكّل تهديداً حقيقياً لمكانته إلا قليلاً. وتعمل الأنظمة الاقتصادية العالمية بجمود كبير٬ حيث تُفضّل الجهات الفاعلة الرئيسية، من الحكومات إلى البنوك إلى الشركات متعددة الجنسيات، آليات مُجرّبة ومُختبرة لإدارة التجارة والتمويل. وكثيراً ما تتحدث عناوين الأخبار المُثيرة للقلق أن الدول تبحث عن بدائل للدولار، أو أن تحالفاً جديداً يُحاول إنشاء عملة مُنافسة، أو أن الأزمات الأخيرة في واشنطن ستُنهي أخيراً مكانة الدولار كاحتياطي.
ولكن على الرغم من عقود من النمو الاقتصادي المُتغيّر حول العالم، وفترات الاضطرابات في الأسواق العالمية، والتساؤلات حول مستقبل السياسة الاقتصادية الأمريكية، ظلت هيمنة الدولار راسخة. لكن في ظل السياسات الجمركية الجديدة التي يهز ترامب فيها الاقتصاد العالمي وأسواق الأسهم٬ حيث تُشكّل محاولاته "غير المدروسة" -كما تصفها مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية- لتسليح المزايا الاقتصادية لواشنطن أكبر تهديد حتى الآن لمكانة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية.
وإذا استمرت هذه الحالة من الاضطراب٬ فقد تكون الولايات المتحدة والعالم في وضع أسوأ. فبدون الدولار لتسهيل التجارة والتدفقات المالية، سيتباطأ النمو وسيزداد فقر الناس في كل مكان. وتقول المجلة الأمريكية إن عزلة الولايات المتحدة لن تُحقق انتعاش الصناعة الذي تزعم إدارة ترامب أنها تسعى إليه، مع ارتفاع أسعار المواد الخام المستوردة ونضوب أسواق رأس المال. وستكون النتيجة الحقيقية لانخفاض قيمة الدولار زوال القوة الاقتصادية ذاتها التي يحاول ترامب ممارستها.
"الضرر وقع".. رسوم ترامب الجمركية تعرض الدولار كملاذ آمن للخطر
- في خضم التداعيات العالمية لإعلان دونالد ترامب عن سياسات التعريفات الجمركية المثيرة للجدل والمضطربة مثل تجميده لبعضها وتراجعه عن أخرى٬ يبدو أن الضرر قد وقع٬ ولم يعد هناك مكان آمن. فانهيار أسعار الأسهم، وبيع السندات، وفوضى العملات، كل ذلك أدى إلى ضياع تريليونات الدولارات من الثروة في غضون أيام٬ كما تقول صحيفة الغارديان البريطانية٬ مما قد يخلق تداعيات عالمية على مكانة الدولار الأمريكي.
- يوم الجمعة 11 أبريل/نيسان 2025، انخفض الدولار الأمريكي بأكثر من 1% مقارنةً بسلة من العملات الأخرى، ليصل إلى أدنى مستوى له في ثلاث سنوات، مُضاعفاً بذلك انخفاضاً بنحو 10% منذ بداية العام. وفي غضون أسبوع، خسر الدولار حوالي 3 سنتات مقابل الجنيه الإسترليني و4 سنتات مقابل اليورو.
- حتى بعد التراجع الجزئي الذي شهده الاقتصاد الأمريكي٬ وتجميد الرسوم الجمركية بنسبة 10% على جميع الواردات الأمريكية باستثناء تلك القادمة من الصين لمدة 90 يوما٬ تحولت الأسواق من ارتفاع مناخي إلى انحدار جديد، حيث تساءل المستثمرون عما كان لا يمكن تصوره في السابق: هل يمكن للدولار الأمريكي أن يفقد مكانته كملاذ آمن عالمياً بعدما كان "لا يمكن المساس به"؟
- يقول جورج سارافيلوس، رئيس أبحاث الصرف الأجنبي في دويتشه بنك: "لقد وقع الضرر بالفعل حتى لو تراجع ترامب. فالسوق يُعيد تقييم الجاذبية الهيكلية للدولار كعملة احتياطية عالمية، ويشهد عملية تخلي سريعة عن الدولار".
