لم يعد المرض بالنسبة لآلاف اللاجئين السودانيين في مصر مجرد أزمة صحية، بل تحوّل إلى معركة يومية من أجل البقاء، في ظل توقف التمويل الأممي وتراجع خدمات الرعاية التي كانت تشكل شريان حياة لمرضى فرّوا من الحرب بحثاً عن الأمان والعلاج.
ومع تقليص المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لخدماتها الطبية، وجد هؤلاء أنفسهم فجأة أمام واقع قاسٍ: علاج باهظ، ودعم دولي يتآكل، وخيارات محدودة لا تحتمل الانتظار. وبينما تتسع الفجوة التمويلية، تتزايد أعداد المرضى غير القادرين على تحمّل تكاليف العلاج، ما حوّل الصحة إلى أحد أكثر الملفات إلحاحاً في أزمة اللجوء السودانية.
في مواجهة هذا الفراغ، برزت الجمعيات الأهلية والمبادرات الشعبية السودانية والمصرية، إلى جانب تدخل منظمات إنسانية دولية، كمحاولة أخيرة لاحتواء الانهيار الصحي، فيما اضطرت الحكومة المصرية والسفارة السودانية إلى توسيع نطاق تدخلاتهما لتخفيف العبء عن المرضى.
في هذا التقرير، نرصد كيف أجبر توقف التمويل الأممي المرضى السودانيين في مصر على اللجوء إلى مبادرات العلاج المجانية، ونكشف حجم الأزمة الصحية، ومسارات الدعم البديلة، وحدود الاستجابة الرسمية والأهلية، في واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية تعقيداً في المنطقة اليوم.
أزمة صحية متفاقمة للاجئين السودانيين في مصر
منذ أن أوقفت مفوضية اللاجئين في مصر غالبية الخدمات الطبية التي تقدمها للاجئين السودانيين في شهر مارس/آذار 2025، بفعل أزمة نقص التمويل، دخل اللاجئون السودانيون الفارون من الحرب التي قاربت على عامها الثالث في أزمات صحية متفاقمة.
وتشير شهادات البعض ممن تحدث إليهم "عربي بوست" إلى أن توفير العلاج المناسب أضحى بعيد المنال مع ارتفاع أسعاره وتوقف الدعم الدولي المقدم للاجئين، غير أنهم وجدوا ضالتهم في الجمعيات الأهلية السودانية والمصرية وهيئات طبية دولية مثل منظمة "أطباء بلا حدود"، وبعض جهود الحكومة المصرية التي تعمل على توفير العلاج بالمستشفيات العامة.
بحسب أفراح الطيب، وهي لاجئة سودانية في الستينيات من عمرها، فرغم تسجيلها كلاجئة في مصر بمفوضية اللاجئين وتشملها شروط تقديم الخدمة كونها تخطت الستين، إلى جانب معاناتها من أمراض مزمنة مثل السكري والقلب وضغط الدم، فإنها لا تستطيع توفير علاجها المطلوب.
الطيب تقول لـ"عربي بوست" إن علاجها يُكلف شهرياً نحو 4 آلاف جنيه مصري (نحو 84 دولاراً أمريكياً)، وتعتمد على ما تقدمه إحدى الجمعيات الأهلية في منطقة إقامتها في منطقة فيصل بمحافظة الجيزة، وهي مساعدات مالية قد لا تتجاوز نصف احتياجاتها من العلاج لكنها تعد وسيلة مساعدة مهمة بالنسبة إليها.
وتضيف المتحدثة لـ"عربي بوست" أن المستوصفات الطبية التي تتبع جمعيات أهلية تقدم خدماتها بأسعار زهيدة للسودانيين كما للمصريين، وهو ما يساعدها على إيجاد بديل مناسب لما كانت تقدمه إليها مفوضية شؤون اللاجئين.
وأشارت إلى أن بعض أقاربها في أسوان طالبوا منها الذهاب إليهم والاستفادة من المبادرات التي تقدم على نحو أكبر هناك من جانب منظمة "أطباء بلا حدود" وغيرها من الجمعيات الأهلية التي تركز على حالات السودانيين المرضى الذين فروا من الصراع وليس لديهم القدرة على التنقل إلى محافظات مصرية بعيدة عن الحدود.
