شهدت ألمانيا انتخابات وطنية حاسمة يوم الأحد 23 فبراير/شباط 2025 أسفرت عن فوز حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) بقيادة المحامي والمصرفي فريدريش ميرتس بنسبة 28.5% من الأصوات، مما يمهد الطريق لتوليه منصب المستشارية العاشرة في الألمانية.
ورغم هذا الفوز، حقق حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) اليميني المتطرف تقدماً ملحوظاً بحصوله على 20.4% من الأصوات، ليصبح القوة السياسية الثانية في البلاد. أما الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) بقيادة أولاف شولتس، فقد شهد تراجعاً تاريخياً بحصوله على 16.3% فقط من الأصوات، وهو أسوأ أداء له منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا التوزيع الجديد للقوى السياسية يعكس تحولاً في المشهد السياسي الألماني، مع بروز قوى اليمين المتطرف وتراجع الأحزاب التقليدية. فيما تعهد ميرتس بتشكيل ائتلاف حكومي مع الاشتراكيين-الديمقراطيين الذين حلّوا في المرتبة الثالثة، مجدداً رفضه العمل مع حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف.
المستشار الألماني العاشر.. من هو فريدريش ميرتس؟
- فريدريش ميرتس، المولود في 11 نوفمبر 1955 في مدينة بريلون بولاية شمال الراين-وستفاليا، هو سياسي ومحامٍ ألماني بارز ورجل أعمال ومصرفي. بدأ مسيرته السياسية في الثمانينيات كعضو في البرلمان الأوروبي، ثم انتُخب عضواً في البوندستاغ (البرلمان الألماني) عام 1994.
- شغل ميرتس منصب رئيس الكتلة البرلمانية للاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CDU/CSU) من عام 2000 حتى 2002، حيث عُرف بآرائه المحافظة ونهجه الاقتصادي الليبرالي، وهو ينتمي لكتلة اليمين وسط.
- اتسمت علاقة ميرتس والمستشارة السابقة أنجيلا ميركل بالتوتر حيث كانا متنافسين منذ فترة طويلة. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بعد أن أصبحت ميركل زعيمة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، أطاحت بميرس من منصبه كزعيم برلماني للحزب، وتولت الدور بنفسها.
- ولم تعين ميركل ميرتس وزيراً قط، بل إنه قرر عدم الترشح للبرلمان مرة أخرى في عام 2009، بعد أن بدأ بالفعل في التركيز على مصالحه المختلفة في القطاع الخاص كمحامٍ ومصرفي استثماري. وكان ميرتس ينتقد قرار ميركل بنقل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى منطقة الوسط.

- بعد فترة من الابتعاد عن السياسة، عاد ميرتس إلى الساحة السياسية عام 2018، وسعى لقيادة الحزب الديمقراطي المسيحي. وفي عام 2021، تولى رئاسة الحزب بعد استقالة أنغريت كرامب. وتميزت حملته الانتخابية بالتركيز على القضايا الاقتصادية، تعزيز الأمن، وتقييد الهجرة، مما أكسبه دعماً واسعاً بين الناخبين الباحثين عن قيادة حازمة في مواجهة التحديات الراهنة.
- يعتبر ميرس رجل محافظ، وفي سنوات شبابه كان عضواً في حركة الشباب الكاثوليكية الألمانية. وله سجل في التصويت ضد الإجهاض، كما أدلى ببعض التعليقات حول المثلية الجنسية، وقال عن كلاوس فويرايت، عمدة برلين المثلي، "لا أمانع بوجوده طالما أنه لا يقترب مني". وفي مناظرة تلفزيونية مع المستشار شولتز، سُئل ميرس عن اعتراف دونالد ترامب بوجود جنسين فقط، فقال: "يمكنك أن تتفهم موقفه".
ما التوجهات التي يقودها بها ميرتس "الحزب الديمقراطي المسيحي" الحاكم؟
- يتبنى ميرس وجهة نظر اقتصادية مختلفة تمام الاختلاف عن ميركل، على الأقل في السنوات الأخيرة من توليها منصب المستشارة. في عام 2025، دعا بيان حزبه إلى تحرير الاقتصاد وخفض الضرائب لتعزيز النمو البطيء في ألمانيا. وزعم ميرس أن جزءاً من هذا ينبغي تمويله من خلال فرض المزيد من الشروط على المستفيدين من الرعاية الاجتماعية، مع وقف كامل للإعانات للمستفيدين الذين رفضوا القيام بأي شكل من أشكال العمل. وفي عام 2024، قال أيضاً إنه سيفعل "كل شيء" لمنع الاتحاد الأوروبي من تحمل الديون المشتركة.
- كان موقف ميرس متناقضاً باستمرار عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع حزب البديل من أجل ألمانيا المتطرف. فقد تحدث في عام 2023 عن إمكانية التعاون على المستوى المحلي، مشيراً إلى "أننا ملزمون بالاعتراف بالانتخابات الديمقراطية"، قبل أن يتراجع عن موقفه.
