نظرة أعمق: إحصائيات وأرقام تكشف عن أزمة متفاقمة في إسرائيل بسبب هجرة الأدمغة دون عودة

عربي بوست
تم النشر: 2025/12/31 الساعة 08:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/12/31 الساعة 08:53 بتوقيت غرينتش
فرار الأدمغة يثير أزمة في إسرائيل/ رويترز

تواصل إسرائيل حصد المزيد من الخسائر على الرغم من الاتفاق على وقف الحرب في قطاع غزة، ولم تكن تداعيات الحرب محصورة في حدود الخسائر العسكرية أو الكلفة السياسية والعزلة الدولية، بل بدأت تضرب أحد أهم أعمدة "القوة الناعمة" التي لطالما تباهت بها الدولة: رأس المال البشري.

تتشكل أزمة صامتة داخل الجامعات، ومراكز البحث، وقطاع التكنولوجيا المتقدمة، عنوانها الأبرز: هجرة الأدمغة الإسرائيلية، وللمرة الأولى لا تتحدث إسرائيل عن هجرة هامشية أو مؤقتة، بل عن نزيف للكفاءات الأكاديمية والعلمية، يترافق مع اعتراف رسمي بوجود عجز فعلي في أعداد الباحثين والأكاديميين، وتراجع في القدرة على استقطاب العائدين من الخارج.

هذا التحول لم يأتِ من فراغ، فالمعطيات تربط بوضوح بين تصاعد هجرة الكفاءات وبين الانقلاب القانوني أواخر 2022، والحرب على غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وبين تآكل ميزانيات التعليم العالي، وتزايد الهجوم السياسي على الأوساط الأكاديمية، واتساع المقاطعة الدولية، وجد آلاف الباحثين والعلماء أنفسهم أمام خيار واحد، المغادرة دون ضمانات للعودة.

في هذا التقرير، يرصد "عربي بوست" بالأرقام والوقائع كيف تحولت هجرة العقول من ظاهرة هامشية إلى خطر استراتيجي يهدد الاقتصاد الإسرائيلي، والنظام الصحي، وقطاع التكنولوجيا المتقدمة، ويكشف من يغادر، ولماذا، وإلى أين، وما الذي تخسره إسرائيل حين تصدّر أفضل عقولها إلى الخارج.

هجرة الأدمغة الإسرائيلية: أرقام صادمة

ليئور داتال، محرر الشؤون الاقتصادية في صحيفة "ذي ماركر"، أورد آخر الأرقام الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي، وأجاب عن سؤال كبير مفاده: لماذا تفرغ إسرائيل من الباحثين والعلماء؟

إذ تُظهر البيانات المتعلقة بتصاعد هجرة الكفاءات الأكاديمية ارتباطًا واضحًا بفترتي الحرب على غزة التي اندلعت في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والانقلاب القانوني الذي بدأته حكومة اليمين أواخر 2022، وقد أظهرتا اتجاهًا تصاعديًا لا يزال مستمرًا ويتنامى.

"عربي بوست" رصد أهم هذه المعطيات على النحو التالي:

التخصصات الأكاديمية الأكثر نزيفًا

دانا ياركاشي، مراسلة هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني – كان، نقلت معطيات المكتب المركزي للإحصاء، التي كشفت أن عام 2024 شهد عجزًا في أعداد الأكاديميين، حيث فاق عدد الحاصلين على درجة البكالوريوس أو أعلى من المهاجرين إلى الخارج عددَ العائدين إلى إسرائيل، مع العلم أن المهاجرين يتميزون بأنهم من ذوي الكفاءات العالية، وهم من جيل الشباب المتعلمين.

في التوزيع المؤسساتي، فإن 23% من الباحثين والأكاديميين المهاجرين خارج إسرائيل من معهد وايزمان، و18.2% من معهد التخنيون، و15% من جامعة تل أبيب، و10% من جامعة أريئيل، و7% من جامعة بار إيلان.