أما نور إبراهيم، وهو أربعيني يعاني من ضيق في الشريان التاجي ويعاني أمراض القلب، أشار إلى أن المبادرات الشعبية للسودانيين في مصر استطاعت أن تشكل حائط صد مهم في ظل نقص العلاج، وأن كثيراً من الأطباء السودانيين في الخارج يتبرعون بتقديم الخدمات الطبية المجانية إلى جانب تكفلهم بالعلاج، لكن الأزمة في أنها لا تكفي احتياجات المرضى.
إبراهيم أوضح قائلاً: "يمكن أن أحصل على العلاج هذا الشهر، لكن في الشهر الذي يليه أجد صعوبة، كما أن تمويل العمليات الكبيرة يواجه العديد من المشكلات، وفي الأغلب إما إننا نذهب إلى المستشفيات الحكومية المصرية أو نطرق أبواب السفارة لتقديم الدعم المطلوب".
منذ اندلاع الحرب، وصل نحو مليون ونصف مليون سوداني إلى مصر، لكن أزمة التمويل الإنساني للمفوضية السامية حرمت عشرات الآلاف من المرضى المسجلين لديها من الوصول إلى خدمات صحية أساسية، ما في ذلك الرعاية الطبية الحيوية وحماية الطفل والمساعدات الضرورية الأخرى.
كيف أثر تراجع الميزانيات على اللاجئين السودانيين في مصر؟
مصدر سوداني مطلع على أوضاع المرضى في مصر، قال إن تراجع الميزانيات الموجهة للخدمات الصحية التي كانت تقدمها مفوضية اللاجئين ترك فراغاً كبيراً، مع أن الجزء الأكبر من السودانيين لم يكن مسجلاً بالمفوضية، لكنها كانت تسهم في تخفيف ميزانيات العلاج لكثير من الأسر، خاصة من لديهم أمراض مزمنة وفي أوضاع صحية متردية.
والآن يتلقى السودانيون في مصر العلاج إما من خلال نفقتهم الخاصة، وتحديداً داخل المراكز والمستوصفات التي تكتظ بالسودانيين إلى درجة أن أعدادهم في بعض المناطق تفوق المصريين، أو من خلال المبادرات المجانية التي تقدمها السفارة أو الحكومة المصرية، وكذلك اللجوء إلى المستشفيات العامة في مصر.
وأوضح المصدر ذاته أن أكثر من 100 ألف حالة علاج أضحوا يعانون صعوبات في توفير نفقات علاجهم، وهؤلاء كانوا يتلقون العلاج عبر المفوضية، في حين أنه يمكن القول بأن هناك 500 ألف مريض يعانون من صعوبات في توفير نفقات علاجهم، وهو ما يدفع نحو تكثيف مبادرات العلاج المجانية ودفع ذلك بعض الدول العربية للدخول على الخط لإنقاذ المرضى.
وأضاف المصدر إلى أن العمليات الجراحية يتم تدبير مبالغها بشكل مسبق، وفي الأغلب تتم داخل مستشفيات حكومية مصرية أو داخل مستوصفات خاصة زهيدة الثمن، مشيراً إلى أن السودانيين ساروا على نفس نهج الجنسيات العربية الأخرى في مصر مثل السوريين واليمنيين، مع تدشين جمعيات أهلية في الخارج تتولى عملية علاجهم داخل مصر، وذلك منذ أن أوقفت مفوضية اللاجئين استقبال حالات جديدة وتوقفها عن تقديم الخدمة لغالبية المرضى.
ولفت مصدر "عربي بوست" إلى أن الأزمة الأكبر التي تواجه المرضى السودانيين ترتبط بعدم وجود إقامات سارية لجزء ليس بالقليل منهم، وهؤلاء لا يمكنهم العلاج في المستشفيات الحكومية ويجدون صعوبات في الاستفادة من غالبية الخدمات التي تقدمها السفارة السودانية.
وفي المقابل فإن القنصلية المصرية في حلفا وبورتسودان تتعامل مع هذا الأمر بقدر كبير من الإنسانية، مع إصدارها مؤخراً تأشيرات لاستقبال المرضى السودانيين الذين يعانون مشكلات صحية صعبة بسبب استمرار الحرب بدلاً من الدخول إلى البلاد بطرق غير شرعية.
