لطالما مثلت العلاقة بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية محوراً معقداً من التوترات والمصالح المتشابكة، حيث تمتد جذور الهيمنة الأمريكية إلى القرن التاسع عشر. غير أن صعود الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة عام 2017 أضاف بُعداً جديداً من العداء الصريح تجاه دول القارة الجنوبية، إذ تبنى سياسات هجومية غير مسبوقة، تراوحت بين الخطاب العنصري، وفرض العقوبات القاسية، وقطع المعونات، وإشعال فتيل الأزمات الدبلوماسية. فما هي الدوافع الحقيقية وراء هذا النهج؟ وكيف يمكن فهم عدوانيته تجاه دول أمريكا اللاتينية في ضوء التاريخ الأمريكي الطويل من التدخلات في المنطقة؟
مبدأ مونرو وبدايات التدخل الأمريكي
يعود التدخل الأمريكي في أمريكا اللاتينية إلى إعلان مبدأ مونرو عام 1823، الذي نصّ على رفض التدخل الأوروبي في نصف الكرة الأرضية الغربي. كان هذا المبدأ ظاهرياً يهدف إلى حماية استقلال الدول الناشئة في العالم الجديد من الكرة الأرضية، لكنه في الواقع كان بداية لاستراتيجية أمريكية استهدفت ترسيخ النفوذ الأمريكي في المنطقة. ففي العقود التي تلت ذلك، عملت واشنطن على التدخل في شؤون أمريكا اللاتينية بدعوى حماية مصالحها السياسية والاقتصادية.
مرحلة الاحتواء.. الدولار بدلاً من الرصاص
مع مطلع القرن العشرين، أصبحت "دبلوماسية الدولار" أهمّ أدوات الاستعمار المالي لفرض الهيمنة الأمريكية، حيث استخدمت الولايات المتحدة نفوذها الاقتصادي للسيطرة على اقتصادات الدول اللاتينية.
وصف الرئيس ويليام هوارد تافت هذه الاستراتيجية بـ"استبدال الرصاص بالدولار"، إذ اعتمدت الولايات المتحدة على تقديم الإغراءات المالية مقرونةً بالتهديد العسكري لتحقيق مكاسب جيوسياسية واقتصادية في آنٍ واحد.
فتحولت أمريكا اللاتينية إلى "مختبر" لهذه الاستراتيجية، كما عبّر عن ذلك مكتب شؤون أمريكا اللاتينية عام 1909 بوضوح تام: "إن أردنا… حصّة في الاستثمارات الخارجية وفرصة لاستغلال مقدّرات البلاد الأخرى، وحصّة في ثروات باقي الأمم، علينا شراء سنداتها، وتسهيل تسويق ديونها، وبناء سككها الحديد، وتأسيس مصارف في مدنها الرئيسة… وعندما تحتاج شعوبها إلى المال، عليهم أن يأتوا إلينا".
ولعبت الشركات الأمريكية دوراً جوهرياً، وأبرزها شركة "يونايتد فروت" التي حولت العديد من دول أمريكا الوسطى إلى "جمهوريات موز" تخضع لهيمنتها. هو مصطلح يُطلق على الدول التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، حيث تسيطر عليها الشركات الأجنبية وتؤثر على قرارات حكوماتها، غالباً بما يخدم مصالح خارجية على حساب سيادتها.
حيث لم تكتفِ هذه الشركة بالتحكم في الاقتصاد، بل امتدت سيطرتها إلى إدارة البنية التحتية، والبريد، والشحنات، وفرضت سلطتها على العمال، حيث دفعت أجورهم بكوبونات لا تُصرف إلا في متاجرها.
إذ كانت "يونايتد فروت" تملك أساطيل بحرية ضخمة تُعرف بـ"الأساطيل البيضاء العظيمة"، كما أنها كانت تدير البريد في بعض دول أمريكا الوسطى، مما منحها قوة عقابية هائلة، إذ تمكنت من فرض عقوبات اقتصادية وحتى قطع الخدمات البريدية عن بعض مناطق أمريكا اللاتينية التي تخرج عن طاعتها.
فصارت "يونايتد فروت" رمزاً لنفوذ الشركات الأمريكية في أمريكا اللاتينية، وقد صاغ الكاتب الأمريكي أو. هنري مصطلح "جمهورية الموز" لأول مرة في روايته Cabbages and Kings عام 1904، حيث استلهمه من واقع هندوراس التي شهدت نفوذاً غير عادي لشركات الفاكهة الأمريكية. إذ قامت هذه الشركات ببناء الموانئ والسكك الحديدية مقابل السيطرة على الأراضي الزراعية، خصوصاً لزراعة الموز. ولم تقتصر الهيمنة على الاقتصاد، بل امتدت إلى السياسة، والإطاحة بالحكومات وتنصيب أنظمة موالية لمصالحها. وهكذا، أصبح المصطلح يُشير إلى الدول التي تسيطر فيها الشركات الأجنبية على سياسات الحكومة، ويكون قادتها تابعين لقوى خارجية.