على صعيد طلاب مرحلة الماجستير المقيمين في الخارج، فقد بلغت نسبة كليات الطب 3.8%، والموسيقى 21%، والحاسوب 16.7%، والرياضيات 13.6%، و15% من باحثي العلاقات الدولية، و13.1% من الفيزياء، و12% في الكيمياء. ومن بين حاملي شهادات البكالوريوس، يعيش 25.8% من تخصص الموسيقى في الخارج، و20% من أقسام اللغة الإنجليزية، ومثلهم من تخصص العلاقات الدولية.

هناك نسبة لا بأس بها من الأكاديميين المغادرين يُجرون أبحاث مرحلة ما بعد الدكتوراه، وهي الشهادة الجامعية الثالثة، في الخارج، وارتأوا الاستقرار في الخارج بشكل دائم.

بالتزامن مع زيادة عدد الباحثين المهاجرين الجدد من إسرائيل، كشفت الإحصائيات عن انخفاض في أعداد العائدين إليها بعد إقامة طويلة في الخارج، ما يكشف عن اتجاه تنازلي في عدد العائدين، مقابل اتجاه تصاعدي في عدد الذين ينتقلون إلى الخارج ويقيمون فيه لفترات طويلة، ويمثل ذلك زيادة قدرها 9.3% خلال عقد من الزمن.

وزارة التعليم أجرت دراسة للتوزيع الجغرافي للمناطق التي ينحدر منها الأكاديميون المقيمون حاليًا خارج إسرائيل، وتبين لها أن 11% منهم من سكان المناطق الراقية، خاصة "رامات هشارون، تل أبيب، هرتسليا، عومر، إيفن يهودا، زخرون يعقوب، رعنانا، كفار سابا، كوخاف يائير".

لماذا يترك المهاجرون إسرائيل، وبدون رجعة؟

تستعرض التقارير الرسمية الإسرائيلية أهم أسباب هجرة الكفاءات الأكاديمية إلى الخارج، ومن بينها هجوم حكومة اليمين على الأوساط الأكاديمية والبحثية، التي تتهمهم بالتنكر للدولة التي استثمرت بكثافة في تعليمهم، وكان بإمكانهم تقديم إسهام بالغ الأهمية للاقتصاد والبحث العلمي فيها، لكنهم اختاروا أن يعملوا ويعيشوا حاليًا خارجها.

عكيفا لام، الكاتب في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، اعتبر أن المعطيات الإحصائية حول الهجرة العكسية بمثابة صب الزيت على نار الصراعات السياسية في إسرائيل.

وبعيدًا عن تأثير الحرب على غزة، والانقلاب القضائي، يُحتمل أن يكون سبب الهجرة إلى الخارج، وتراجع رغبة حاملي شهادات الدكتوراه في العودة إلى إسرائيل، نابعًا من ظروف البحث العلمي، وموقف الحكومة تجاه الأوساط الأكاديمية، وهجومها على مؤسسات البحث العلمي، بقيادة وزير التعليم يوآف كيش، الذي يسعى للسيطرة على نظام التعليم العالي.

كما تشهد ميزانيات الجامعات الإسرائيلية ومؤسسات التعليم العالي تآكلًا مستمرًا، وخُفِّضت عدة مرات منذ تشكيل الحكومة، في ظل توزيعها أموال الائتلاف اليميني، ونتيجةً لذلك تتضاءل الموارد المخصصة لإجراء البحوث وإنشاء بنى تحتية بحثية متقدمة، ويفضل الباحثون الانتقال أو البقاء في الخارج، حيث تُعرض عليهم رواتب وميزانيات وبنى تحتية بحثية أكبر. وبلغت ميزانية التعليم العالي عام 2025 حوالي 14 مليار شيكل، ويتوقع أن تكون مماثلة في 2026.

وخلال السنوات الماضية، خُفِّضت ميزانية التعليم العالي بـ700 مليون شيكل، ويعود ذلك أساسًا إلى تخفيضات شاملة. ومع بداية العام الدراسي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وافقت الحكومة على خفض 40 مليون شيكل من ميزانية التعليم العالي لتمويل ميزانية إضافية لوزارة الأمن القومي التي يقودها إيتمار بن غفير، وقبل ذلك بشهر خُفِّضت ميزانية التعليم العالي بـ150 مليون شيكل لتمويل نفقات وزارة الخارجية.

