بعد 14 عاماً من الحرب التي دمرت سوريا ووضعت 90% من سكانها إلى تحت خط الفقر، انهار نظام الأسد في ديسمبر 2024، تاركاً خلفه إرثاً من الفساد والاستبداد الذي امتد على مدار نصف قرن. ومع سقوط النظام، برزت تساؤلات حول مصير الثروة الهائلة التي راكمها آل الأسد عبر العقود، والتي قُدّرت بمليارات الدولارات. وتُظهر العديد من الوثائق والتقارير أن هذه بعض الثروة اختفت وبعضها الآخر تم ضخه في شبكة واسعة من الاستثمارات الخارجية، مما يجعل استعادتها تحدياً كبيراً للباحثين عن استعادة أموال الشعب المنهوبة.
كيف تشكلت ثروة آل الأسد؟
بدأت ثروة عائلة الأسد تتشكل منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، عندما استغل النفوذ السياسي الذي فتح له بعد انقلاب البعث في عام 1970، فيما يعرف بـ"الحركة التصحيحية" وتخلصه من جميع خصومه. نجح حافظ في بناء شبكة معقدة من الاستثمارات داخل وخارج سوريا. فيما كان محمد مخلوف، صهر حافظ الأسد، العقل المدبر وراء إمبراطورية اقتصادية بدأت من احتكار تجارة التبغ ثم توسعت إلى قطاعات البناء والمصارف والإنشاء وغيرها الكثير.
وطوال العقود التالية، تمددت شبكة واسعة لآل الأسد من الاستثمارات والمصالح التجارية، فمن بين الاستثمارات والأملاك الدولية التي قامت به العائلة، امتلاك عقارات فاخرة في روسيا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا، وفنادق بوتيك في فيينا، وعقارات وطائرات خاصة في دبي، وفقاً لتقارير مسؤولين أمريكيين سابقين، ومحامين، ومنظمات بحثية درست ثروات العائلة الحاكمة السابقة. ويؤكد محامون متخصصون في حقوق الإنسان أنهم يخططون لتعقب المزيد من الأصول على أمل استعادتها لصالح الشعب السوري.
يقول أندرو تابلر، مسؤول سابق في البيت الأبيض عمل على تحديد أصول أفراد عائلة الأسد في سياق فرض العقوبات الأمريكية، لصحيفة "وول ستريت جورنال": "ستكون هناك حملة دولية لتعقب أصول النظام. لقد أتيحت لهم فرصة طويلة قبل الثورة لغسل أموالهم. كانوا دائماً يملكون خطة بديلة وهم مجهزون جيداً للعيش في المنفى".
فرّ بشار الأسد من سوريا إلى روسيا في 8 ديسمبر 2024، بعد أن سيطرت قوات المعارضة بسرعة على دمشق، مما أنهى فترة حكمه التي استمرت 24 عاماً. هذه الديكتاتورية جاءت بعد قرابة ثلاثة عقود من حكم والده حافظ الأسد، استغل الأب والإبن أفراد عائلتهم وأنسبائهم لإخفاء الثروات في الخارج، مما أدى إلى نظام مالي معقد أفاد أفراد الأسرة لكنه أثار التوترات داخلها.
أطنان من الأموال.. ما حجم ثروة آل الأسد؟
- حتى الآن، لا يُعرف الحجم الحقيقي لثروة عائلة الأسد، ولا من يسيطر على أي من الأصول. لكن تقرير صدر عن وزارة الخارجية الأمريكية في عام 2022 أشار إلى أن الثروة قد تتراوح بين 1 مليار و12 مليار دولار. وأوضح التقرير أن هذه الأموال جُمعت غالباً من خلال احتكارات الدولة وعمليات تهريب المخدرات، خاصة الأمفيتامين المعروف بـ"الكبتاغون"، وأعيد استثمارها جزئياً في مناطق يصعب الوصول إليها قانونياً.
- ويقول تقرير وزارة الخزانة الأمريكية إن "الصعوبة في تقدير صافي ثروة الأسد وأفراد عائلته الممتدة تنشأ بشكل دقيق عن أصول العائلة التي يُعتقد أنها منتشرة ومخفية في العديد من الحسابات ومحافظ العقارات والشركات والملاذات الضريبية الخارجية. ومن المرجح أن تكون أي أصول تقع خارج سوريا ولم يتم الاستيلاء عليها أو تجميدها محتفظ بها بأسماء مستعارة أو من قبل أفراد آخرين، لإخفاء الملكية والتهرب من العقوبات".
