في عام 1930، في أعقاب الكساد العظيم الذي كان يعد أهم فترة تدهور اقتصادي عرفها التاريخ الحديث، جلس الاقتصادي البريطاني البارز جون مينارد كينز ليكتب رؤيته عن المستقبل. رغم قتامة الوضع، أبدى كينز تفاؤلًا استثنائيًا، مشيرًا إلى أن"الكساد العالمي السائد.. يعمينا عن رؤية ما يحدث تحت السطح". في مقالته، تنبأ كينز بأنه بحلول عام 2030، ستكون المجتمعات قد بلغت مستوى من التقدم يجعل ساعات العمل أقصر بشكل كبير، إلى درجة أنه رأى أن المشكلة الكبرى التي قد تواجه دولاً ذات اقتصادات قوية مثل بريطانيا والولايات المتحدة ستكون "الملل"، متوقعاً أن تُقنن فترات العمل لتصبح ثلاث ساعات يومياً أو 15 ساعة أسبوعياً لتجنب هذه المشكلة.
لكن، وعلى ما يبدو، كانت توقعات كينز بعيدة عن الواقع. ففي ذلك الوقت، كان العامل العادي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا واليابان يعمل بين 45 و48 ساعة أسبوعياً. أما اليوم، ورغم مرور قرن تقريباً، لا تزال ساعات العمل مرتفعة، بمعدل يصل إلى 38 ساعة أو أكثر، خاصة في الاقتصادات الأقوى.
وفي الوقت ذاته، يعاني العمال من ظروف غير إنسانية حتى داخل دولة أقوى اقتصاد في العالم، كما ظهر في الإضرابات الأخيرة لموظفي أمازون وستاربكس في الولايات المتحدة، حيث يطالبون بتحسين ظروف عملهم. أمازون، على سبيل المثال، تجبر موظفيها على العمل لساعات إضافية قد تتجاوز 11 ساعة يومياً، مع استراحة وحيدة لمدة 30 دقيقة. وهنا يبرز السؤال: لماذا، رغم التقدم الهائل والتكنولوجيا المتطورة والثروات المتراكمة في أكبر اقتصاد عالمي، ما زال العمال يعانون من ساعات عمل طويلة ورعاية صحية متواضعة؟
لماذا يضرب عمال أمريكا؟
تمتلك الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التكنولوجيا والموارد التي تمكّنها من توفير حياة مزدهرة لجميع مواطنيها مع تقليل ساعات العمل بشكل كبير. ومع ذلك، لا تزال العمالة في شركات عملاقة مثل أمازون، التي تُقدَّر قيمتها السوقية بـ2.3 تريليون دولار، تواجه واقعاً مريراً.
حيث يقف عمال مستودعات أمازون لساعات طويلة على أقدامهم، يلتقطون المنتجات من المخزون، يعدّونها للشحن، يحزمونها، ويحملونها على شاحنات الشركة. بعد يوم عمل شاق، يعود هؤلاء العمال إلى منازلهم حوالي الساعة التاسعة مساءً، ليبدأوا رحلتهم مجدداً بعد استراحة قصيرة مدتها ثماني ساعات فقط، للالتحاق بورديات عمل تمتد لأكثر من عشر ساعات تبدأ في السابعة صباحاً، بحسب تقرير نشرته مجلة The Progressive الأمريكية.
ففي مواسم الذروة، خاصة في أكتوبر وفترة الأعياد، تتفاقم معاناة العمال. فتُجبر أمازون موظفيها على العمل لساعات إضافية لتلبية الطلب المتزايد. وقد تحدث أحد العمال عن ورديات تستمر 12 ساعة، مع استراحة واحدة مدتها 30 دقيقة واستراحتين قصيرتين لمدة 15 دقيقة فقط، على مدار خمسة أيام أسبوعياً.
مثل هذه الظروف دفعت سائقي التوصيل إلى الإضراب في سبع محطات رئيسية للتوصيل، تشمل جنوب كاليفورنيا، سان فرانسيسكو، نيويورك، أتلانتا، وسكوكي في إلينوي، مطالبين بتفاوض جاد مع الشركة لتحقيق مطالبهم العمالية الأساسية، وتوقيع عقود عمل جديدة تضمن أجوراً أعلى، مزايا أفضل، وظروف عمل أكثر أماناً وإنسانية.