هجرة الأكاديميين بسبب مقاطعة إسرائيل

أرون دروكمان، المحرر في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أكد انخفاض حجم المنح المقدمة للجامعات الإسرائيلية من مؤسسة البحوث الأوروبية، وهي الممول الرئيسي للنشاط البحثي في إسرائيل، بسبب تصاعد المقاطعة الأكاديمية، ما يُعد عاملًا آخر في هجرة الباحثين والأكاديميين الإسرائيليين.

إذ يُصعِّب ذلك على الباحثين والأكاديميين الحصول على مصادر تمويل خارجية، والعمل بالتعاون مع زملائهم البارزين من مختلف أنحاء العالم، ونتيجةً لذلك يتجهون إلى الخارج وينفصلون عن الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية.

مع العلم أنه خلال السنوات الـ15 الماضية، قاد المجلس الوطني للثقافة الإسرائيلية عدة برامج لاستقطاب الكفاءات الأكاديمية والباحثين البارزين العاملين في الخارج، لكن نتائج هذه الجهود تعثرت بسبب التوجهات الحكومية الحالية.

رؤساء المعاهد البحثية في إسرائيل عقّبوا على هذه البيانات باعتبارها جرس إنذار وعلامة تحذيرية خطيرة لصنّاع القرار في الدولة، لأنه عندما يختار ربع خريجي الدكتوراه في الرياضيات وعلوم الحاسوب بناء مستقبلهم في الخارج، تفقد إسرائيل تدريجيًا ميزتها النسبية.

رغم أنها تستثمر موارد ضخمة في تدريب ألمع العقول، لكنها تخسرها في لحظة الحقيقة، ما يعني توجيه ضربة مباشرة لمحركات نمو الاقتصاد الإسرائيلي، والأمن، والتكنولوجيا المتقدمة، وقدرة الدولة على الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية. وبدون استثمار فوري في البنية التحتية البحثية، وتوفير بيئة عمل مستقرة للباحثين الشباب، ستواصل إسرائيل تزويد العالم بأفضل العلماء، بدلًا من بناء مستقبلهم فيها.

أدريان بايلوت، الكاتب في صحيفة "كالكاليست" للشؤون الاقتصادية، كشف أن 90 ألفًا من أصحاب الكفاءات العلمية والبحثية غادروا إسرائيل خلال آخر عامين، بينهم 875 طبيبًا، وخسر اقتصادها بسبب ذلك 1.5 مليار شيكل، نتيجة تراجع عائدات الضرائب بسبب هذه الهجرة، لأن نسبة كبيرة من المهاجرين من أصحاب الدخل المرتفع، وقفزت نسبتهم من الربع إلى أكثر من الثلث.

ما يعني أن الخطر الذي تحمله هذه الأرقام يمثل خطرًا استراتيجيًا كبيرًا، في ضوء الزيادة الحادة في أعداد الإسرائيليين المهاجرين إلى الخارج، ما أدى إلى الكثير من التكهنات والتقديرات الخاطئة حول مدى خطورة هذه الظاهرة.

نينا فوكس، الكاتبة في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، نقلت معطيات دراسة جديدة أجراها البروفيسورات: إيتاي آتر، نيتاي بيرغمان، ودورون زامير، من جامعة تل أبيب، كشفت أن هذه الأرقام تعني أن ميزان الهجرة العكسية خارج إسرائيل زاد بنسبة 25% في 2023، و56% في 2024، ما يكشف عن اختلال في التوازن.

إذ تتميز موجات الهجرة الأخيرة بارتفاع مقلق في أعداد الشباب، وأصحاب الدخل المرتفع، والأطباء، والمهندسين، وحاملي الشهادات العلمية، بين المهاجرين.