- وتعد مهمة تحديد الحجم الحقيقي لثروة الأسد وأقاربه شبه مستحيلة. على سبيل المثال، يقول تقرير نشرته مؤخراً صحيفة "آي بايبر" البريطانية إن الأسد يملك 55 مليون جنيه إسترليني (66 مليون يورو) في حساب شخصي ببنك "إتش إس بي سي" في لندن. وبحسب مصادر مصرفية للصحيفة، فإن هذا الحساب هو جزء من مبلغ 163 مليون جنيه إسترليني قام الأسد وعائلته وحلفاؤه في نظامه بدفنه في حسابات في المملكة المتحدة. فيما طلب ساسة بريطانيون من بينهم النائب لاين دونكان من الحكومة البريطانية التحرك "حتى يتم استخدام هذه الأموال التي جمعتها عائلة بطريقة غير مشروعة لإعادة إعمار" سوريا.
- فيما تقول صحيفة "فاينانشل تايمز" إن بشار الأسد نجح بالالتفاف على العقوبات الدولية لنقل نحو 250 مليون دولار من سوريا إلى حسابات بنكية في روسيا بين عامي 2018 و2019. وللتهرب من المراقبة الدولية، نقل الأسد في تلك الفترة نحو طنين من الأوراق النقدية من فئة 100 دولار و500 يورو إلى موسكو، وفق وثيقة اطلعت عليها الصحيفة البريطانية في 15 ديسمبر 2024.
- وتؤكد التحويلات غير العادية هذه من دمشق كيف أصبحت روسيا، الحليف الأساسي للأسد الذي قدم له الدعم العسكري لإطالة أمد نظامه، واحدة من أهم الوجهات للأموال السورية بعد أن دفعتها العقوبات الغربية إلى الخروج من النظام المالي.
- وكانت التحويلات النقدية السورية قد أثارت في السابق عقوبات من واشنطن. ففي عام 2015 اتهمت وزارة الخزانة الأمريكية محافظ البنك المركزي السوري السابق أديب ميالة وموظفة في البنك المركزي تدعى بتول رضا بتسهيل التحويلات النقدية بالجملة لصالح النظام إلى روسيا، وإدارة صفقات متعلقة بالوقود لجمع العملات الأجنبية. كما اتهمت الولايات المتحدة رضا بمحاولة الحصول على نترات الأمونيوم الكيميائية من روسيا، والتي تستخدم في البراميل المتفجرة.
- وبحسب تقرير نشرته "فاينانشيال تايمز" في أبريل/نيسان 2023، فقد تمكنت "السيدة الأولى" أسماء الأسد زوجة بشار، وهي مصرفية سابقة في بنك جي بي مورجان، من بناء مركز قوي يؤثر على تدفقات المساعدات الدولية وترأس مجلساً اقتصادياً رئاسياً سرياً. وقد ساعدت منظماتها غير الحكومية في بناء شبكة واسعة من المحسوبية لصالح عائلة الأسد، في حين تتحكم في مصادر تدفق أموال المساعدات الدولية في البلاد.
- بعيد هروب الأسد من سوريا إلى موسكو، قالت صحيفة "التايمز" البريطانية إنه من المرجح أن يقيم الأسد في منطقة موسكو سيتي، وهي منطقة أعمال فاخرة تقع غرب العاصمة الروسية، حيث تمتلك عائلته حوالي 20 شقة. وبحسب منظمة "جلوبال ويتنس" لمكافحة الفساد، اشترى أقارب الأسد، بما في ذلك أبناء عمومته، عقارات في منطقة موسكو سيتي المرموقة بين عامي 2013 و2019 بتكلفة إجمالية تزيد عن 30 مليون جنيه إسترليني. ويقال إن الأموال تم تحويلها إلى خارج سوريا عبر محمد مخلوف، عم الأسد.
- بحسب الصحيفة البريطانية، تقع غالبية هذه الشقق في مجمع "مدينة العواصم"، وهو ناطحة سحاب ذات برجين كانت في السابق أطول ناطحة سحاب في أوروبا حتى عام 2012. وتقع الشقق الأخرى في برج الاتحاد القريب، وهو أطول مبنى في موسكو. وتُظهِر الإعلانات عروضاً لشقق مفروشة بشكل باهظ الثمن مع إطلالات بانورامية على المدينة.
صناعة ثروة آل الأسد.. من الفساد إلى تهريب المخدرات
- وفقاً لتقارير المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام، تدير عائلة الأسد "نظام رعاية" معقد يشمل شركات وهمية وواجهات شركات تعمل كأداة للنظام للوصول إلى الموارد المالية عبر هياكل شركات شرعية وكيانات غير ربحية، وغسل الأموال المكتسبة من الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة بما في ذلك التهريب وتجارة الأسلحة والاتجار بالمخدرات وعمليات الحماية والابتزاز.
- واستمر حجم ثروة عائلة الأسد في النمو بينما واجه السوريون أهوال الحرب الأهلية التي بدأت عام 2011. لكن أفراد العائلة ورجالات النظام استغلوا موقعهم بطرق مختلفة لتكديس ثرواتهم:
- الاحتكارات الاقتصادية: سيطر النظام على قطاعات رئيسية مثل الاتصالات، والموانئ، والطاقة وغيرها من القطاعات الاقتصادية لعقود من الزمن.
