لماذا يستهدف ترامب وماسك جنوب أفريقيا؟.. غزة وأسباب أخرى

عربي بوست
تم النشر: 2025/02/15 الساعة 18:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/02/15 الساعة 18:08 بتوقيت غرينتش
بين سياسة ترامب ومصالح ماسك.. واشنطن تعاقب جنوب أفريقيا (عربي بوست)

في جنوب أفريقيا لا تزال 70% من أراضي الزراعية مملوكة للبيض، رغم أنهم لا يشكلون سوى 7% من السكان، بينما لا يمتلك السود، الذين يمثلون 80% من السكان، سوى 4% فقط من الأراضي الزراعية. هذا الواقع الصارخ يجعل جنوب أفريقيا واحدة من أكثر الدول تفاوتًا في العالم، وفقًا لمؤشر جيني لقياس عدم المساواة.

ورغم هذه الحقائق، اختارت واشنطن التصعيد ضد بريتوريا، إذ أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الجمعة الماضي توقيعه أمرًا تنفيذيًا بوقف المساعدات المالية لجنوب أفريقيا. وأوضح البيت الأبيض أن الأمر يستهدف التعامل مع ما سمّاه "الأفعال الفظيعة" في جنوب أفريقيا، بشأن مصادرة أراضٍ زراعية لأقليات عرقية، في إشارة إلى المزارعين وملّاك الأراضي البيض.

لكن الأسباب التي دفعت واشنطن لهذا الإجراء لم تكن اقتصادية فقط، بل جاءت ردًا على مواقف جنوب أفريقيا الدولية، والتجرؤ على رفع دعوى ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يعتبره ترامب مضرًا بـ"السياسة الخارجية" للولايات المتحدة. وقال: إن "جنوب أفريقيا اتخذت مواقف عدوانية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها، بما فيها اتهام الاحتلال الإسرائيلي، وليس حركة حماس، بارتكاب إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية.

إلى جانب ترامب في البيت الأبيض، يبرز الملياردير الأميركي إيلون ماسك كأحد العوامل المؤثرة في التصعيد الأميركي تجاه جنوب أفريقيا. وفقًا لما أشارت إليه مجلة فورين بوليسي الأميركية، فالمسألة لا تقتصر على الحسابات السياسية فقط، بل تمتد إلى المصالح الاقتصادية والطموحات التوسعية التي يسعى ماسك إلى تحقيقها في القارة الأفريقية. فما القصة؟

واشنطن تقطع المساعدات من أجل البيض في جنوب أفريقيا

منذ بداية فبراير/شباط الجاري، تصاعدت حدة التوتر بين واشنطن وبريتوريا، حيث بلغت ذروتها بإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرارًا بقطع المساعدات عن جنوب أفريقيا، متذرعًا بما وصفه بـ"التمييز العنصري غير العادل" ضد الأفريكانيين، وذلك على خلفية قانون إصلاح الأراضي الجديد.

الأفريكانيون، هو وصف يطلق على ذوي البشرة البيضاء من نسل المستوطنين الهولنديين والفرنسيين القدماء، الذين يمتلكون معظم الأراضي الزراعية في البلاد. والذين يمثلون حوالي 4% من سكان جنوب أفريقيا، علماً أن البيض يشكلون في هذا البلد حوالي 7% من إجمالي السكان، فيما يشكل الأفارقة السود 81%، في بلد لا تزال قضية ملكية الأراضي الزراعية فيه إحدى أكثر الملفات تعقيدًا منذ حقبة الاستعمار الهولندي والبريطاني، ثم نظام الفصل العنصري الذي استمر قرابة نصف قرن قبل أن ينتهي عام 1994 مع انتخاب المناضل نيلسون مانديلا رئيسًا للبلاد.

لماذا يستهدف ترامب وماسك جنوب أفريقيا؟.. غزة وأسباب أخرى
جنوب أفريقيا/ shutterstock 

بالنسبة للمواطنين السود، لا تزال مسألة ملكية الأراضي تمثل جوهر نضالهم التاريخي، حيث رغم التحول الديمقراطي، تظل جنوب أفريقيا واحدة من أكثر الدول تفاوتًا اقتصاديًا، فالبلد الذي يضم حوالي 63 مليون نسمة أغلبهم من الأفارقة السود، تحتفظ فيه الأقلية البيضاء بالسيطرة على معظم الأراضي الزراعية، ما عزز فجوة الثروة واللامساواة العرقية التي لا تزال قائمة إلى اليوم، ويجعل البلاد واحدة من أكثر الدول تفاوتًا في العالم، وفقًا لمؤشر جيني لقياس عدم المساواة.

ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة وتراجع شعبية حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم، عاد ملف الأراضي الزراعية إلى الواجهة كأحد أبرز القضايا التي تعكس جذور التفاوت الاقتصادي العميق في البلاد. في هذا السياق، وقع الرئيس سيريل رامافوزا الشهر الماضي قانون مصادرة الأراضي، الذي يمنح الدولة صلاحيات أوسع للاستحواذ على الأراضي للمصلحة العامة، مثل مشاريع البنية التحتية وبناء المدارس، مع تعويضات تُدفع في معظم الحالات للمالكين البيض. وعلى عكس ما تروّج له بعض الأطراف، فإن القانون لا يستهدف نقل الأراضي إلى السود، بل يسعى إلى تصحيح إرث التمييز التاريخي الذي تراكم لعقود.

إلا أن القانون لم يمرّ مرور الكرام في واشنطن، حيث أثار اهتمامًا واسعًا منذ ما قبل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، خاصة مع نشاط لوبي جنوب أفريقي أبيض يسعى للتأثير على السياسة الأميركية. ومع تصاعد التوتر، أصبح القانون العنوان العلني لهجوم ترامب وفريقه، بدعم واضح من صديقه الملياردير الأميركي.

وبحسب الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب، جاء القرار لـ"معاقبة جنوب أفريقيا على أعمالها الفاضحة"، معتبراً أن قانون مصادرة الأراضي يسمح للحكومة بـ"الاستيلاء على ممتلكات الأقلية الأفريقانية من دون تعويض"، إذ يزعم ترامب أن القانون يأتي "إضافة إلى سياسات لا تحصى انتهجتها الحكومة لمنع تكافؤ الفرص في العمل والتربية والأعمال"، في إشارة إلى امتعاض سابق للكونغرس الأميركي من قانون اعتبره البيض والأفريكانيين سيحد من تعليم واستخدام اللغة الأفريكانية في المدارس. واعتبر ترامب في القرار أن المالكين البيض للأراضي "غير مرغوب فيهم لأسباب عنصرية".

ويمنح ترامب الهجوم بعدًا عرقيًا، ليقدم نفسه كمدافع عن البيض في كل مكان بحسب ما وصفته الصحافة الجنوب أفريقية، في محاولة لتعزيز شعبيته بين قاعدته المحافظة. حمل إعلانه التنفيذي مفاجأة غير متوقعة، تمثلت في عرض منح الأفريكانيين وضع اللاجئ في الولايات المتحدة، مع مسار سريع للحصول على البطاقة الخضراء ثم المواطنة، رغم أنهم يمثلون الفئة الأكثر ثراءً وامتيازًا في جنوب أفريقيا.

فوز ترامب في الانتخابات
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب / رويترز

وزارة الخارجية في جنوب أفريقيا وصفت القرار بأنه "يفتقر إلى الدقة" ويستند إلى "حملة تضليل ودعاية"، لافتةً إلى أن "منح وضع اللاجئ في الولايات المتحدة لمجموعة تظل من الأكثر امتيازًا اقتصاديًا في جنوب أفريقيا يتناقض مع سياسات ترامب المتشددة تجاه اللاجئين من مناطق أخرى حول العالم".

لكن ترامب، الذي اشتهر بتدخله في ملفات دولية دون إلمام كافٍ بالتفاصيل، تجاهل الحقائق التاريخية المرتبطة بملف ملكية الأراضي في جنوب أفريقيا. إذ أن قانون "الأرض الأصلية" لعام 1913، الذي فرضه البريطانيون، منح معظم الأراضي الزراعية للبيض، تاركًا فقط 13% من الأراضي للسود. وفي عام 1950، عمّق الحزب الوطني الأفريكاني هذا التمييز عبر طرد 3.5 ملايين مواطن أسود من أراضيهم. واليوم، لا تزال 70% من الأراضي الزراعية في يد الأقلية البيضاء، وهو واقع لم يتغير رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الفصل العنصري.

ولا يبدو أن فريق ترامب أفضل منه حالًا، إذ يبدو أنهم لم يعطوا لنفسهم الوقت لينظروا إلى الإحصائيات، التي تعكس استمرار عدم المساواة العرقية في البلاد. فوفقًا للبيانات، 62% من المناصب العليا في جنوب أفريقيا يشغلها البيض، رغم أنهم يمثلون أقل من 30% من العمالة المؤهلة، بينما يشغل السود 17% فقط من تلك المناصب، رغم أنهم يشكلون نصف القوى العاملة المؤهلة. كما أن 3% فقط من كبرى الشركات في البلاد كانت تحت سيطرة السود حتى عام 2019.