من هم أوائل المهاجرين من النخب الإسرائيلية؟

كشفت الدراسة عن تزايد تمثيل أصحاب الدخل المرتفع بين المهاجرين خارج الدولة، ممن يتقاضون رواتب أعلى من المتوسط بشكل ملحوظ، وهذا يعني أن المزيد من المتخصصين في مجال التكنولوجيا المتقدمة، والمديرين، وأصحاب المهن الحرة، وغيرهم من أصحاب الدخل الأعلى يغادرون إسرائيل.

إذ تؤثر هذه الهجرة بشكل مباشر على القاعدة الضريبية، مما يمثل خسارة محتملة في إيراداتها بحجم مماثل كل عام، لو استمر هؤلاء المهاجرون في كسب مداخيلهم داخل الدولة، وبالتالي يزيد هجرة أصحاب الأجور المرتفعة من صعوبة أوضاعها الاقتصادية، لأنهم يمثلون المساهمين الرئيسيين فيها، سواء من خلال مهاراتهم أو ضرائبهم.

تُعد النسبة الكبيرة من الأطباء المهاجرين مصدر قلق بالغ، ففي قطاع المهن الصحية ثمة هجرة غير معتادة، حيث غادر 875 طبيبًا خلال عام ونصف فقط، ويُعد فقدان المئات منهم في غضون سنوات قليلة رقمًا مقلقًا للنظام الصحي في إسرائيل، التي تعاني نقصًا حادًا في أعدادهم. مع أننا أمام خسارة مضاعفة، لأن تقديم الخدمات الطبية المتقدمة يعتمد على عدد محدود من الكوادر الطبية المتخصصة، لذا فإن هجرة العديد من الأطباء تُشكل ضربة قاسية للنظام الصحي الإسرائيلي، وخطرًا عليه.

تشير المعطيات الإحصائية إلى أبعاد "هجرة العقول" في مجالات العلوم والتكنولوجيا، فقد غادر إسرائيل أكثر من 19 ألف حاصل على درجة البكالوريوس أو أعلى في موجة الهجرة الحالية، بينهم أكثر من 6,600 خريج في مجالات العلوم والهندسة، وتشمل الحاصلين على شهادات عليا. وغادر 633 حاصلًا على الدكتوراه في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

ولا يزال هناك عجز في ميزان الهجرة يبلغ 224 باحثًا وأكاديميًا من حملة الدكتوراه غادروا الدولة ولم يعودوا، مما يشير إلى اتجاه مقلق يتمثل في هجرة الكفاءات الأكاديمية والعلمية المتميزة إلى الخارج، وهو تطور قد يضر بالبحث العلمي والأوساط الأكاديمية والابتكار التكنولوجي في إسرائيل على المدى الطويل، وتُعد المحرك الرئيسي للاقتصاد.

خبراء الهايتك والتكنولوجيا المتقدمة الأكثر هجرة

أظهر تقرير نشرته صحيفة "كالكاليست" معدلات الهجرة العكسية أعلى من المعتاد في قطاعي الهندسة والتكنولوجيا المتقدمة، فقد غادر إسرائيل أكثر من 3000 مهندس في الفترة ذاتها، وبعد احتساب عودة بعضهم، بلغ صافي العجز في ميزان الهجرة 2330 مهندسًا.

وبجانبهم، فإن الحاصلين على شهادات في مجالات التكنولوجيا المتقدمة مثل علوم الحاسوب والبرمجيات والتكنولوجيا يغادرون الدولة بأعداد متزايدة، ونظرًا لأن هذه الصناعة تُعد محركًا رئيسيًا لنمو الاقتصاد الإسرائيلي، فإن فقدان الكفاءات يضر بالابتكار التكنولوجي والميزة التنافسية للاقتصاد.

بشكل أوسع، يحذر الباحثون من أن هجرة العاملين الأساسيين في الصناعات عالية التقنية والمعرفية تشكل خطرًا على الاقتصاد الإسرائيلي برمته، لأن الغالبية العظمى من المهاجرين من الشباب، وتزيد نسبة من تقل أعمارهم عن 40 عامًا على 75%. وهذا الرقم ليس مفاجئًا، فالشباب أكثر ميلًا للتنقل للدراسة والعمل وخوض المغامرات في الخارج، مما يكشف عن تغير مقلق في هذا الاتجاه، لأن فئة كبار السن بدأت هي الأخرى بالمشاركة بشكل متزايد في الهجرة.

