في الوقت الذي كانت تحتفل به معظم المحافظات السورية بانتصار الثورة وسقوط نظام الأسد الذي حكم البلاد بالحديد والنار لعقود طويلة٬ واجهت التظاهرات في مدينة الرقة شمال سوريا وضعاً مختلفاً حيث قوبلت بالرصاص من قبل جنود ما يعرف بـ"الإدارة الذاتية" التابعة لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) الكردية٬ والتي تسيطر مدينة الرقة وكامل محافظتها بدعم أمريكي منذ عام 2017.
ومنذ بدء عملية "ردع العدوان"٬ شهدت مدينتي الحسكة والرقة تظاهرات واسعة للعشائر العربية -التي تشكل أغلبية السكان في المحافظتين- ضد سيطرة "قسد"، مما أدى لسقوط ضحايا مدنيين، وهو ما زاد من حالة الاحتقان الشعبي ضد "قسد" التي فرضت حظر تجول وقطعت الانترنت عن كامل المدينة.
وبعد انهيار قوات النظام السوري واستسلامها أمام التقدم السريع الذي حققته فصائل المعارضة المسلحة خلال عملية "ردع العدوان" التي انطلقت في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وجهت المعارضة تركيزها نحو المناطق التي تستحوذ عليها قوات "قسد". وتمكنت المعارضة من السيطرة على مواقع استراتيجية مهمة، من أبرزها بلدة تل رفعت الواقعة شمال حلب على الطريق الرابط بين تركيا والمدينة، بالإضافة إلى مدينة منبج، التي تعد عقدة وصل استراتيجية بين شمال سوريا وشرقها، وكذلك مدينة دير الزور الاستراتيجية.
وتشكل (قسد) إحدى العقبات الكبرى في شمال شرق سوريا أمام التوصل إلى إدارة انتقالية شاملة في البلاد٬ بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد. ويضم التنظيم الذي يسيطر على مساحات واسعة ليس في الرقة فحسب بل بالحسكة وبعض المناطق في دير الزور آلاف المقاتلين الأكراد المرتبطين بـ"حزب العمال الكردستاني" المصنف إرهابياً في تركيا والولايات المتحدة العديد من الدول الغربية، إلى جانب مقاتلين أكراد من جنسيات مختلفة مما يمنحه امتدادات تتجاوز الحدود السورية كالعراق وتركيا وإيران.
وتمثل محافظة الرقة، الواقعة في شمال سوريا، واحدة من أكثر المناطق السورية أهمية من الناحية الاستراتيجية والاقتصادية، وقد لعبت دوراً بارزاً في الحرب السورية منذ اندلاعها عام 2011. تعرضت المحافظة لتحولات كبيرة في السيطرة والنفوذ، وانتقلت من أيدي النظام السوري إلى جماعات المعارضة المسلحة، ومن ثم إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وأخيراً إلى "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) المدعومة أمريكياً٬ رغم أن الغالبية العظمى من سكان المحافظة هم من العشائر العربية.
يسلط هذا التقرير الضوء على تاريخ الرقة وأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية، ولماذا تمثل نقطة ارتكاز وصراع رئيسية للجهات الفاعلة المختلفة في المشهد السوري منذ عام 2011.
بطاقة تعريفية: محافظة الرقة في نقاط
- تقع الرقة على ضفاف نهر الفرات، وتعتبر نقطة وصل بين شمال سوريا وشرقها٬ وهي رابع المحافظات السورية من حيث المساحة (10,6٪ من مساحة سوريا الإجمالية).
- للمحافظة حدود دولية مع تركيا من الشمال، وحدود مع محافظة حلب من الغرب، وحدود مع محافظتي الحسكة ودير الزور من الشرق، وحدود مع محافظتي حماة وحمص من الجنوب. وتنقسم المحافظة إلى ثلاث مناطق: الرقة والثورة وتل أبيض. وهذا ما يجعلها محوراً جغرافياً حيوياً للتحركات العسكرية.
- تبلغ مساحة محافظة الرقة حوالي 19,616 كيلومتر مربع، وهي تشكل جزءاً كبيراً من شمال سوريا. أما مساحة مدينة الرقة، وهي مركز المحافظة، فتقدر بحوالي 20 كيلومتر مربع تقريباً، وفق التقديرات.
- يقدر عدد سكان محافظة الرقة بأكثر من 900,000 نسمة قبل عام 2011، لكن هذا العدد شهد تغييرات كبيرة نتيجة الحرب السورية والنزوح٬ فيما كان عدد سكان مدينة الرقة، وهي المركز الإداري للمحافظة، يزيد على 220,000 نسمة قبل الحرب، وقد انخفض هذا العدد بشكل ملحوظ خلال فترة سيطرة تنظيم "داعش" على المدينة حتى عام 2017. ولا يعلم الآن العدد الحقيقي للسكان.
- غالبية السكان محافظة الرقة هم من العرب السنة، إضافة إلى أقلية كردية وتركمانية. لكن التركيبة السكانية تعرضت لتغييرات نتيجة الصراع المستمر، بما في ذلك النزوح الداخلي والخارجي.