- أما راغورامان راجان، محافظ بنك الاحتياطي الهندي السابق وكبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، فقد قال لصحيفة الغارديان٬ إن أزمة الدولار نابعة من مخاوف المستثمرين بشأن الاقتصاد الأميركي والتغييرات غير المتوقعة في سياسة ترامب.
- وأضاف: "هناك قلق بشأن مدى تقلب السياسة الأمريكية وعدم القدرة على التنبؤ بها، بالإضافة إلى مخاوف متزايدة من أن استمرار ارتفاع مستوى الرسوم الجمركية سيؤدي إلى دخول الولايات المتحدة في حالة ركود". وأضاف: "مع أن سياسة الرسوم الجمركية تبدو، بطبيعة الحال، هدفًا متحركًا".
- وعلى عكس عمليات البيع المكثفة المعتادة في الأسواق، شملت قرارات ترامب انخفاضاً متزامنًا في قيمة الأسهم الأمريكية والسندات الحكومية (المعروفة بسندات الخزانة)، بالإضافة إلى الدولار. وهذا أمرٌ غير معتاد، إذ يلجأ المستثمرون عادةً إلى الاستثمار في الدولار وسندات الخزانة في فترات عدم اليقين والضائقة المالية.
- على مدى السنوات الثمانين الماضية، احتفظ الدولار بمكانته باعتباره العملة الاحتياطية الأساسية في العالم؛ حيث استُخدم كملاذ آمن في جميع أنحاء العالم، وكزيت لتدوير عجلات النظام المالي العالمي، وكوسيلة للتبادل في التجارة.
- وظل الاعتقاد السائد هو أن "العملة التي تدعمها الحكومة والتي تجلس على قمة الاقتصاد الأبرز في العالم، مع أسواق رأس المال الأعمق، والجيش الأقوى، والنظام السياسي الذي يحترم سيادة القانون"، هي أفضل ما يمكن أن يكون. لكن ترامب يغير كل ذلك، بعد أن فرض رسوما جمركية عقابية على حلفاء الولايات المتحدة التقليديين وأعدائها على حد سواء.

"الدورة العظمى للدولار تقترب من نهايتها"
- من جهته٬ يقول مارك تشاندلر، كبير استراتيجيي الأسواق في شركة "بانكبيرن كابيتال ماركتس" إن "الدورة العظمى للدولار تقترب من نهايتها"٬ وأضاف لموقع The Market الاقتصادي السويسري٬ إن الهزات تتسع وتنتشر. أولاً، أثارت حرب الرئيس الأميركي دونالد ترامب التجارية اضطراباً في أسواق الأسهم، ثم طالت السندات، والآن تصل الاضطرابات إلى أسواق العملات. والدولار سيتعرض لضغوط. وبالقياس التجاري، فقد الدولار الأمريكي حوالي 10% من قيمته منذ منتصف يناير الماضي. في المقابل، يواصل الفرنك السويسري ترسيخ سمعته كملاذ آمن ويحقق مكاسب قوية.
- ويعتقد مارك تشاندلر، كبير استراتيجيي الأسواق في "بانكبيرن كابيتال ماركتس"، أن سياسة الرسوم الجمركية الفوضوية التي ينتهجها ترامب ستؤدي إلى نهاية السوق الصاعدة الكبرى للدولار. من وجهة نظره، فإن تأثير الأحداث الحالية يفوق تأثير "صدمة نيكسون" في أوائل السبعينيات، عندما تم قطع الرابط بين الدولار والذهب. ويقول: "الأمر لا يتعلق فقط بالرسوم الجمركية، بل بالنظام العالمي الجديد الذي بدأ مع تنصيب ترامب في 20 يناير". وبعد الحرب العالمية الثانية، ربطت جميع الدول عملاتها بالدولار، بينما كان الدولار نفسه مرتبطاً بالذهب. وفي عام 1971، فكّ نيكسون هذا الربط الأخير، لكن الدولار ظل العملة المحورية.