ففي السنوات الأخيرة، لوحظ ارتفاع في معدل الهجرة لمن تزيد أعمارهم على 40 عامًا، ممن يتمتعون بظروف أكثر استقرارًا ونضجًا، ولديهم وظائف وعائلات في إسرائيل.

يشير هذا التغير إلى أن الهجرة العكسية أصبحت ظاهرة أوسع نطاقًا نحو الخارج، وقد تؤدي إلى خسارة تراكمية للخبرات والمهارات التي اكتسبها الإسرائيليون الأكبر سنًا. وبالتالي فإن تزايد أعداد المهاجرين واتساع رقعتهم العمرية يعني أنهم يشكلون تهديدًا مباشرًا للاقتصاد، لأن الخطر الأكبر يكمن في استمرار هذا التوجه وتفاقمه في ضوء خصائص المهاجرين الجدد.

فالاقتصاد الإسرائيلي لا يعتمد على الموارد الطبيعية، بل على رأس مال بشري عالي الجودة ومحدود نسبيًا، يتركز في مجالات الطب والهندسة والبحث العلمي والأوساط الأكاديمية والتكنولوجيا المتقدمة.

وقد يؤدي استمرار الهجرة الخارجية إلى حلقة مفرغة سلبية: فكل رحيل لطبيب أو مهندس يُضعف النظام الذي ينتمي إليه، وبالتالي يصبح أقل جاذبية للعمال الآخرين الذين بدورهم يفكرون في الرحيل، وتتسارع هذه العملية بفعل أي صدمة سياسية أو أمنية أو اقتصادية، لأن كل إسرائيلي يغادر يزيد من حافز الآخرين أن يحذوا حذوه.

وإذا استمر اتجاه تزايد الهجرة، فبمجرد أن يتجاوز عدد المغادرين عتبة حرجة معينة، سيكون صعبًا للغاية تغيير هذا المسار، وسيصاحب هذا الوضع عواقب اقتصادية كلية وخيمة على الاقتصاد الإسرائيلي، نتيجة فقدان رأس المال البشري الحيوي في القطاعات الرئيسية، وضعف القدرة الإنتاجية والابتكارية، والخشية أن يصل الاقتصاد إلى نقطة اللاعودة بسبب ما ترتكبه الحكومة الحالية من أخطاء تاريخية فادحة.

عجز متصاعد في أعداد الأطباء والمهن الصحية

كشف البروفيسور تشين هوفمان، مدير وحدة الأشعة العصبية في مستشفى "شيبا"، عن النقص الحاد في عدد الأطباء، الذين يغادر الكثير منهم لممارسة الطب في الخارج، أو يبقون هناك بعد انتهاء فترة تدريبهم، لأن أسباب الهجرة تتركز في سوء إدارة الدولة، وعدم المساواة في توزيع الأعباء بين اليهود، والسلوك السياسي غير الجاد.

أما الدكتورة نعماه كوهين، الرئيسة التنفيذية لمنظمة "وصفة طبية"، فكشفت أن الدولة شهدت هجرة 4 أضعاف عدد الأطباء الذين غادروا في السنوات الـ4 السابقة، بسبب مجموعة من المشاكل المادية والمهنية.

وفق كوهين، فإن الأطباء يعانون من تراجع رواتبهم بـ20% منذ عام 2011، ولم تعد مناسبة لتكاليف المعيشة، وساعات العمل الطويلة التي يبذلها الطبيب في القطاع الحكومي، حتى إن الطبيب ماعين جلبوع كشف أن 70% من زملائه في الخارج لا يخططون للعودة إلى إسرائيل نظرًا للرضا المهني، وإمكانية تحقيق دخل مرتفع هناك.