- تاريخياً٬ تعد الرقة مدينة عريقة تعاقبت عليها العديد من الحضارات٬ حيث أنشئت في عام 244 قبل الميلاد. وفي العصر البيزنطي، كانت المدينة مركزاً اقتصادياً وعسكرياً. في 639 فتحتها الجيوش العربية الإسلامية وتحولت تسميتها إلى الرقة.
- كانت الرقة في العصر العباسي العاصمة الرديفة لبغداد٬ ففي عام 772م بدأ الخليفة المنصور ببناء عاصمة صيفية للدولة العباسية في الرقة٬ وأصبحت المدينة مركزاً علمياً وثقافياً هاماً٬ حتى دمرها المغول في عام 1258 كما فعلوا ببغداد.
الأهمية الاقتصادية للرقة
- يشتهر سكان الرقة بتوجههم الزراعي، حيث يعتمدون على الأراضي الخصبة القريبة من نهر الفرات. ومنذ أواسط السبعينيات يعتمد اقتصاد الرقة على سد الفرات وعلى الزراعة وعلى الحقول النفطية المجاورة.
- تتوزع مواقع النفط في محافظة الرقة على حقل الثورة النفطي، الواقع جنوب غربي محافظة الرقة الذي يزيد إنتاجه على ستة آلاف برميل نفط في اليوم٬ وحقول "الوهاب" و"الفهد" و"دبيسان" و"القصير" و"أبو القطط" و"أبو قطاش"، جنوب غربي الرقة قرب بلدة الرصافة، وهي آبار ذات إنتاج قليل بالماضي ويقدر إنتاجها حالياً مجتمعة بنحو 2000 برميل يومياً.
- بعد أن كانت جميع مواقع وآبار النفط والغاز، تتبع نظام الأسد، تبدلت خريطة السيطرة مرات عدة، منذ اندلاع الثورة في مارس/ آذار 2011، إذ سيطر الثوار على مناطق إنتاج النفط، بعد انسحاب قوات بشار الأسد عام 2012 من مناطق شمال شرق سورية، ليسيطر تنظيم "داعش" أواسط عام 2013 على مناطق إنتاج الطاقة، وليتقاسم لاحقاً السيطرة والإنتاج، مع "المليشيات الكردية" حتى سبتمبر/أيلول 2017 وقت سيطرت قوات سورية الديمقراطية "قسد" على مدن الحسكة والرقة بالكامل وشرقي دير الزور، التي تضم أكبر 11 حقلاً للنفط.
الثورة السورية والرقة.. محطات في تاريخ المحافظة 2011 – 2024
شهدت محافظة الرقة تحولات مفصلية منذ بداية الصراع السوري عام 2011. نلخص في هذا القسم المحطات الرئيسية التي مرت بها المحافظة من حيث السيطرة العسكرية والتغييرات الإدارية:
1. اندلاع الثورة السورية (2011-2012)
في بداية الثورة السورية عام 2011، لم تكن الرقة مركزاً رئيسياً للاحتجاجات الشعبية مقارنة بمحافظات مثل حمص ودرعا. مع ذلك، بدأت الاحتجاجات بالظهور تدريجياً في مناطق متعددة داخل المدينة مع توسع نطاق الثورة في عام 2012.
2. خروج الرقة عن سيطرة النظام السوري (2013)
في مارس/آذار 2013، سقطت مدينة الرقة في أيدي المعارضة المسلحة، وأصبحت أول عاصمة إقليمية تخرج عن سيطرة النظام السوري. وقادت العمليات ضد النظام فصائل مختلفة من المعارضة، بما في ذلك "جبهة النصرة" و"الجيش السوري الحر". بعد ذلك، بدأت الخلافات بين الفصائل المعارضة، مما أدى إلى حالة من الفوضى والاقتتال الداخلي.
3. سيطرة تنظيم داعش (2014-2017)
في يناير 2014، تمكن تنظيم "داعش" من السيطرة الكاملة على مدينة الرقة بعد صراع مع فصائل المعارضة المسلحة. وأصبحت الرقة "عاصمة" التنظيم، حيث أدار منها عملياته العسكرية والإدارية. خلال هذه الفترة، عانت المدينة من قمع شديد وتدمير ممنهج للبنية التحتية، مع فرض قوانين صارمة على السكان.
4. حملة التحالف الدولي و"قسد" لتحرير الرقة من "داعش"
في منتصف عام 2017، أطلقت قوات سوريا الديمقراطية، بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، حملة واسعة لتحرير مدينة الرقة. استمرت معركة تحرير المدينة عدة أشهر، وتخللتها غارات جوية مكثفة خلفت دماراً كبيراً.
في أكتوبر 2017، أعلنت قوات قسد سيطرتها الكاملة على المدينة بعد هزيمة تنظيم "داعش" وقتل وأسر آلاف المقاتلين. ومنذ سيطرة "قسد" على الرقة، أصبحت المدينة تحت إدارتها٬ والتي تضم في صفوفها مزيجاً من المقاتلين الكرد والعرب، وتحظى بدعم كبير من الولايات المتحدة.