في لحظة عالمية تتكثّف فيها الأزمات وتتراجع فيها المسلّمات التي حكمت النظام الدولي لعقود، ينعقد مؤتمر الشرق الشبابي الدولى التاسع "تشكيل الشرق" بوصفه مساحة للتفكير النقدي في موقع المنطقة داخل عالم يتغيّر على نحو متسارع. لم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كان النظام الدولي يمرّ بتحوّل، بل كيف تنعكس هذه التحولات على الشرق تحديداً، وما الذي تعنيه سياسياً واقتصادياً لمجتمعاته ودوله.
ينطلق هذا التقرير من النقاشات التي احتضنها المؤتمر، متوقفاً عند رؤيتين تحليليتين قدّمها كل من الأستاذ الدكتور محمد أسوتاي، أستاذ الاقتصاد السياسي والمالية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بجامعة دورهام، والمتخصص في الاقتصاد السياسي الإسلامي، والدكتور عماد الدين شاهين، أستاذ الدراسات الإسلامية والسياسة المقارنة في جامعة حمد بن خليفة (مؤسسة قطر)، والعميد السابق لكلية الدراسات الإسلامية، والمتخصص في قضايا التحول السياسي والدين والنظام الدولي.
ومن خلال الربط بين تحليلهما للأزمة الاقتصادية العالمية من جهة، والتحولات الجيوسياسية المتسارعة من جهة أخرى، يسعى التقرير إلى تقديم قراءة معمّقة لحالة الانسداد التي يعيشها العالم الإسلامي، وإلى تفكيك الأسئلة المرتبطة بإمكانات الفعل والأمل، في انسجام مع هدف المؤتمر المركزي: الانتقال من تشخيص الأزمة إلى التفكير الواقعي في مسارات التعامل معها.
تشخيص الواقع: نظام عالمي متصدّع واقتصاد إسلامي تابع
قبل رسم أي مسار للمستقبل، لا بد من تحليل البنية الحالية للنظام العالمي والاقتصادي كخطوة أولى أساسية. إنها خطوة لا غنى عنها لفهم طبيعة القيود والفرص المتاحة. في هذا القسم، سنقوم بتفكيك الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية للأزمة التي تواجه العالم الإسلامي، والتي تشكل السياق الأوسع لأي محاولة للنهضة أو التغيير.
أفول الهيمنة الأحادية وبزوغ عالم جديد
يصف د. عماد شاهين النظام الدولي بأنه يمرّ بـ"مرحلة تحوّل" لم تتحدد ملامحها النهائية بعد، لكنه يميّز لها علاماتٍ متراكبة:
تراجع قدرة الهيمنة الأحادية الأمريكية: ليس بوصفه "نهاية" كاملة، بل بوصفه ضعفاً تظهر دلائله في الداخل الأمريكي: معاناة اقتصادية، سوء إدارة، طبيعة قيادة "غير تقليدية" تتسم بالعفوية والتخبط، واستقطاب حاد بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل وبين المؤسسة وشرائح من المجتمع. ويضيف شاهين إلى ذلك ملمحاً خارجياً يرتبط—في تقييمه—بتحوّل سلوك القوة العظمى من "دفع" كلفة القيادة إلى "تحصيل" الأموال، خصوصاً من دول عربية.
ظهور منافسين قادرين على الحدّ من التفرد: يشير إلى الصين على وجه الخصوص، ثم روسيا في سياق حرب أوكرانيا، بوصف ذلك علامة على أن الغرب—حتى مجتمعاً—لم يعد قادراً على حسم صراعات كبرى بسهولة.
اتساع الفجوة بين الأنظمة الغربية وشعوبها: يلفت إلى أن حرب غزة كشفت "عدم رضا" شعبياً في أوروبا والولايات المتحدة تجاه سياسات رسمية، بما يدل على تشققات داخلية في المعسكر الغربي نفسه.
من جلسة : "تشكيل المستقبل، مسؤولية الأجيال" مع د. عماد شاهين: أستاذ وعميد سابق في جامعة حمد بن خليفة كما يشغل الدكتور شاهين منصب رئيس التحرير لموسوعة أكسفورد للإسلام والسياسة (The Oxford Encyclopedia of Islam and Politics)." في مؤتمر الشرق الشبابي الدولي التاسع "تشكيل الشرق: من… pic.twitter.com/p7dY7fz3x2
— Al Sharq Youth (@SharqYouth) December 12, 2025
هذا التوصيف لا يقدّم "حكماً نهائياً" على شكل النظام القادم، لكنه يضع المنطقة أمام سؤال الفعل: كيف يمكن تحويل التحول الدولي إلى مكسب إقليمي بدل الاكتفاء بردود الأفعال أو "احتواء الضغوط"؟ فهذه التحولات مجتمعة لا تمثل مجرد أزمة عابرة داخل النظام القائم، بل هي مؤشر على انتقال العالم إلى نظام دولي مختلف، متعدد الأقطاب، وغير محسوم المعالم، مما يفتح نوافذ من الفرص والتحديات أمام القوى الإقليمية.