- في السياق٬ تقول مجلة "فورين أفيرز" إنه على الرغم من قوة الدولار، إلا أن عودة ترامب إلى السلطة قد شكّلت تهديدًا حقيقيًا لمكانته لأول مرة منذ أجيال. ونظرًا لغياب البدائل الجاهزة، من غير المرجح أن يكون الضرر قاتلًا على الفور، إلا أن خطر التراجع النهائي، ووتيرة التراجع المحتملة، قد ازدادا. على أقل تقدير، ستؤدي تصرفات ترامب إلى تآكل العوامل الداعمة لهيمنة الدولار.
- وإذا نظرنا إلى ما وراء الأفق القريب، فسنجد أن مخاطر سياسات ترامب أكبر. بدايةً، ستُلحق الرسوم الجمركية العالمية الهائلة التي فرضها ترامب، بالإضافة إلى زعزعة استقرار الاقتصاد الأمريكي، ضررًا لا رجعة فيه بمصداقية الولايات المتحدة كشريك تجاري. وهذا بدوره سيُقوّض الحاجة إلى الدولار واستخدامه.
- وسيُعاني حلفاء الولايات المتحدة من الضرر الأكبر، إذ سيواجه العديد منهم معدلات تعريفات جمركية أعلى من خصومها. على سبيل المثال، تخضع "إسرائيل" واليابان والاتحاد الأوروبي جميعًا لمعدلات تعريفات أعلى من إيران أو روسيا. وقد أظهر الاقتصاديون أن الدول أكثر ميلًا للاحتفاظ باحتياطيات من العملات من شركائها الجيوسياسيين. وبتنفير أقرب حلفاء الولايات المتحدة، يُبعد ترامب الدول التي كانت الأكثر استعدادًا للاعتماد على التجارة المُيسّرة بالدولار.
- وتقول المجلة الأمريكية٬ لعلّ الخطر الأكبر على هيمنة الدولار يأتي من تهديدات ترامب لسيادة القانون، والتي ستزعزع أساس مكانة الدولار. لا يقتصر الخطر على أن تُعجّل الإدارة بأزمة دستورية بتحديها للمحاكم، بل يمتدّ إلى ترسيخ شكل حكم أكثر فسادًا وشخصانية في عهد رئيس يميل إلى عقد الصفقات مع أصدقائه ومعاقبة أعدائه. إنّ سيادة القانون، أو بالأحرى غيابها، تُشكّل عائقًا خطيرًا أمام اعتماد الرنمينبي الصيني: فالشركات تُفضّل المثول أمام محكمة أمريكية على محكمة صينية في أي يوم من أيام الأسبوع. وإذا تلاشت هذه الميزة الأمريكية، فقد تكون النتائج كارثية.

هل بدأ النظام المالي العالمي يفقد ثقته في الدولار الأمريكي؟
- وبالعودة للأزمة الحالية٬ تقول صحيفة الغارديان٬ لقد كان فقدان الثقة المفاجئ بالدولار واضحاً في سوق سندات الخزانة الأميركية، التي تعتبر على نطاق واسع الأكثر أهمية في العالم لأن المستثمرين يستخدمونها عادة كمعيار "خالي من المخاطر" لتحديد سعر كل الأصول المالية الأخرى. وفي أكبر ارتفاع أسبوعي له منذ عام ١٩٨٢، ارتفع العائد – وهو سعر الفائدة فعلياً – على سندات الحكومة الأمريكية لأجل ٣٠ عاماً من حوالي ٤.٤٪ إلى ٤.٨٪. كما ارتفع العائد على سندات العشر سنوات.
- ويقول المستثمرون إن الكثير يحدث٬ فبينما تلوح أزمة ثقة واضحة في الأفق، فإن اضطراب الدولار الأمريكي وسندات الخزانة يعكس أيضًا الضرر الاقتصادي المحتمل الذي ستُلحقه سياسات ترامب؛ بما في ذلك احتمال حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة بنسبة تزيد عن 50%، وتزايد احتمالات خفض الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة.