وتأتي هذه الإضرابات في سياق تصاعد التوترات بين العمال والشركات الكبرى في الولايات المتحدة، حيث يواصل عمال أمازون وستاربكس احتجاجاتهم في مدن أمريكية متعددة، مطالبين بالاعتراف بهم كموظفين نقابيين وتوقيع أول عقود عمل جماعية.
يشير المراقبون إلى سببين رئيسيين وراء تصاعد هذه الإضرابات: أولاً، تشهد فترة الأعياد نشاطاً اقتصادياً مكثفاً، مما يمنح العمال قوة إضافية للضغط على أرباب العمل الذين يعتمدون على هذه الفترة لتحقيق أرباح كبيرة. وثانياً، يسعى العمال إلى تسريع تحقيق مطالبهم قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي جو بايدن، إذ يُتوقع أن تكون الإدارة المقبلة برئاسة دونالد ترامب أكثر انحيازاً لأصحاب الأعمال وأقل تعاطفاً مع النقابات.
ويرى جون لوغان، مدير دراسات العمل والتوظيف في جامعة ولاية سان فرانسيسكو، أن عمال أمازون وستاربكس يخشون من تراجع فرصهم في تحقيق تقدم إذا تمكّن ترامب من تعيين أغلبية جمهورية في المجلس الوطني لعلاقات العمل، وهو ما سيؤدي إلى موقف أقل وداً تجاه النقابات.
يقول لوغان: "تسعى النقابات إلى جعل هذه النزاعات علنية وممارسة ضغوط سياسية على الشركات." وأضاف: "إذا استمرت هذه النزاعات إلى العام المقبل، أو اعتمدت بشكل كبير على المحاكم ومجلس العمل، فمن شبه المؤكد أن النقابات والعمال سيخسرون. لذلك، قد تكون هذه الإضرابات فرصتهم الأخيرة والأفضل للضغط علناً قبل تولي ترامب الرئاسة."
لماذا يكره ماسك وأصدقاؤه النقابات العمالية؟
لطالما لعبت النقابات الأمريكية دوراً رئيسياً في النقاش حول القضايا السياسية والاجتماعية، مما جعلها تُعرف باسم "مدارس الديمقراطية". فهي لا تكتفي بالدفاع عن حقوق العمال فحسب، بل تحفّز أيضاً الناخبين وتشجعهم على المشاركة السياسية. ووفقاً لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2020 حول تأثير النقابات على معدلات التصويت، فإن أعضاء النقابات يصوتون بمعدل يزيد بنحو 5 نقاط مئوية عن غير الأعضاء.
لا يلقى النشاط النقابي في الولايات المتحدة استحسان أباطرة المال والأعمال، وعلى رأسهم إيلون ماسك، أحد أكبر رجال الأعمال في العالم. إذ يعارض النقابات بشدة، لا سيما في شركاته، مدعياً أنها تخلق انقسامات بين الناس. فخلال مؤتمر نظمته صحيفة نيويورك تايمز، قال: "أنا لا أتفق مع فكرة النقابات. لا أحب أي شيء يخلق نوعاً من التفاوت بين الأسياد والفلاحين."
ولم يتوقف انتقاده عند حدود الولايات المتحدة، بل وصف النقابات السويدية بـ"المجنونة"، بعد أن لقنته النقابات هناك درساً من أجل حقوق عمالها. ففي نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2023، أضرب 130 ميكانيكياً يعملون في 10 ورش تابعة لشركة تسلا موزعة على 7 مدن سويدية، وذلك للمطالبة بتوقيع اتفاقية عمل جماعية. وكان هؤلاء العمال ينتمون إلى نقابة عمال المعادن التي تضم 300 ألف عضو. ومع رفض تسلا لهذه المطالب، استمر الإضراب وأسفر عن موجة من الإضرابات التضامنية في عدة دول.
انضم عمال الشحن في المرافئ إلى الإضراب، وأعلنت نقابتهم رفض نقل سيارات تسلا من المرافئ بدءاً من 7 نوفمبر/تشرين الثاني. وفي 17 من الشهر نفسه، امتنع عمال الكهرباء عن تقديم أي خدمات في منشآت الشركة ومكاتبها. تبع ذلك قرار من الاتحاد السويدي لموظفي الخدمة والاتصالات في 20 نوفمبر، برفض تسليم البريد والطرود لشركة تسلا. بهذه الخطوات، اكتمل الحصار الذي فرضه العمال على الشركة، التي تعاني اليوم من تراجع قدرتها على صيانة السيارات وبيعها في أحد أكبر أسواقها.