الجانب الاقتصادي: هيمنة "الحضارة الرأسمالية للشركات"
يقدّم البروفيسور محمد أسوتاي تحليلاً تاريخياً عميقاً للنظام الاقتصادي العالمي، موضحاً أنه تشكّل على مدى 300 عام تحت وطأة ما يسميه "الرأسمالية التراكمية" (Accumulative Capitalism). هذا النظام، الذي قامت على أكتافه "الشركات الكبرى" ككيانات تتجاوز الأفراد، نجح في فرض هيمنة شبه مطلقة على الموارد العالمية.
وقد تم فرض هذا النظام على العالم الإسلامي عبر مرحلتين من التغيير الحضاري، كل منهما أعمق من سابقتها:
التغيير الحضاري الأول (الحداثة والاستعمار): تمثّل في مشروع الحداثة والتغريب الذي صاحب الحقبة الاستعمارية، وهدف إلى فرض التجانس القيمي والمؤسسي على العالم. ورغم نجاحه في فرض هياكل الدولة القومية الرأسمالية، إلا أنه لم يتمكن من اختراق البنى السلوكية والقيمية في "الأطراف" بشكل كامل.
التغيير الحضاري الثاني ("إجماع واشنطن"): انطلق عام 1979، حيث فُرضت الليبرالية الجديدة وسياسات الخصخصة. نجحت هذه المرحلة نجاحاً باهراً لأنها، على حد تعبير البروفيسور أسوتاي، "تمكنت من اختراق الأطراف" بطريقة لم تنجح بها المرحلة الأولى.
ولتوضيح عمق هذا الاختراق، يضرب مثالاً حياً: "لم تكن لتتوقع أن يقوم مسلم محافظ تقليدي يعيش في قرية نائية في إحدى مناطق العالم الإسلامي على الظهور على منصات مثل "تيك توك" والرقص، لكن هذا يحدث الآن".
لقد أثّر هذا النظام العالمي المتغير بشكل مباشر وعميق على واقع العالم الإسلامي، ما أدى إلى حالة من الشلل والتبعية التي سنفصلها في الجزء التالي.
محمد أسوتاي، أستاذ الاقتصاد السياسي والتمويل في الشرق الأوسط والإسلامي في كلية إدارة الأعمال بجامعة دورهام، ومدير مركز دورهام للاقتصاد والتمويل الإسلامي.
— Al Sharq Youth (@SharqYouth) December 8, 2025
انضموا إليه في مؤتمر الشرق الشبابي الدولي التاسع "تشكيل الشرق: من الرؤية إلى التأثير".
🗓️ 12 – 13 ديسمبر 2025
📍 إسطنبول،… pic.twitter.com/eSddt20DTF
تداعيات الأزمة على العالم الإسلامي: بين الشلل الاستراتيجي والتبعية الاقتصادية
ينتقل هذا المحور من مستوى التحليل العالمي إلى التشخيص الإقليمي، كاشفاً كيف انعكست التحولات البنيوية في النظام الدولي على العالم الإسلامي في صورة هشاشة مركّبة تجمع بين الارتهان الاقتصادي والعجز السياسي. يبيّن هذا القسم كيف يسهم إخضاع الفرد اقتصادياً—وفق تحليل البروفيسور محمد أسوتاي—في إنتاج بنية اجتماعية مثقلة بالمديونية وفاقدة لهوامش الفعل، وهو ما ينعكس مباشرة على المجال العام ويغذّي حالة الشلل الاستراتيجي الجماعي التي يشخّصها الدكتور عماد الدين شاهين.
في هذا السياق، لا تبدو التبعية الاقتصادية مجرد نتيجة جانبية، بل عنصراً تأسيسياً في إعادة إنتاج العجز السياسي، حيث تتغذى كل منهما على الأخرى ضمن حلقة مفرغة تُقيّد القدرة على المبادرة، وتُبقي المنطقة أسيرة استجابات دفاعية قصيرة المدى، بدل الانخراط في بناء خيارات استراتيجية مستقلة.