- وفي خضم التراجع الأوسع للسوق ــ مع محو أكثر من 5 تريليون دولار (3.8 تريليون جنيه إسترليني) من أسعار الأسهم الأميركية ــ عكست عمليات البيع المكثفة في السندات أيضاً اندفاع صناديق التحوط لبيع سندات الخزانة لتقليص الصفقات المحفوفة بالمخاطر، فضلاً عن اندفاع المستثمرين إلى جمع النقد.
- وقال مارك سوبيل، المسؤول السابق في وزارة الخزانة الأمريكية، والذي يشغل حالياً منصب رئيس منتدى المؤسسات النقدية والمالية الرسمية، وهو مركز أبحاث معني بالبنوك المركزية: "أعتقد أن آراء ترامب التجارية حمقاء ومجنونة.. سيضرّ بالاقتصاد الأمريكي، وقد خلق أزمة لا داعي لها".
- وأضاف سوبيل: "أطروحتي الأساسية هي أن الدولار سيظل العملة العالمية المهيمنة في المستقبل المنظور نظراً لغياب بدائل مجدية. لكنني أعتقد أن ترامب، بإضعافه الأسس الاقتصادية والمؤسسية لأمريكا بانعدام ثقته بها، يُقوّض أسس هيمنة الدولار. إن تصرفاته الأخيرة سوف تؤدي بالتأكيد إلى تسريع تآكل هيمنة الدولار فضلاً عن أنها ستؤدي إلى المزيد من التقلبات في السوق العالمية".
- وأظهرت أرقام صندوق النقد الدولي أن الدولار الأمريكي هو العملة الاحتياطية المفضلة لدى دول العالم، حيث يمثل ما يقرب من 60% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية. ويأتي اليورو في المرتبة الثانية بفارق كبير، بنحو 20%، يليه الين الياباني بنحو 6%. أما الجنيه الإسترليني – عملة الاحتياطي العالمية قبل صعود الولايات المتحدة إلى الهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية – فيمثل حوالي 5%. وقال سوبل إن استخدام الدولارين الكندي والأسترالي، بالإضافة إلى الفرنك السويسري والين، شهد ارتفاعاً ملحوظاً مؤخراً. ولم يحقق اليورو سوى تقدم طفيف، بينما لا يزال اليوان الصيني يفتقر إلى الدعم العالمي.
لكن هل يعي ترامب أن ما يفعله سيضعف مكانة الدولار؟
- لكن البعض داخل إدارة ترامب ينظرون إلى وضع الدولار كعملة احتياطية دولية باشمئزاز، باعتباره علامة أخرى على استغلال العالم للولايات المتحدة. وكان ترامب يريد منذ فترة طويلة إضعاف الدولار على أساس فكرة أن ذلك من شأنه أن يساعد في جعل السلع الأميركية أرخص للمشترين في الخارج، ودعم التصنيع المحلي والمساعدة في خفض العجز التجاري للبلاد.
- وقد اقترح ستيفن ميران، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين، خطة تشبه اتفاق بلازا لعام 1985 ــ عندما اتفقت الولايات المتحدة مع اليابان وبريطانيا وألمانيا الغربية وفرنسا على خفض قيمة الدولار ــ في ما يمكن أن نطلق عليه "اتفاق مار إيه لاغو" نسبة إلى مقر إقامة ترامب في فلوريدا.
- وعادةً ما يتوازن العجز التجاري٬ أي عندما تتجاوز الواردات الصادرات٬ بمرور الوقت، إذ يُسبب ضغطاً هبوطياً على عملة الدولة (نتيجة لتجاوز الطلب على العملات الأجنبية الطلب على العملة المحلية). ومع ذلك، فإن "الامتياز الباهظ" للولايات المتحدة على رأس عملة الاحتياطي العالمي – ضماناً للطلب على الدولار – مكّنها من مواجهة عجز تجاري مستمر منذ سبعينيات القرن الماضي. ولا يرى العديد من خبراء الاقتصاد مشكلة كبيرة في هذا الأمر؛ إذا كان المستهلكون يستفيدون من السلع المستوردة الأرخص.