- في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، قال ميرس إنه وحزبه لن يحاولا تمرير أي تشريع في البرلمان الوطني إذا كان ذلك يعني الاعتماد على أصوات حزب البديل من أجل ألمانيا للقيام بذلك. لكنه فاجئ الألمانيين في يناير/كانون الثاني 2025 عندما فعل ذلك على وجه التحديد، وقام بالدفع بخطة متشددة بشأن الهجرة بدعم من حزب البديل من أجل ألمانيا المتطرف. وقد أدى هذا التحول في موقفه إلى تعرضه لانتقادات من جانب عدوته اللدود ميركل، لكن الرجل لم يبالي بذلك.
- خلال الحملة الانتخابية، تعهد ميرتس بـ"جعل الاقتصاد الألماني المريض قوياً" وتعهّد بـ"الحد من الهجرة غير النظامية".
ما موقف ميرتس من ملف الهجرة؟
- يشتهر ميرتس بمواقفه الصارمة بشأن الهجرة. وفي سياق الأزمة المستمرة منذ عام 2015، انتقد بشدة سياسة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل للهجرة المفتوحة التي سمحت بدخول مئات الآلاف من اللاجئين إلى ألمانيا.
- وفي تصريحات له، أكد ميرتس على ضرورة ضبط حدود ألمانيا وتركيزها على "الهجرة الاقتصادية المنظمة" التي تساهم في مصلحة البلاد. كما أعلن حاجة ألمانيا إلى ترحيل مهاجرين غير نظاميين تشمل السوريين، وقال "بعد أفغانستان وسوريا، نريد أن نبدأ في الترحيل بشكل منتظم".
- كما أضاف "يجب إعادة العديد من السوريين الذين لا يعملون في ألمانيا إلى بلدهم الذين قد يأتون قد يكونون من أفراد ميليشيات الأسد، ونحن لا نحتاجهم هنا في ألمانيا" على حد تعبيره.
- وصلت مواقفه في ملف الهجرة إلى ذروتها في يناير 2025، وذلك بعدما دعم "حزب البديل من أجل ألمانيا" المتطرف اقتراحاً قاده ميرس – وهو ما يمثل المرة الأولى في تاريخ ألمانيا بعد الحرب التي تحقق فيها الأغلبية بمساعدة اليمين المتطرف، حول ضبط ملف الهجرة وترحيل مهاجرين وتشديد الرقابة على الحدود وغيرها من الإجراءات. لكن تمت الموافقة على الاقتراح بفارق ضئيل بفضل أصوات حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف. ودفع هذا الاقتراح خصومه إلى اتهام ميرتس بكسر المحرمات من خلال العمل المزعوم مع حزب "البديل من أجل ألمانيا". ومنذ ذلك الحين، نزل مئات الآلاف إلى الشوارع للاحتجاج ضد اقتراح ميرتس وصعود اليمين المتطرف.
- هناك قلق في بعض الأوساط من أن مثل هذه السياسات قد تؤدي إلى تشديد الرقابة على المهاجرين المسلمين وتضييق الفرص أمامهم للاندماج، لا سيما في ظل مخاوف الحزب من تأثيرات التطرف الديني.
- وخلال فترة أنجيلا ميركل، كانت هناك محاولات لدمج المسلمين في المجتمع الألماني من خلال برامج تعليمية واجتماعية، ولكن هناك أيضاً قوى داخل الحزب تعارض إدماج الإسلام في الهوية الوطنية الألمانية، الأمر الذي يثير مخاوف العرب والمسلمين في ألمانيا.
- وسبق أن قال فريدريش ميرتس، إنه من الضروري ضبط الهجرة بشكل أكبر في ألمانيا، ووضع شروط واضحة للمهاجرين للحصول على إقامة دائمة في البلاد، أبرزها الالتزام التام بالأسس التي تقوم عليها دولة ألمانيا. ومن بين تصريحاته المثيرة للجدل كان قوله إن "المهاجرين المسلمين يجب أن يتكيفوا مع القيم الألمانية، بدلاً من أن يُسمح لهم بتشكيل مجتمعات موازية"، وهو تصريح فجّر ردود فعل متنوعة بين مؤيدين ومعارضين.

كيف ينظر ميرتس للعلاقة مع أمريكا وأوروبا وإسرائيل؟
- بين عام 2009 و 2019، ترأس ميرس منظمة الجسر الأطلسي، وهي منظمة ألمانية بارزة مكرسة لتعزيز العلاقات بين ألمانيا والولايات المتحدة. وهو من أتباع العلاقات عبر الأطلسية بقوة. وقد أرسل مؤخراً مذكرة مكتوبة بخط اليد إلى دونالد ترامب يهنئه فيها على انتخابه، مشيراً إلى "تفويضه القوي للقيادة". ومع ذلك، في بيان صدر في ليلة الانتخابات الألمانية، تعهد ميرس "بتحقيق الاستقلال" عن الولايات المتحدة وأقر بأن ترامب "غير مبال إلى حد كبير" بمصير أوروبا.