الشلل السياسي والاستراتيجي: غياب الفعل الموحّد
يصف الدكتور عماد الدين شاهين وضع النظام الإقليمي العربي بأنه حالة من "انعدام الفاعلية"، تتجلى في العجز المزمن عن بلورة موقف جماعي أو اتخاذ فعل استراتيجي قادر على التأثير في مسار الأحداث. وتقدّم حرب غزة مثالاً فادحاً لهذا الشلل البنيوي؛ إذ عجزت الأنظمة العربية عن تحويل هذه اللحظة المفصلية، بما تحمله من مأساة إنسانية كبرى، إلى نقطة تحوّل سياسية تعيد طرح القضية الفلسطينية بوصفها مسألة مركزية في النظام الإقليمي والدولي.
ولا يرتبط هذا العجز بعوامل ظرفية عابرة، بل يعود إلى أسباب هيكلية عميقة متراكمة، من بينها:
الانفرادية في الحلول: تسود حالة من "الانفرادية في الحلول"، حيث تسعى كل دولة إلى معالجة مشاكلها بمعزل عن الأخرى. هذا التباين في المصالح يمنع تشكّل أي موقف عربي موحّد وقوي قادر على مواجهة التحديات المشتركة.
التبعية الهيكلية: تعاني دول المنطقة من تبعية متعددة الأوجه؛ فدول ذات ثقل تاريخي وسكاني مُثقلة بالديون التي تقيّد قرارها السيادي. في المقابل، تعتمد دول أخرى، خاصة في الخليج، على الحماية العسكرية الخارجية، ما يجعلها رهينة لمصالح القوى الكبرى.
الخطر الإسرائيلي المتمدد: يؤكد الدكتور عماد الدين شاهين أن أحد أعمق مظاهر العجز في الإقليم يتمثل في تمسّك النظم العربية بنموذج الدولة القُطرية وحدود سايكس–بيكو بوصفها مسلّمات ثابتة، في وقتٍ يتعرّض فيه هذا الإطار نفسه لتحدٍّ مباشر من قبل القوى الفاعلة، وعلى رأسها إسرائيل. وفي هذا السياق، يلفت شاهين إلى الدلالة السياسية الخطيرة لتصريحات إيهود باراك التي أعلن فيها عملياً انتهاء سايكس–بيكو، وفتح المجال أمام تمدد إقليمي إسرائيلي يتجاوز فلسطين إلى محيطها المباشر.
ويرى شاهين أن هذه التصريحات لا يمكن فصلها عن الواقع القائم، إذ إن التمدد الإسرائيلي بات ملموساً ومتصاعداً، ويشمل سوريا ولبنان، مع إشارات متكررة تمسّ الأمن القومي المصري، فضلاً عن احتمالات تهديد أوسع تطال العراق وشرق المتوسط، في ظل الصراع على الغاز وموارد الطاقة، ما فيها غاز غزة. ومع ذلك، لا يقابل هذا المسار أي قدر يُذكر من التماسك العربي القادر على فرض عزلة استراتيجية على إسرائيل أو حتى حماية الحدود الوطنية للدول المجاورة.
ويشير الدكتور شاهين إلى أن هذه الحالة تعكس فشلاً مزمناً في بناء موقف عربي جماعي، كان من شأنه كسر الاستراتيجية الإسرائيلية التقليدية القائمة على عزل فلسطين عن محيطها، ثم التمدد خارجه، دون مواجهة إقليمية منسّقة. فبدلاً من أن تشكّل اللحظة الراهنة—بما تحمله من إعادة رسم فعلية للخرائط—دافعاً لإعادة التفكير في استراتيجيات الأمن القومي للدول العربية، بقيت النظم أسيرة ردود فعل تقليدية، عاجزة عن مقاربة التحدي بوصفه مسألة وجودية مشتركة.
وفي هذا الإطار، يشدّد الدكتور شاهين على ضرورة إعادة تعريف مفهوم الأمن القومي على أساس إدراك التحولات الجارية، وحماية الحدود والمجالات الحيوية، برية وبحرية، ضمن رؤية إقليمية أوسع. فغياب هذه المراجعة الاستراتيجية، في نظره، هو ما يُبقي المنطقة مكشوفة أمام مشاريع إعادة التشكيل التي تُفرض عليها من الخارج، دون قدرة حقيقية على التأثير أو المبادرة.
الإخضاع الاقتصادي والاجتماعي: صناعة "الإنسان المَدين"
على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، يوضح البروفيسور أسوتاي كيف رسّخت الرأسمالية هيمنتها عبر آلية "صناعة الإنسان المَدين". من خلال قروض الإسكان والسيارات والديون الاستهلاكية، يصبح الأفراد "تابعين للنظام المهيمن". فهم يخشون التغيير لأنه يحمل "عدم اليقين"، ويضطرون للدفاع عن "الوضع الراهن" لضمان قدرتهم على خدمة ديونهم.