- وهناك أيضاً مخاوف بين المستثمرين من أن الولايات المتحدة قد تنتهج استراتيجية إجبار الدول الأخرى على دفع ثمن "الامتياز الباهظ" المتمثل في استخدام الدولار كعملة احتياطية. إلا أن ذلك سيُلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد العالمي، وسيُقوّض الثقة بالدولار أكثر فأكثر.
- يقول كارستن جونيوس، كبير الاقتصاديين في شركة جيه سافرا ساراسين لإدارة الأصول المستدامة: "ينبغي أن يكون العالم مستعدًا لهذا.. نعتقد أنه من المرجح أن تسعى الولايات المتحدة إلى الجمع بين المعاملة الجمركية التفضيلية، والوصول إلى أسواقها، وبنيتها التحتية المالية، مع الدول التي تحذو حذوها في عزل الصين. وأضاف: "ستحتاج البلدان إلى اتخاذ موقف، وهو ما سيكون صعباً بشكل خاص بالنسبة للدول الأوروبية وشرق آسيا التي تتمتع بعلاقات مهمة بنفس القدر مع كل من الولايات المتحدة والصين."
ماذا ستفعل القوى الاقتصادية الكبرى؟
- في ظلّ غموض مستقبل الدولار، يدرس الاتحاد الأوروبي تحديدًا خططًا طارئة. وصرّح خوسيه لويس إسكريفا، محافظ بنك إسبانيا وعضو مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، لصحيفة فاينانشال تايمز بأنّ الاتحاد الأوروبي قد يبرز كبديل أكثر جاذبية. وقال: "إننا قادرون على توفير منطقة اقتصادية كبيرة للغاية وعملة قوية، تستفيد من الاستقرار والقدرة على التنبؤ الناتجة عن السياسات الاقتصادية السليمة وسيادة القانون."
- فيما قال باسكال لامي، المفوض التجاري السابق بالاتحاد الأوروبي والرئيس السابق لمنظمة التجارة العالمية، إن الحرب التجارية التي يشنها ترامب قد تدفع الدول الأخرى إلى العمل بشكل أوثق مع بعضها البعض. وأضاف: "الاتحاد الأوروبي هو المرشح الأبرز لحشد عدد من الأطراف الأخرى. لن ينجح الأمر إذا قامت به الصين أو حتى إذا قامت به الهند.. إنها أزمة أمريكية، وليست أزمة عالمية. تُشكّل الولايات المتحدة 13% من واردات العالم. ولكن لا يوجد سببٌ لتأثر الـ 87% المتبقية بهذه الاقتصادات الوهمية"٬ على حد تعبيره.
- الميزة الكبرى الأخرى للدولار كعملة احتياطية عالمية هي أنه لا يواجه منافسين موثوقين. يلوح الرنمينبي الصيني في الأفق، لكن الصين تفتقر إلى أسواق مالية مفتوحة وسائلة، وهو أحد أهم متطلبات عملة الاحتياطي. لا يعوم الرنمينبي بحرية في بورصات العملات الأجنبية. تقيد الحكومة الصينية التدفق الحر لرأس المال من خلال تدابير مثل الضوابط على الاستثمارات الواردة والصادرة والقيود على التحويلات المصرفية الدولية. يواجه الأجانب عقبات تنظيمية عند الاستثمار في الأسواق المالية الصينية، بما في ذلك سوق السندات المحلية، التي تفتقر أيضًا إلى السيولة وعمق أسواق الديون الرائدة في العالم. حاولت الصين الترويج لمنافسها المحلي لـ SWIFT، وهو نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك (CIPS)، خاصة وأن العقوبات استبعدت بعض أكبر البنوك الروسية من SWIFT في عام 2022. ولكن حتى الآن، اجتذب CIPS 0.2٪ فقط من حجم معاملات SWIFT.