ولم تتوقف المقاطعة عند السويد؛ فقد امتدت حينها إلى دول نوردية مجاورة مثل الدنمارك وفنلندا وهولندا. ففي الدنمارك، أعلن عمال الرصيف رفضهم تفريغ سيارات تسلا القادمة إلى الموانئ، بينما حذرت النقابات في فنلندا والنرويج من أن العمال في الموانئ والورش سينضمون أيضاً إلى الإضراب.
وفقاً لتقرير نشر في موقع "صفر" المختص بالصحافة الاقتصادية، لم يكن إيلون ماسك، الرجل الفاحش الثراء، يتوقع أن يواجه "قتالاً عمّالياً" في السويد. إذ يرى التقرير أن "ماسك يرفض أن تُظهر النقابات طبيعة العلاقة الاستغلالية التي يقيمها أصحاب العمل مع العمّال، ولكنه لا يمانع التصرّف كسيّد يمتلك العمّال كعبيد، أو يحرمهم من حقوقهم خلافاً للقوانين في مناقشة سياسة الأجور."
إذ أشارت تقارير إلى أن العاملين في شركات ماسك يتقاضون أجوراً أقل من نظرائهم في شركات أخرى، وهو ما عدّه بعض المحللين أحد أسباب ثرائه الفاحش الذي يراكمه من خفض الأجور لقنص المزيد من الأرباح.
وقد اشتبك ماسك مراراً وتكراراً مع السيناتور بيرني ساندرز، الذي كان يدعو إلى فرض ضرائب على المليارديرات. وفي عام 2021، زعم ماسك أن "النقابات تسيطر على بايدن." ولم يكن هذا التصريح الأول من نوعه؛ ففي عام 2018، أثار ماسك جدلاً واسعاً عندما هدد موظفي تسلا الذين يسعون إلى تشكيل نقابات بأنهم سيفقدون خيارات الأسهم الخاصة بهم، وهو تصرّف وصفه المنظمون بأنه غير قانوني ويخالف قوانين العمل.
كيف تلتهم الرأسمالية الأمريكية النقابات والعمال؟
ربما يجيبنا كتاب "لا بأس من الغضب على الرأسمالية"، الذي كتبه جون نيكولز مع السيناتور بيرني ساندرز، حيث وضّحا فيه مدى التطرف المتأصل في الأنظمة الرأسمالية، خاصة الأمريكية.
يوضح الكتاب كيف أن التطورات التكنولوجية مثل الأتمتة، الروبوتات، الذكاء الاصطناعي، والاتصالات الرقمية جعلت الاقتصاد الأمريكي أكثر إنتاجية بشكل غير مسبوق. ومع ذلك، ورغم هذا التقدم، فإن العامل الأمريكي العادي يكسب اليوم حوالي 43 دولاراً أسبوعياً أقل مما كان يكسبه قبل 50 عاماً.
فحتى أواخر السبعينيات، كانت زيادات الإنتاجية مصحوبة بزيادات متوازية في أجور العمال، وفقاً لمعهد السياسة الاقتصادية. فبين عامي 1979 و2020، ارتفعت إنتاجية العامل الصافية بنسبة 61.8%، بينما زاد الأجر بنسبة 17.5% فقط. فما الذي حدث؟
يجيب المحللون بأن صانعي السياسات بدأوا منذ أواخر السبعينيات في تفكيك السياسات التي كانت تضمن نمو أجور العمال بالتوازي مع الإنتاجية. فقد "تم التسامح مع البطالة المفرطة للحفاظ على أي فرصة للتضخم تحت السيطرة."
فأصبحت الزيادات في الحد الأدنى للأجور الفيدرالية أصغر وأندر. لم تواكب قوانين العمل التغيرات المتسارعة، مع تزايد العداء من جانب أصحاب العمل تجاه النقابات، بل وتم خفض معدلات الضرائب على الأثرياء.
ورغم أن محاولات مضادة للعمال قد نجحت مرارًا وتكرارًا – من تحرير صناعات الشاحنات والخطوط الجوية إلى تراجع سياسة مكافحة الاحتكار إلى تفكيك اللوائح المالية وأكثر، لكن بدلاً من أن تعود مكاسب الإنتاجية بالفائدة على العمال من خلال زيادة الأجور وتقليل ساعات العمل، استولى المستثمرون في وول ستريت على هذه المكاسب، وهو ما وصفه ساندرز بأنه "واحدة من أكبر عمليات السطو في تاريخ الاقتصاد الأمريكي."