أين تتركز الحالات الصحية الصعبة؟
مصدر "عربي بوست" ذكر أن الحالات الصحية الصعبة أغلبها يتركز في محافظة أسوان قرب الحدود مع السودان، وهو ما يجعل المنظمات الإغاثية والإنسانية الدولية وكذلك منظمة "أطباء بلا حدود" تركز عملها في تلك المحافظة على وجه التحديد، وهؤلاء يستفيدون من انخفاض تكاليف العلاج بالمحافظة القريبة من الحدود بعكس القاهرة الكبرى أو المحافظات القريبة من العاصمة، بل إن الخدمة الطبية في جنوب مصر تبقى أكثر جودة.
وفي ظل صعوبات الانتقال للخارج للعلاج ومع تراجع الدعم المقدم لمفوضية اللاجئين، دعا مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة في فيينا مجدي أحمد مفضل البعثات الدبلوماسية المعتمدة في العاصمة النمساوية إلى دعم جهود حكومة السودان بالتنسيق مع سكرتارية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بهدف استعادة خدمات العلاج الإشعاعي للأورام في المعهد القومي للسرطان بجامعة الجزيرة.
واستقبلت مصر أكثر من 1.5 مليون سوداني ممن اضطروا للفرار من أسوأ أزمة إنسانية في العالم حالياً، وهو العدد الأكبر مقارنة بأي دولة أخرى، بما في ذلك حوالي 900 ألف سوداني لاجئ سوداني مسجل لدى المفوضية.
وقد تعرض ما يزيد عن 75% من المستشفيات والمرافق العلاجية، ما في ذلك المتخصصة في أمراض السرطان والكلى والقلب وغيرها، للتدمير في السودان جراء الحرب التي اندلعت قبل عامين وثمانية أشهر تقريباً بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وفي مارس/آذار الماضي قالت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين إن الأزمة العالمية في التمويل الإنساني أجبرتها على تقليص دعمها للاجئين وطالبي اللجوء في مصر، حيث أصبح عشرات الآلاف، من بينهم العديد من السودانيين الذين أجبروا على الفرار من النزاع، غير قادرين على الوصول إلى الرعاية الصحية الحيوية وخدمات حماية الطفل وأشكال المساعدة الأساسية الأخرى.
مجهودات مصرية وسودانية لتعويض النقص
في المقابل، كثفت الحكومة المصرية بالتعاون مع السفارة السودانية ومنظمات صحية محلية ودولية جهودها لتقديم خدمات عاجلة، في محاولة لسد الفجوة الناتجة عن تراجع الدعم الدولي، وعززت مصر تعاونها مع منظمة "أطباء بلا حدود" لتقديم الرعاية الصحية في المناطق الأكثر احتياجاً.
وبحسب مصدر مطلع بالسفارة السودانية في القاهرة، فإن توقف الخدمات التي تقدمها مفوضية اللاجئين جعل العبء الأكبر على الجهات الحكومية في مصر والسودان إلى جانب بعض الجمعيات الأهلية، ومع تدخل منظمات إنسانية وإغاثية دولية تلعب دوراً في التخفيف من حدة الأزمات الصحية، خاصة وأن أغلب من يأتون إلى القاهرة يكون هدفهم الرئيسي العلاج إلى جانب الأهداف المرتبطة بالفرار من الحرب.
وأوضح أن وزارة الصحة المصرية تشترك مع الملحقية الطبية التابعة للسفارة السودانية في كثير من مشاريع العلاج المقدمة إلى المرضى السودانيين، وأن المشروع الأهم يتعلق "برعاية مرضى القصور الكلوي" وهو بالتعاون مع مركز الملك سلمان للأعمال الإنسانية، وهو بشراكة أيضاً من منظمة الصحة العالمية.
وإلى الآن يقوم المشروع برعاية 1600 مريض من مرضى الفشل الكلوي، ومن المقرر مضاعفة الرقم خلال العام المقبل، لافتاً إلى أن المشروع ينطلق في خمسة محافظات مصرية ومن المستهدف أن يصل إلى جميع المحافظات المصرية التي يتواجد بها سودانيون.
وذكر مصدر "عربي بوست" أن السفارة السودانية تقدم بالتعاون مع شركات طبية مصرية وسودانية تخفيضات كبيرة للسودانيين عبر أنظمة طبية تأخذ في الانتشار على نطاق واسع في مصر، لكن يتم تقديم الخدمات للسودانيين الذين لديهم أوراق إقامة سليمة بتخفيضات تصل إلى 70%.