في الوقت ذاته، فقد سُجل ارتفاع ملحوظ في الهجرة السلبية بزيادتها إلى 4 أضعاف مقارنة بالمتوسط عشية تنصيب الحكومة الحالية أواخر 2022، ولم يعد الأمر يقتصر على هجرة الشباب، بل بات يشمل ارتفاعًا حادًا في عدد الأزواج الذين فقدوا ثقتهم بالدولة.

والعديد من المهاجرين الذين حولوها إلى مجرد محطة عبور. وبعد أن كان متوسط الهجرة على مدى عدة سنوات 13.8 ألف يهودي فقط، تشير البيانات الآن إلى ارتفاع ملحوظ في الهجرة العكسية وزيادتها إلى 4 أضعاف، وفقًا لبيانات المكتب المركزي للإحصاء.

وقد بلغ عدد الإسرائيليين الذين غادروا ولم يعودوا 83 ألفًا، وأن نسبة من غادروا ولم يعودوا ارتفعت إلى 94%، وهي النسبة الأعلى منذ 2010. وعند التدقيق في التفاصيل، تبدو البيانات أكثر إثارة للقلق، من حيث ارتفاع نسبة المتزوجين بين المهاجرين، مما يشير إلى تغير جذري في نمط الهجرة.

أي إنها لم تعد هجرة شباب بعد انتهاء خدمتهم العسكرية بحثًا عن تجربة جديدة، بل هجرة عائلات بأكملها، وهي ظاهرة قادرة على تغيير بنية المجتمع والاقتصاد والتركيبة السكانية في إسرائيل مع مرور الوقت، لأنه عندما تغادر عائلات بأكملها لا تقتصر الهجرة على البالغين فحسب، بل تشمل خسارة جيل شاب سينشأ ويتعلم ويرتبط ببلد آخر.

وبالتالي يتضرر النظام التعليمي على المدى الطويل، من حيث الانخفاض في معدلات الالتحاق، وإغلاق بعض الفصول الدراسية؛ وسوق الإسكان مع انخفاض الطلب، لاسيما في المناطق النائية؛ ونظام الرعاية الاجتماعية من حيث دفع ضريبة التأمين الوطني والصحة.

والأسوأ من ذلك كله أن هذه الهجرة قد تشير إلى تراجع الثقة في الدولة ومؤسساتها، نتيجة الشعور بعدم الاستقرار، وانعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، لأن المهاجرين فقدوا الأمل في المستقبل في الدولة ذاتها.

كما كشف أريئيل فيجلين، الكاتب في صحيفة "معاريف"، أن إسرائيل تودع رؤوس الأموال الكبيرة، فالعقول تغادر، والعائدون إليها أقل تعليمًا، وهكذا تتسع الفجوة بين المهاجرين والعائدين. وأصبحت هجرة العقول أمرًا واقعًا، لأن نسبة المغادرين الحاصلين على شهادات جامعية ارتفعت من 38% إلى 46% فقط، وتكمن وراء هذه الفجوة الإحصائية أهمية اقتصادية بالغة.

حيث يُعد التعليم العالي أحد أقوى مؤشرات مستويات الأجور، وبالتالي مؤشرات توقعات إيرادات الدولة الضريبية ونموها الاقتصادي، وعندما يهاجر خريجو الجامعات، فإن إسرائيل لا تخسرهم فحسب، بل تخسر أيضًا شريحة كبيرة من دافعي الضرائب، من المهندسين والأطباء والعلماء والعاملين في مجال التكنولوجيا المتقدمة الذين كلفها تدريبهم مبالغ طائلة.

أثر الهجرات العكسية على اقتصاد إسرائيل

دانا غوترسون، المحللة الاقتصادية في القناة 12، أشارت إلى أخطر نتائج هجرة الكفاءات الأكاديمية والمهنية، ومنها تحول إسرائيل من فائض في استيعاب العمالة إلى عجز مقلق، وهو ما كشفته شركة Revelio Labs المتخصصة في معلومات التوظيف، استنادًا إلى بيانات LinkedIn، على اعتبار أن قطاع التكنولوجيا المتقدمة الأكثر تضررًا.