حيث استفاد الأثرياء للغاية من هذا الوضع ليزداد جموح أحلامهم إلى السماء، مثل بناء صواريخ والسفر إلى الفضاء، بينما اضطرت العائلات العاملة التي بقيت على الأرض للعمل بجهد أكبر مقابل عائد أقل. عاشوا على الهامش، يكافحون للتدبر من أجل البقاء.
لا يبالغ ساندرز في انتقاداته، فأثناء ارتفاع التضخم في عامي 2021 و2022، وجدت دراسة أجرتها مجموعة الدفاع غير الربحية ParentsTogether Action أن 41% من الآباء في أمريكا اضطروا للحصول على وظائف إضافية، بينما أفاد 48% منهم بأنهم لم يعودوا قادرين على تحمل تكاليف الطعام الكافي لعائلاتهم. ما اضطر بعض الآباء إلى تخطي وجباتهم لضمان حصول أطفالهم على ما يكفي من الغذاء، خاصة بعد وقف الحكومة مدفوعات الائتمان الضريبي للأطفال.
يرى ساندرز أيضاً في الكتاب أن جائحة كوفيد-19 كشفت بشكل صارخ عن بشاعة الرأسمالية الأمريكية المتطرفة. فبينما كان المليارديرات والرؤساء التنفيذيون يعيشون بأمان على يخوتهم أو في طائراتهم الخاصة، وارتفعت أرباح الشركات، لم يكن لملايين العمال الأساسيين خيار سوى مواصلة العمل في ظروف خطرة في المستشفيات، المدارس، محلات البقالة، المستودعات، ومصانع اللحوم. وبالطبع، أصيب الملايين من هؤلاء العمال بالمرض، وتوفي عشرات الآلاف منهم بلا داعٍ.
ويجادل الكتاب بأن هذه الأزمة أكدت أن الأغنياء للغاية يعيشون حياة منفصلة عن الواقع، على غرار الملوك في العصور الوسطى، دون أدنى فهم أو اهتمام بمعاناة العمال والناس العادية. هذا الجهل يعزز اعتقادهم بأنهم يمتلكون "الحق الإلهي" في حكم الآخرين، بغض النظر عن العواقب.
كيف يمكن أن ينعكس نضال العمال على القضية الفلسطينية؟
في عالم تتزايد فيه مظاهر انعدام الأمن الاقتصادي، وعدم المساواة، والفقر، برزت الاحتجاجات العمالية في الولايات المتحدة، والتي قد تلتها احتجاجات عمالية ضد نفس الشركات في دول أخرى، كمحاولة لإحياء النشاط النقابي والعمالي. ورغم تركيز هذه الاحتجاجات على حقوق العمال، إلا أن لها تأثيرات إيجابية على قضايا أخرى تتجاوز تحسين ظروف العمل.
فوفقاً لتقرير لموقع "صفر"، أثارت حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال على الفلسطينيين موجة من التحركات العمالية التضامنية، مما أعاد النقابات إلى دائرة الضوء كقوة سياسية واجتماعية مؤثرة. إذ نظمت العديد من النقابات عمليات تعيق حركة السفن التي تشحن الأسلحة إلى إسرائيل، كما أُطلقت دعوات لإغلاق مصانع أسلحة متورطة مع الاحتلال الإسرائيلي في مناطق مختلفة حول العالم، بما في ذلك أوروبا، أستراليا، والولايات المتحدة.
كما اتخذت النقابات الهندية موقفاً قوياً، رافضةً اتفاقية تصدير العمال إلى إسرائيل، وموجهةً اتهاماً لحكومة مودي بالتواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي في جريمة التطهير العرقي وإبادة الشعب الفلسطيني. وبرزت مواقف تضامنية مشابهة في قطاع التكنولوجيا؛ حيث نظم عمال شركة غوغل وقفة احتجاجية للمطالبة بإنهاء التعاون بين الشركة وإسرائيل في مشروع للذكاء الاصطناعي. يهدف هذا المشروع إلى توفير مراكز بيانات وخدمات حوسبة تدعم ممارسات الفصل العنصري الإسرائيلي.