لم تتوقف "يونايتد فروت" عند هذا الحد، بل عمدت إلى التلاعب بالرأي العام الأمريكي ضد الحكومات التي تعارض نفوذها. ففي غواتيمالا، شنّت الشركة بالتعاون مع إدوارد بيرنيز، وهو أحد رواد علم الدعاية الحديثة، حملة تشويه واسعة ضد الرئيس المنتخب جاكوبو أربينز، الذي حاول تنفيذ إصلاحات زراعية تحدّ من احتكار الشركة للأراضي. تم تصوير أربينز على أنه شيوعي خطر، مما مهد الطريق لانقلاب مدعوم من وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) عام 1954.
ولم يكن الأمر مجرد استغلال اقتصادي، بل أدى إلى تفكيك البنى الاجتماعية للدول، وهو ما جسده الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في "مئة عام من العزلة"، حيث وصف كيف غيرت "شركة الموز" نمط الري وسرّعت دورة الحصاد وجلبت معها الحداثة، لكنها أيضاً جلبت الديكتاتور واستأجرت القتلة وأطلقت الرصاص على العمال المضربين. وعندما رحلت، تركت البلاد في حالة خراب.
وهو ما أوضحه بيتر شابمان في كتابه الموز: "كيف شكلت شركة يونايتد فروت العالم؟" وكيف أن إطلاق العنان للشركات متعددة الجنسيات دون رقابة، يمنحها نفوذاً يتجاوز سلطة الدول نفسها، مما قد يحوّل العالم بأسره إلى "جمهورية موز". ورغم اختفاء "يونايتد فروت" رسمياً، إلا أن إرثها المخيف لا يزال قائماً، يعيد إنتاج نفسه بأشكال جديدة من الهيمنة الاقتصادية والسياسية.
العنف المباشر خلال الحرب الباردة.. الانقلابات والتدخلات العسكرية
في تشرين الثاني/نوفمبر 1952، انتُخب دوايت أيزنهاور، مرشح الحزب الجمهوري، رئيساً للولايات المتحدة. كانت سياسة واشنطن تعتمد على احتواء الشيوعية، وليس استخدام القوة. لكن أيزنهاور لم يكن راضياً عن هذا النهج، وجاء لينفذ سياسة هجومية.
مع تصاعد الحرب الباردة، تحولت أمريكا اللاتينية إلى ساحة صراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وتحت راية احتواء الشيوعية، لم تتردد واشنطن في دعم الانقلابات العسكرية والإطاحة بالحكومات اليسارية، وهو ما حدث مع جاكوبو أربينز في غواتيمالا عام 1954.
الأمر ذاته تكرر في تشيلي عام 1973، عندما دعم الجنرال أوغستو بينوشيه في انقلابه ضد الرئيس المنتخب سلفادور أليندي. لم يكن هذا مجرد انقلاب، بل كانت الولايات المتحدة تقدم دعماً مباشراً من خلال تمويل جماعات معارضة وفرض عقوبات اقتصادية قاسية على الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا. كما قدمت واشنطن دعماً للأنظمة الديكتاتورية في الأرجنتين، البرازيل، وباراغواي، ما ساهم في ترسيخ أنظمة قمعية استخدمت التعذيب والاختفاء القسري ضد معارضيها.
بعد الحرب الباردة وظهور ترامب.. العقوبات الاقتصادية سلاح واشنطن للإخضاع
على الرغم من أن السياسة الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية لم تتغير جوهرياً على مدار العقود، إلا أن ترامب منحها طابعاً أكثر عدوانية وصدامية. فقد دمج بين الأيديولوجيا القومية المتطرفة والمصلحة الاقتصادية، ما جعل خطابه وسياساته أكثر شراسة من سابقيه.
وترى الأكاديمية والمحللة السياسية البرازيلية، فلافيا بيلييني زيمرمان، في مقال لها أن دفع ترامب نحو سياسات محافظة متطرفة لن يقتصر على إعادة تشكيل الحكومة الأمريكية فحسب، بل سيمتد ليحفّز نظراءه من اليمين المتطرف في أمريكا اللاتينية على إعادة ترسيخ توجهاتهم الاستبدادية في المنطقة.
فخلال ولايته الأولى، أقام ترامب علاقات وثيقة مع القادة اليمنيين في أمريكا اللاتينية، وفي مقدمتهم الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، الذي شاركه مواقفه المتشددة تجاه اليسار والمهاجرين. كما عزّز ترامب التعاون مع الأنظمة المحافظة في كولومبيا، الإكوادور، والأرجنتين، متجاهلاً في كثير من الأحيان انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها بعض تلك الحكومات.
واليوم، يُعتبر كل من الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو حليفين استراتيجيين لترامب في المنطقة، ما قد يُنذر بتصاعد المعارضة الأمريكية لسياسات الرئيس البرازيلي الحالي، لولا دا سيلفا، ونظرائه اليساريين، مثل الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو. والذي اصطدم مع ترامب سريعاً بعدما أعاد الرئيس اليساري جوستافو بيترو طائرتين عسكريتين أمريكيتين كانتا محملتين بالمهاجرين، ولكن المواجهة انتهت في غضون ساعات بعدما رضخت بوجوتا لتهديدات ترامب بفرض عقوبات تكهل الاقتصاد الكولومبي.