بدوره، نفى وزير الإصلاح الزراعي والتنمية الريفية في جنوب أفريقيا، مزوانيلي نيهونتسو، صحة مزاعم ترامب، قائلاً: "الرئيس ترامب لا يستطيع أن يذكر حتى مزرعة واحدة تم مصادرتها من مزارع أبيض".

بالإضافة إلى ذلك، الجماعات الأفريكانية، التي لطالما ضغطت على الجمهوريين للحديث عن الاضطهاد المزعوم، رفضت فكرة الفرار إلى الولايات المتحدة كلاجئين.

بل ذهب فليب بايز، رئيس حركة التضامن في جنوب أفريقيا، وهي مجموعة ضغط تدعي أنها تمثل مليوني أفريكاني، إلى حد نفي ادعاءات ترامب علنًا. إذ قال في مؤتمر صحفي مشترك: "لم نتهم الحكومة بالاستيلاء على الأراضي على نطاق واسع على أساس عرقي، أو نشر معلومات كاذبة في هذا الصدد". "لم نطلب ولن نطلب فرض عقوبات على جنوب أفريقيا، أو قطع الأموال عن الأشخاص الضعفاء من قبل الحكومة الأمريكية".

فما الحقيقة وراء عداء ترامب لجنوب إفريقيا؟

بالطبع لم يرق لترامب تجُرُّؤ جنوب أفريقيا برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي كان يرتكب الإبادة الجماعية في غزة، على مدى 15 شهراً خلفت نحو 160 ألف قتيل وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود.

وزير العدل الجنوب أفريقي رونالد لامولا مع الوفد القانوني التابع لبلاده الذي ترافع أمام محكمة العدل الدولية وطلب منها إصدار أمر طارئ لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة باعتبارها إبادة جماعية/رويترز

إلا أن ذلك لا يختصر حجم المشكلة، فمنذ سنوات، في واشنطن، وبعضها يغذي نظريات مؤامرة تتحدث عن "مذابح" ترتكب بحق المواطنين البيض في جنوب أفريقيا. وكانت هذه النظريات قد لفتت نظر ترامب للمرة الأولى لدى وصوله إلى البيت الأبيض في عام 2017، وكتب مرة على "تويتر" (إكس حالياً) أنه قلق مما أسماه "فظائع ترتكب في جنوب أفريقيا".

يبدو أن الملياردير الجنوب أفريقي الأصل، ومالك إكس وسبايس إكس، إيلون ماسك، الذي يتمتع بعلاقة قوية مع ترامب، يتشارك معه في الرغبة في الانتقام من بريتوريا. فخلال الأشهر الماضية، كان ماسك يسعى للحصول على ترخيص لتشغيل "ستارلينك" في جنوب أفريقيا، لكنه اصطدم بقوانين البلاد التي تفرض ملكية محلية بنسبة 30% على الأقل بموجب قانون تمكين السود. وبدلاً من الامتثال للقوانين المحلية، هاجم ماسك جنوب أفريقيا علنًا، زاعمًا أنها تطبق "قوانين عنصرية صريحة"، وفق منشور له على منصته "إكس".

"ستارلينك" في أفريقيا

لكن مجلة "فورين بوليسي" ترى أن ماسك يخوض معركة أوسع في القارة الأفريقية، حيث تعمل "ستارلينك" في أكثر من 12 دولة أفريقية، لكنها تواجه شكاوى متزايدة بشأن المنافسة غير العادلة، لأنها لا توظف أيًا من السكان المحليين. وإذا التزم ماسك بالقوانين في جنوب أفريقيا، فقد يُضطر للامتثال لمطالب مماثلة في كينيا ودول أفريقية أخرى، مما قد يعرض نموذج أعماله هناك لمزيد من التحديات القانونية والتنظيمية.

لا يبدو أن الحديث عن تأثير مصالح ماسك التجارية على السياسة الخارجية الأميركية مجرد مبالغة، بل بات واقعًا ملموسًا يتجلى في قرارات كبار المسؤولين الأميركيين. هذا النفوذ دفع السيناتور كريس مورفي إلى الرد بحدة على منشور وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، الذي أعلن أنه لن يحضر قمة مجموعة العشرين في جوهانسبرغ، مرددًا مزاعم ترامب بأن "جنوب أفريقيا تقوم بأشياء سيئة للغاية".

في تعليقه على هذا الموقف، قال مورفي بوضوح: "ليس من الصعب فهم هذا الأمر. فقد رُفض ترخيص مشروع ستارلينك التابع لإيلون ماسك في جنوب أفريقيا، ولذا فقد شن حملة انتقامية لحملهم على التراجع عن قرارهم. إن سياستنا الخارجية الآن مجرد تكتيكات تجارية للمليارديرات. يا له من فساد مفجع".

تحميل المزيد