داخل هذه البنية، يركز أسوتاي على آلية يعتبرها مفصلية: صناعة الإنسان المَدين عبر قروض الإسكان والاستهلاك. وفي منطقه، الدَّين لا يخلق ضائقة مالية فحسب، بل يُنتج خضوعاً للنظام المهيمن لأن الفرد يخشى عدم اليقين المصاحب للتغيير، فيتشبث بالوضع الراهن خدمةً لالتزاماته. ثم يرفع التحليل إلى مستوى ديني-أخلاقي: استعاذة النبي ﷺ من الدَّين تُقرأ هنا بوصفها تحذيراً من هيمنةٍ تنازع حرية الإنسان وتضعه داخل "هرمية" تفتت معنى التوحيد عبر "هيمنات فرعية" قد تُفقد الإنسان حريته وسيادته أمام خالقه.
ويشير أسوتاي إلى كيف نجح هذا النظام في تسليع ضروريات الحياة الأساسية التي منع الإسلام تحويلها إلى سلع خاضعة لمنطق السوق، ومنها:
الماء: الذي كان متاحاً للجميع، أصبح اليوم سلعة تُباع في زجاجات بعلامات تجارية وأسعار متفاوتة.
الأرض: تحولت من مورد مشترك إلى ملكية خاصة تخضع لمنطق السوق والمضاربة.
النار (الطاقة): أصبحت مصدراً للثروة تحتكره الشركات الكبرى بدلاً من أن تكون منفعة عامة.
والأخطر من ذلك هو احتواء البدائل. فحين ظهر مشروع "الاقتصاد الإسلامي" كبديل محتمل، سارع النظام المهيمن باحتوائه عبر تقديم تسوية: "لن نسمح لكم بإنشاء نظام بديل… لكن يمكننا أن نسمح لكم بشيء… ابتكروا التمويل الإسلامي الذي يكرر ما نفعله ولكن مع الامتثال للشريعة". وهكذا، تم تحويل المشروع إلى مجرد "تمويل إسلامي" يخدم نفس منطق النظام الرأسمالي القائم على تراكم رأس المال، بدلاً من تحقيق هدفه الأسمى المتمثل في تيسير وصول الناس إلى الموارد.
يشير البروفيسور أسوتاي إلى أن أي محاولة جادة لبناء بديل اقتصادي تصطدم مباشرة بالهيمنة القائمة. فمنذ عام 1979، ومع موجة التحرير المالي، جرى تفكيك الاقتصادات الإنتاجية لصالح اقتصاد مالي قائم على المضاربات، حيث بات توليد الثروة يعتمد على أصول وهمية، تفوق حجم الاقتصاد الحقيقي بخمسة أو ستة أضعاف. ورغم ذلك، تتسابق الدول—بما فيها دول العالم الإسلامي—للتحول إلى مراكز مالية، بدلاً من الاستثمار في الاقتصاد الإنتاجي، وهو خيار بالغ الخطورة، خصوصاً في مجتمعات تمتلك كتلة شبابية واسعة تحتاج إلى فرص عمل حقيقية.
ويقدّم المثال التركي نموذجاً على هذا التحول؛ إذ انتقلت تركيا من اقتصاد إنتاجي شبه مكتفٍ ذاتياً إلى اقتصاد مُمالٍ، ما جعلها شديدة الهشاشة أمام صدمات سعر الصرف، وأفضى إلى تراجع فرص العمل وتعميق الأزمة الاجتماعية. في هذا السياق، يُجهَض مشروع الاقتصاد الإسلامي ليس لافتقاره إلى الرؤية، بل لغياب القوة السياسية القادرة على حمايته وتفعيله.
كما يتوقف أسوتاي عند التجربة الإيرانية، التي كان يُعتقد أنها ستقدّم نموذجاً اقتصادياً بديلاً، غير أنها في الواقع استندت إلى دعم تجار البازار، الذين قبلوا بتديين المجال الاجتماعي والسياسي، لكنهم رفضوا أسلمة السوق. وبهذا، فشلت الثورة في كسر منطق السوق السائد أو تحدي بنيته العميقة.