- وتقول الصحف الغربية إن هناك رغبة قوية في أوروبا في أن تلعب ألمانيا دوراً قيادياً أكثر نشاطاً مرة أخرى. وفي الوقت الذي يتراجع فيه ترامب عن التأكيد على الأمن الأوروبي ودعم أوكرانيا، يدرك ميرس تمام الإدراك الفراغ الذي بدأ ينشأ، وهو عازم على أن تتدخل ألمانيا، مع حلفائها الأوروبيين بما في ذلك المملكة المتحدة لتعويض الغياب الأمريكي المحتمل.
- في الوقت نفسه، يعد ميرز مؤيد لأوروبا. فقد كان عضوا في البرلمان الأوروبي بين عامي 1989 و1994، وكان واضحاً في قوله إن التعاون الأوروبي الوثيق يشكل جزءاً أساسيا من رد أوروبا على ترامب. كما قام بإصلاح العلاقات المتوترة مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ويرى إمكانات في التعاون معها ومع مانفريد ويبر، وهو سياسي من حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي وزعيم أعضاء البرلمان الأوروبي من يمين الوسط. وتعهد ميرس أيضاً بزيارة وارسو وباريس لإعادة بناء العلاقات الأوروبية الداخلية بعد فترة صعبة في عهد المستشار السابق شولتز.
- فيما يتعلق بإسرائيل، فقد سبق وأن أعلن ميرتس أنه في حال فوزه بمنصب المستشار، فسيعمل على تعزيز العلاقات مع دولة الاحتلال، مؤكدا أنه سيضع حدا للقيود المفروضة على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل في ظل الحكومة الحالية. وأضاف أنه سيضمن لإسرائيل "حقها في الدفاع عن نفسها"، وأن ألمانيا "ستقف بحزم إلى جانبها في جميع الظروف"، مشيرا إلى أن "أمن إسرائيل هو جزء من مصلحة الدولة الألمانية" على حد تعبيره.
- وبعد فوزه بالانتخابات أكد ميرتس أنه يعتزم دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لزيارة ألمانيا، في تحد لمذكرة اعتقال صادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية. وقال ميرتس "في حال كان يخطط نتنياهو لزيارة ألمانيا، فقد وعدت نفسي أيضا بأننا سنجد طريقة لضمان قدرته على زيارة ألمانيا ومغادرتها مجددا، من دون توقيفه".
- وذكر مكتب نتنياهو هنأ ميرتس في اتصال هاتفي بفوزه، وأضاف أن ميرتس أبلغ نتنياهو بأنه سيدعوه لزيارة ألمانيا وهي من الدول الموقعة على اتفاقية تأسيس المحكمة الجنائية الدولية. وردا على تصريح ميرتس بأنه سيدعو نتنياهو، قالت المحكمة الجنائية الدولية إن "تنفيذ قراراتنا ملزم"، وإنه "ليس من حق الدول أن تحدد بشكل منفرد صحة أحكامنا القانونية".
هل ينجح ميرتس في إعادة "ألمانيا القوية" كما كانت في عهد ميركل؟
- تُعتبر أنجيلا ميركل من أبرز الشخصيات التي قادت ألمانيا خلال العقدين الماضيين، حيث حققت البلاد في عهدها استقراراً اقتصادياً وسياسياً ملحوظاً. يُطرح السؤال الآن حول قدرة ميرتس (خصمها اللدود) على مواصلة هذا الإرث وتعزيز مكانة ألمانيا على الساحة الدولية.

- يقول الحزب الديمقراطي المسيحي إن ميرتس يمتلك خبرة سياسية واقتصادية، مما قد يساعده في تنفيذ سياسات تعزز من قوة ألمانيا وتعيدها إلى موقعها الصحيح. ومع ذلك، فإن التحديات الحالية، مثل الأزمة الاقتصادية والتوترات الدولية والعلاقة مع أوروبا وروسيا وأمريكا، تتطلب استراتيجيات مبتكرة من الرجل الذي ورث حكومة مجهدة بسبب الأعباء الكبيرة التي عجزت عن إيجاد حلول لها.
- وباعتبارها أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، تلعب ألمانيا دوراً محورياً في تشكيل سياسات القارة. مع تولي ميرتس منصب المستشار، قد تشهد برلين بعض التغييرات في التوجهات الأوروبية، مثل تعزيز التعاون الدفاعي، مع التركيز على تقاسم الأعباء بين الدول الأعضاء. وبفضل توجهاته الليبرالية، قد يدعم ميرتس سياسات اقتصادية أوروبية أكثر تحرراً تشجع على المنافسة وتقليل البيروقراطية داخل الاتحاد.
- ويقول محللون غربيون إن ألمانيا تحتاج إلى قرارات جريئة من قبل ميرتس حتى تستعيد دورها القيادي في أوروبا، وهذا يتطلب منه إصلاح الاقتصاد الألماني الذي لم يعد بنفس الكفاءة، والعمل على تحفيز النمو والابتكار، وتعزيز قدرة البلاد على منافسة الدول الأخرى بقوة، والتعامل بجدية وحزم مع روسيا في ظل التخلي الأمريكي المحتمل عن أوروبا، لكن هناك عقبات كبيرة أمام تحقيق ذلك.