أثارت هذه المواجهة، التي تردّد صداها بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي، قلقاً واسعاً في دول أمريكا اللاتينية، التي تخشى من تهديدات ترامب المتزايدة باستخدام القوة العسكرية لاستعادة السيطرة الأمريكية على قناة بنما، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز. وقد ادّعى الرئيس الأمريكي أن الصين تسيطر على القناة حالياً، وأن السفن الأمريكية "تتعرض للنهب" بسبب رسوم العبور عبر هذا الممر المائي الاستراتيجي. كما تزايدت مخاوف دول المنطقة من فرض تعريفات جمركية باهظة على المكسيك، أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، عبّر دبلوماسي بارز في واشنطن عن قلق متزايد في أوساط السفارات اللاتينية، قائلاً: "هناك الكثير من القلق في سفارات دول أمريكا اللاتينية في واشنطن. ويبدو أننا عدنا إلى سنة 1897 وحقبة الرئيس ويليام ماكينلي الذي كان قد غزا كلاً من كوبا والفلبين".
استجابةً لهذا التصعيد، دعت رئيسة هندوراس، زيومارا كاسترو، إلى عقد قمة طارئة بصفتها رئيسة لمجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي (سيلاك)، وذلك بناءً على طلب الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو. ومن المقرر أن تناقش القمة قضايا الهجرة، البيئة، والوحدة الإقليمية، وفقاً لما نشرته كاسترو عبر منصة "إكس".
منذ بداية حملته الرئاسية عام 2015، اعتمد ترامب خطاباً تحريضياً ضد المهاجرين المكسيكيين، واصفاً إياهم بـ"المجرمين" و"المغتصبين"، وفي حملته الثانية، وصف الأشخاص الذين يعبرون الحدود الجنوبية لأمريكا بأنهم مجرمون ومغتصبون وإرهابيون. وروّج بأن البلاد تتعرض لـ"غزو" و"دولة محتلة". كما اتهم المهاجرين الهايتيين في أوهايو زوراً بأكل الحيوانات الأليفة.كما انتهج سياسات صارمة مثل فصل الأطفال عن عائلاتهم على الحدود، وأصرّ على بناء الجدار الحدودي مع المكسيك.
وهذا الخطابٌ كرّس لسياسات قمعية ضد اللاجئين القادمين من أمريكا الوسطى والجنوبية، إذ يشير بعض المؤرخين إلى أن رسالة السيد ترامب القومية ليست سوى أحدث مثال على سلالة طويلة الأمد من كراهية الأجانب في السياسة الأمريكية. وتصف إيريكا لي، المؤلفة وأستاذة التاريخ في جامعة هارفارد، "سموم" السيد ترامب بأنها مركزية وليست استثنائية في السياسة الأمريكية.
العقوبات الاقتصادية لضرب الأنظمة غير الموالية لأمريكا
لم تكن سياسات ترامب تجاه أمريكا اللاتينية محصورة في الهجرة فقط، بل سعى أيضاً إلى فرض عقوبات قاسية على فنزويلا وكوبا، وقاد ضغوطاً متزايدة على الحكومات اليسارية في المنطقة، معيداً بذلك النهج الذي ساد في الحرب الباردة.
فقد قام ترامب خلال فترته الأولى بالانسحاب من اتفاقية نافتا مع المكسيك وكندا، واستبدلها باتفاقية جديدة بشروط أشد قسوة على المكسيك. كما هدد دول أمريكا الجنوبية بفرض تعريفات جمركية إذا لم تمتثل لسياساته الاقتصادية، مما أدى إلى تراجع النمو الاقتصادي في بعض الدول اللاتينية.
واليوم يشدد ترامب العقوبات على فنزويلا في محاولة لإسقاط حكومة نيكولاس مادورو، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، كما فرض عقوبات إضافية على كوبا، متراجعاً عن سياسات الانفتاح التي بدأها الرئيس السابق باراك أوباما. وشهدت نيكاراغوا أيضاً قيوداً اقتصادية تهدف إلى إضعاف حكومة الرئيس دانييل أورتيغا.
على الرغم من أن ترامب كان أكثر صراحة في عدائه لأمريكا اللاتينية، إلا أن سياساته لم تكن انفصالاً عن الماضي الأمريكي بقدر ما كانت امتداداً لنهج الهيمنة. فمنذ مبدأ مونرو وحتى العقوبات الحديثة، لم تكن أمريكا اللاتينية يوماً بمنأى عن التدخلات الأمريكية. وإذا كان ترامب قد أعطى هذه السياسات طابعاً أكثر قسوة ووضوحاً، فإن جذور هذا التعامل العدائي تعود لعقود طويلة، حيث ظلت أمريكا اللاتينية تُعامل كـ"الحديقة الخلفية" لواشنطن