- أقرب منافس للدولار هو اليورو، الذي يستوفي العديد من شروط استخدامه كعملة احتياطية عالمية. تتمتع منطقة اليورو بأسواق رأس مال مفتوحة وسائلة، واليورو هو ثاني أكثر العملات تداولاً في العالم وثاني أكثر العملات الاحتياطية شيوعاً. ومع ذلك، لا تتضمن منطقة اليورو اتحاداً مالياً، وكانت ألمانيا، أكبر دولة في الكتلة، حتى وقت سابق من هذا العام، مترددة في إصدار كميات كبيرة من الديون الحكومية. أدى عدم وجود سياسة مالية موحدة لمنطقة اليورو إلى أزمة الديون الأوروبية 2010-2012، والتي تسببت بدورها في انخفاض حاد في أحجام تداول اليورو في أسواق الصرف الأجنبي، ومعاملات سويفت المقومة باليورو، وحصة اليورو في احتياطيات البنوك المركزية. وقد تفاقمت عيوب تصميم منطقة اليورو بسبب حقيقة أن الأسهم الأمريكية حققت عائداً يقارب خمسة أضعاف نظيراتها الأوروبية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، مما دفع موزعي الأصول إلى تركيز الاستثمارات في الولايات المتحدة. ولجعل الأمور أسوأ بالنسبة لليورو، فإن التهديد الجيوسياسي الذي تشكله الإمبريالية الروسية على أوروبا أعطى البنوك المركزية سبباً آخر لتجنب العملة الأوروبية الموحدة.
- ولم تُفلح جهود الترويج لعملات احتياطية ناشئة أخرى حتى الآن. طرحت مجموعة البريكس، وهي نادٍ يضم اقتصادات رئيسية غير غربية، عملة جديدة محتملة تُنافس الدولار. على المدى القريب، على الأقل، لن تُشكل هذه العملة الجديدة، التي يُفترض أن تدعمها سلة عملات من الدول المشاركة، أي تهديد لهيمنة الدولار. ليس فقط أنه لا توجد خطة لإنشاء اتحاد نقدي أو مالي مشترك داخل مجموعة البريكس، بل إن الدول المشاركة تختلف اختلافًا كبيرًا في أولوياتها المحلية والدولية. إن عملة تُنشئها مجموعة أكثر تجزئة بكثير من منطقة اليورو نفسها، لا يُتوقع أن تُصبح الخيار الأمثل للأعمال التجارية العالمية، خاصة وأن مجموعة البريكس لم تُوضح بعد كيفية عملها.
- ولم تُحقق البدائل الأكثر بريقًا، مثل البيتكوين والذهب، نجاحًا يُذكر. تفتقر العملات المشفرة إلى العديد من الخصائص اللازمة للعمل كعملات احتياطية، بما في ذلك السيولة، واستقرار الأسعار، والدعم الحكومي أو أي مصدر واضح آخر للقيمة. استُخدم الذهب كعملة لآلاف السنين، وشكّل أساسًا للعديد من الأنظمة النقدية حتى وقت قريب نسبيًا، لكن نقاط ضعفه باتت واضحة الآن. فمن ناحية، لا تستطيع الحكومات التحكم في العرض، لذا فإن الاعتماد على الذهب يُقيد قدرتها على الاستجابة للأزمات الاقتصادية.
- في النهاية٬ تقول مجلة "فورين أفيرز"٬ إن الدولار لم يكن دائماً عملة الاحتياطي العالمي أو العملة المفضلة للتجارة الدولية. في القرن التاسع عشر، كان الجنيه الاسترليني هو الذي يتمتع بهذه المكانة، وكان الممولون البريطانيون سيشعرون بالأمان في ظل حكمه. وكانت لدى المملكة المتحدة أسواق رأس مال عميقة وسائلة، وكانت الإمبراطورية البريطانية أكبر اقتصاد في العالم واللاعب المركزي في التجارة العالمية. ومع ذلك، بعد حربين عالميتين وعقود من التدهور السياسي والاقتصادي، شاهدت لندن المكانة العالمية للجنيه الإسترليني وهي تتراجع. لم يكن هناك ما هو حتمي بشأن انزلاق الجنيه الإسترليني أو ظهور الدولار، تمامًا كما لا يوجد شيء حتمي بشأن زوال الدولار المحتمل اليوم. الخيارات، وليس القدر، هي التي تحدد العملات الاحتياطية؛ إذا تم خلع الدولار في النهاية، فستكون كارثة من صنع إدارة ترامب نفسها٬ كما تقول المجلة.