حيث يقود مهندسو البرمجيات ورواد الأعمال موجة الهجرة، لاسيما إلى الولايات المتحدة وكندا وألمانيا، بسبب ما شهدته السنوات الـ3 الماضية من صعوبات واضطرابات في إسرائيل، بدءًا من الانقلاب القانوني الذي قسم المجتمع الإسرائيلي، ثم الحرب على غزة، مما أسفر عن تردٍّ في الوضع السياسي والأمني للدولة، لأن المزيد من الإسرائيليين يختارون مغادرتها.

وأظهر تقرير هيئة الابتكار الصادر في أبريل 2025 مغادرة 8,300 عامل في مجال التكنولوجيا المتقدمة إسرائيل بشكل دائم، بما يمثل 2.1% من قواها العاملة، في حين أن عددًا غير معتاد من الإسرائيليين غادروا الدولة بلغ 82,700 ألفًا، بما يمثل ارتفاعًا حادًا بنسبة 80%.

وهكذا تحولت إسرائيل من فائض في عدد الموظفين الوافدين إلى عجز في أعدادهم، بما يترك تأثيره السلبي على قطاع التكنولوجيا المتقدمة والهندسة، الذي تمتع بفائض في أعداد المهاجرين.

أما عن وجهات الهجرة الرئيسية للخبراء والأكاديميين الإسرائيليين، فهي: الولايات المتحدة وكندا وألمانيا، التي استوعبت أكبر عدد منهم، وهي تعتبر وجهات منطقية، ليس فقط لحجمها الكبير، بل أيضًا لمكانتها كمراكز للبحث الابتكاري وتأسيس الشركات الناشئة.

خبراء اقتصاديون إسرائيليون حذروا من أن تسفر هذه الظاهرة، في حال تفاقمت، عن انهيار تدريجي للاقتصاد الإسرائيلي، من خلال التفكك ببطء وهدوء، في ضوء الهجرة العكسية لفئات المتعلمين والمنتجين ودافعي الضرائب.

ولم يعد هذا مجرد هجرة عقول لمرة واحدة من الأساتذة أو مهندسي التكنولوجيا المتقدمة، بل أصبح اتجاهًا واسع النطاق يُسمع عنه في كل حديث، كما حصل في دول أخرى شهدت تآكلًا في مداخيلها الاقتصادية من خلال موجات الهجرة الهادئة للطبقة الوسطى المنتجة، التي تُعد أساس الاقتصاد المتطور والنامي، ممن اختاروا الرحيل.

كل ذلك أسفر عن هجرات ليست تقليدية، بل تغير ديموغرافي، لأن المغادرين شباب، علمانيون، متعلمون، وذوو دخل مرتفع؛ ومساهمتهم الاقتصادية الكبيرة في الإنتاجية والقاعدة الضريبية، مما يعني أن الدولة تفقد محركات النمو، وقد تكون النتيجة ضربة قوية للابتكار والإنتاجية والنمو.

أزمات متراكمة by S Yboujabha

حكومة اليمين تكتفي بمهاجمة المهاجرين

لجنة الشباب في الكنيست أجرت مناقشة برلمانية حول الهجرة العكسية، وطرحت فيها رئيسة اللجنة نيعماه لازمي توقعات أكثر قتامة حول هجرة الشباب والأسر الشابة من إسرائيل، لأن الشريحة الأكثر هجرة تعتبر منتجة، وتسهم في دعم إسرائيل اقتصاديًا واجتماعيًا وعسكريًا، مما يجعلها أمام ظاهرة صعبة، ولا يمكنها تجاهل هذه الأرقام المقلقة.

وتعود هذه الظاهرة أيضًا إلى الوضع الأمني المتأزم الذي تعيشه منذ أكثر من عامين، فضلًا عن غلاء المعيشة الذي يتزايد سنويًا، مما يعيق قدرة العائلات الشابة في إسرائيل على بناء مستقبل لأنفسهم ولأسرهم.