وهناك أكثر من 4000 مزود خدمة، بينها مراكز علاجية دشنها سودانيون مقيمون في مصر كما يتشارك فيها بعض المراكز والصيدليات التي تتبع أطباء عرباً ممن فروا أيضاً من الصراعات المشتعلة في بلدانهم، إلى جانب العيادات والمستشفيات المصرية.
وذكر أن الحكومة السودانية عززت تعاونها مع نظيرتها المصرية من أجل إتاحة العلاج للمرضى السودانيين في المستشفيات الحكومية ومعاملتهم معاملة المصريين، وهو ما استجابت له وزارة الصحة المصرية التي أضحت تقدم مبادرات صحية للاجئين على أراضيها وتولي اهتماماً بالمرضى السودانيين.
كما أن هناك اتفاقيات عديدة مع القطاع الخاص المصري بتقديم خدمات علاج مخفضة، وهو ما انتهى بتوقيع اتفاق في شهر مايو/أيار الماضي مع إحدى الشركات الطبية الخاصة، وهي تقدم خدمات بتخفيضات تصل إلى 50% وقد تتدخل السفارة بالتكفل بكافة مصاريف العلاج في الحالات الطارئة والإنسانية.
وشدد على أن السفارة السودانية تقدم بالتعاون مع الجهات الحكومية المصرية خدمة التوجيه، والاستشارات للمرضى، لتوجيههم نحو سبل العلاج الأسلم، والأفضل، مع وجود سوق كبيرة للسياحة العلاجية بالبلاد.
وأشار إلى أن هناك اتفاقاً مماثلاً مع "الجمعية المصرية لمرضى السكر" وبرعاية "الاتحاد الدولي للسكري" لتقديم خدمات مجانية لمرضى السكر، إلى جانب تدشين مبادرة أخرى مع دولة قطر لرعاية مرضى الأورام، وهي أيضاً ستتم داخل مستشفيات علاج الأورام في مصر.
أدوية مجانية للأمراض المزمنة
قبل أيام أعلنت سفارة السودان في مصر عن بدء توزيع أدوية زراعة الكلى للمرضى السودانيين المقيمين بالقاهرة والمسجلين في برنامج المستشارية الطبية، في خطوة إنسانية تهدف إلى دعم المرضى وتوفير أدويتهم الحيوية وسط الظروف الصحية والاقتصادية الصعبة التي يواجهها كثير من السودانيين بالخارج.
وأكدت السفارة في بيان رسمي أن عملية التوزيع تأتي ضمن جهودها المستمرة لتقديم الرعاية الصحية للمواطنين السودانيين، مشيرة إلى أن المستشارية الطبية قامت بإعداد قاعدة بيانات دقيقة لضمان وصول الأدوية إلى مستحقيها وفق ضوابط ومعايير طبية واضحة.
ولفت بيان سفارة السودان في القاهرة، إلى أنها نشرت كشفاً بأسماء المستفيدين من البرنامج، تعزيزاً لمبدأ الشفافية وضماناً لتوزيع عادل يراعي الأولويات الصحية والاحتياجات العاجلة لكل مريض.
وفي مطلع هذا الشهر أعلنت منظمة أطباء بلا حدود، بالتعاون مع مؤسسة "أم حبيبة"، عن تشغيل عيادة ميدانية متنقلة في خمسة مواقع مختلفة وذلك منذ يناير/كانون الثاني 2025، بهدف دعم النظام الصحي المحلي وتوفير خدمات الرعاية الطبية الأساسية للمصريين واللاجئين السودانيين الذين يواجهون صعوبة في الحصول على العلاج في أماكن أخرى.
وبحسب بيانات المنظمة، قدّم الفريق المشترك ما يزيد على 7265 استشارة عامة، و6600 استشارة للأمراض غير المعدية، إلى جانب 1470 استشارة للصحة النفسية، و2440 جلسة للتوعية الصحية، ما يعكس الإقبال المتزايد على الخدمات المجانية التي تُقدّم في إطار البرنامج المشترك بين الجانبين.
وتؤكد أطباء بلا حدود أن المشاركة المجتمعية تمثل ركيزة أساسية في نجاح المشروع، خاصة بعد أن أدركت الفرق الميدانية منذ بداية الأنشطة أن الوصول إلى السكان المتضررين، سواء المصريين أو السودانيين، يتطلب تواصلاً مباشراً وتفاعلاً مستمراً معهم لفهم احتياجاتهم.