- تهريب المخدرات: حققت تجارة الكبتاغون إيرادات ضخمة للنظام، فقد جلبت تجارة الكبتاجون نحو 10 مليارات دولار سنوياً على مستوى العالم. وتشير تقديرات متباينة إلى أن نظام الأسد كان يصنع 80% من الإمدادات، حصد ما بين 3 مليارات إلى 5 مليارات دولار من هذا المبلغ، وفقاً لتقارير منظمات دولية مختلفة.
- التلاعب بالموارد العامة: استفاد أفراد العائلة من إدارة موارد الدولة لصالحهم الشخصي.
- شبكة الاستثمارات الخارجية: على مدار العقود، بنى آل الأسد شبكة واسعة من الاستثمارات الدولية، منها:
- دبي: امتلكت العائلة عقارات فاخرة بملايين الدولارات، بما في ذلك في جزيرة نخلة الجميرا.
- روسيا: استثمروا في عقارات فاخرة في موسكو بقيمة حوالي 40 مليون دولار.
- النمسا: اشتروا فنادق بوتيك في فيينا بقيمة 20 مليون يورو.
- الأرجنتين: أظهرت تقارير امتلاك ماهر الأسد مزرعة شاي كبيرة هناك.
كيف يمكن الوصول لهذه الأموال.. وهل يتم الإفراج عن الأرصدة المجمدة؟
- بعد سقوط نظام الأسد، تساءل السوريون عن حجم ثروة آل الأسد وأين ذهبت وكيف يمكن استعادة أموال الشعب، وذلك في ظل خزانة خاوية على عروشها تركها الأسد لشعبه. حيث قال رئيس حكومة تصريف الأعمال السورية محمد البشير، إن "خزائن الدولة خاوية، بعد أن التهم النظام وحده كل شيء". وأضاف في مقابلة مع صحيفة "كوريري دي لا سيرا" الإيطالية: "وضعنا المالي سيئ جداً، ليس لدينا نقد أجبني، ولا يوجد في خزائن الدولة سوى الليرة السورية، التي تكاد تكون لا قيمة لها".
- يُعد تعقب أصول الأسد واستردادها مهمة معقدة. فقد اعتمد النظام على شركات وهمية وحسابات سرية في ملاذات ضريبية مثل دبي وسويسرا. يقول ويليام بوردون، المحامي المتخصص في حقوق الإنسان والذي نجح في تجميد أصول تعود للعائلة في فرنسا بقيمة 90 مليون يورو: "الأموال في ملاذات ضريبية مثل دبي وروسيا ستكون أصعب بكثير لاستعادتها. إن تعقب الأصول يتطلب قرارات محاكم دولية وتعاوناً قانونياً قد يستغرق سنوات".
- وصادرت دول غربية أصول تابعة لآل الأسد على مدار السنوات الماضية، لكن من غير الواضح متى يمكن لهذه الدول أن تفرج عنها وإعادتها إلى خزانة الدولة السورية. على سبيل المثال جمدت فرنسا في عام 2019، ممتلكات لرفعت الأسد، عم بشار الأسد، بقيمة 90 مليون يورو، حيث حُكم على رفعت بتهمة غسيل الأموال واختلاس الأموال العامة. مع ذلك، من المتوقع أن تواجه جهود مماثلة لتحديد أصول عائلة الأسد في دبي وروسيا تحديات كبيرة بسبب الافتقار إلى التعاون من هذه الدول.
- من جهتها، تطالب مؤسسات حقوقية ومحامون، مثل رزان رشيدي، المديرة التنفيذية لمنظمة حملة سوريا الدولية لحقوق الإنسان، بإعادة الأموال المجمدة في الأرصدة الغربية للشعب السوري. وقالت لصحيفة "آي بيبر" البريطانية: "إن الملايين من الأموال الموجودة في البنوك البريطانية على سبيل المثال هي ملك للشعب السوري، وقد تم تخزينها من قبل الأسد على حساب العديد من الأرواح". وأضافت: "إن العديد من العائلات تعيش في حالة من عدم اليقين المؤلم في انتظار الحصول على معلومات عن أحبائها المفقودين الذين ظلوا محتجزين لسنوات. ومن أجلهم، يجب تحقيق العدالة. وهناك حاجة ماسة إلى الأموال لتلبية الاحتياجات الإنسانية الماسة في سوريا ويجب إنفاقها هناك".
- وعلى الرغم من الضغوط المتزايدة على حكومة حزب العمال للتحرك، لا يوجد حاليا أي إطار قانوني لتوجيه هذه الأموال إلى الضحايا السوريين. وأضاف كريس دويل، مدير مجلس التفاهم العربي البريطاني: "يجب إطلاق هذه الأموال لصالح الشعب السوري. يجب تحويل الأموال، في الوقت المناسب، إلى سلطة جديدة في سوريا، ويجب استخدام هذه الأموال لصالح جميع السوريين".