أما أحمد حليحل، مدير قسم الديموغرافيا في المكتب المركزي للإحصاء، فذكر 3 أزمات شهدتها السنوات الماضية ساهمت بتصاعد الهجرة العكسية، وهي: جائحة كورونا، والانقلاب القانوني، والحرب على غزة.

فيما حذر البروفيسور يوسف زيرا، رئيس معهد "ماغيد"، من أن الكثير من المهاجرين لا يهاجرون من أجل أنفسهم، بل من أجل تعليم أبنائهم، ورفع مستوى معيشتهم، محذرًا من أن التوترات الأمنية في إسرائيل تتسبب في ركود اقتصادي، وتراجع في الاستثمارات، وتأثير طويل الأمد يتمثل في خسارة الناتج القومي بـ6%.

عنات ليف-أدلر، الكاتبة في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، ذكرت أنه في عام 2024، في خضم الحرب على غزة، غادر 82,700 إسرائيلي الدولة، بينما عاد إليها 23,800 فقط، والنتيجة عجز في الهجرة بلغ 58,900 إسرائيليًا غادروا.

وتُظهر بيانات التأمين الوطني أن عدد الإسرائيليين المقيمين في الخارج ازداد بنسبة 24% من مارس/ آذار 2023 إلى مارس/ آذار 2025، مع تقديم 4,800 إسرائيلي طلبات لإنهاء إقامتهم في النصف الأول من عام 2024، أي ما يعادل ضعفين ونصف ضعف عدد الطلبات في الفترة السابقة، وهو العدد نفسه في عام 2022.

لقد أدت الحرب إلى تغيير جذري في ميزان الهجرة لإسرائيل، حيث أصبح سلبيًا للعام الثاني على التوالي، خاصة أن خصائص المهاجرين تمتاز بأنهم من الشباب، الذين غالبًا ما يكونون ذوي تعليم عالٍ، ومهارات متميزة، ولديهم القدرة على المساهمة في الاقتصاد.

وقد يكون تزايد هجرتهم إلى الخارج ضارًا على المدى الطويل، وبالتالي فقد أحدثت أطول حرب وأكثرها تكلفة في تاريخ الدولة، واستمرت قرابة عامين، تحولًا في التركيبة السكانية لإسرائيل.

ياردن بن غال هيرش، مراسلة صحيفة "ذي ماركر" للشؤون الاقتصادية، ذكرت أن لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست ناقشت الهجرة العكسية، ونظرًا للوضع السياسي والأمني الراهن وغياب الرعاية الحكومية، فمن المرجح أن يستمر هذا التوجه المقلق على مستقبل الدولة، التي باتت تُعد من أقل الدول جاذبية للمتعلمين كوجهة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCED، لأن نسبة المتعلمين بين المهاجرين أعلى بكثير من نسبتهم في المجتمع الإسرائيلي.

إيريت تويتو، إحدى ناشطات حركة "التكنولوجيا المتقدمة من أجل إسرائيل"، كشفت أننا نشهد هجرة سلبية على نطاق غير مسبوق، وبعضهم من ذوي الكفاءات التقنية العالية، رغم أنهم يساهمون بثلث دخل الدولة، ويخدمون في الاحتياط بأعداد تفوق نسبتهم في السكان.

لكن هناك تراجعًا في عدد الشركات الناشئة، ما قد يدفعهم إلى مغادرة الدولة، لأن الضرر الذي لحق بالاستثمارات في الشركات الناشئة الصغيرة والحرب يضغطان عليها لنقل مركز ثقلها إلى الخارج، مما يؤثر على فرص العمل في هذا القطاع، بالتزامن مع عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ويضر بثقة الجمهور بالدولة والحرب.

عضو الكنيست عوديد فورير، من حزب إسرائيل بيتنا، كشف أنه لا توجد وزارة حكومية تُجري حاليًا أي بحث حول هذه الظاهرة، وأن الخطة الحكومية السابقة لإعادة العقول إلى إسرائيل لا تُؤتي ثمارها، وعلينا أن نُدرك أن الوضع سيزداد سوءًا.

تحميل المزيد