وفي ضوء ذلك، لم يُتح للاقتصاديين المسلمين سوى هامش ضيّق للتحرك، تمثّل في تطوير ما عُرف بـ"التمويل الإسلامي"، أي إعادة إنتاج النظام المالي القائم مع بعض التعديلات الشكلية المتوافقة مع الشريعة. ورغم انتشار البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، فإنها لم تنجح في تحقيق العدالة في الوصول إلى الموارد، لأنها تعمل—في جوهرها—وفق المنطق المؤسسي ذاته للرأسمالية التراكمية، لا وفق منطق التمكين والإنصاف الذي بشّر به الاقتصاد الإسلامي.
إعادة التخيّل لحلول ممكنة
إن تشخيص الأزمة لا يُقدَّم هنا بوصفه مدخلاً لمشروع نهضوي شامل، بل باعتباره شرطاً أولياً للإجابة عن سؤال أبسط وأكثر إلحاحاً: هل ما زال هناك أمل؟ وأين يمكن أن يبدأ الفعل؟
بالرغم من قتامة هذا التشخيص، لا يطرح الخبيران تصورات كبرى أو وعوداً شاملة، بل يقدّمان مسارات عملية محدودة تنطلق من الواقع القائم، وتحاول فتح هوامش للفعل داخل شروط شديدة القسوة. ويجمع هذا القسم تلك الإجابات كما وردت، بوصفها مقترحات واقعية لتخفيف الانسداد، لا حلولاً نهائية.
يطرح البروفيسور محمد أسوتاي تصوراً للنهضة الاقتصادية لا ينتظر مبادرة من الدولة، بل ينطلق من المجتمع المدني بوصفه الفاعل القادر على كسر حلقة التبعية. ويتمثل الهدف المركزي لهذه المقاربة في تحرير الإنسان، والأرض، والبيئة، بل ورأس المال نفسه، من هيمنة الرأسمالية التراكمية، عبر تفعيل الأدوات المؤسسية الإسلامية الأصيلة ضمن إطار مجتمعي مستقل.
ومن ضمن هذه الأدوات:
الزكاة والصدقات: يؤكد أسوتاي ضرورة إبقائها ضمن فضاء المجتمع المدني، وتوجيهها نحو تمويل المشاريع المتناهية الصغر وتمكين الفئات الهشّة، مع التحذير من استحواذ الدولة عليها بوصفها "مورداً مالياً سهلاً" يُستخدم لأغراض لا تمتّ بالضرورة إلى العدالة الاجتماعية بصلة. وتُعد تجربة مؤسسة "بيت المال والتمويل" في إندونيسيا مثالاً ناجحاً.
الأوقاف (الوقف): الدعوة إلى إعادة إحيائها كمصدر مستدام لتمويل المشاريع الصغيرة والشركات الناشئة، وتحريرها من القيود البيروقراطية التي عطّلت دورها التاريخي كرافعة تنموية مستقلة.
القرض الحسن: إنشاء صناديق مجتمعية أهلية لجمع الأموال ومساعدة رواد الأعمال والمحتاجين على إطلاق مشاريعهم دون اللجوء إلى القروض الربوية.
التمويل الأصغر: التركيز على تمكين الأفراد العاديين من خلال مشاريع صغيرة ومستدامة (على غرار تجربة بنك بنغلاديش الإسلامي)، بدلاً من التركيز على البنوك التجارية الكبرى التي تخدم منطق تراكم رأس المال.
ويشدّد أسوتاي على أن الدرس الجوهري المستفاد من السيرة النبوية يتمثل في ضرورة بناء هياكل داعمة للسلوك القيمي؛ فالنبي ﷺ لم يكتفِ بتأسيس المسجد، بل أنشأ سوق المدينة بوصفه المؤسسة الثانية، إدراكاً منه أن القيم لا تصمد ما لم تجد بنى اقتصادية تحميها. والمبدأ هنا واضح: لا يمكن الحفاظ على السلوك دون هياكل مؤسسية تسنده، وإلا كانت المساومة حتمية.
ويمثّل هذا التمكين الاقتصادي المنطلق من القاعدة الشرطَ الضروري لليقظة السياسية التي يدعو إليها الدكتور عماد شاهين؛ فالمجتمع المُثقَل بالديون يفتقد القدرة على الفعل، بينما يملك المجتمع المتحرر منها قابلية أعلى للمطالبة بحقوقه السياسية والاجتماعية.
لقطات من مشاركة المناضل الفلسطيني وأحد أقدم الأسرى السياسيين في العالم نائل البرغوثي بعنوان ثمن التفرّق في مؤتمر الشرق الشبابي الدولي التاسع "تشكيل الشرق: من الرؤية إلى التأثير".
— Al Sharq Youth (@SharqYouth) December 12, 2025
Highlights from the participation of Palestinian freedom fighter and one of the world's longest-held… pic.twitter.com/U0VFQTK9Ro
اليقظة السياسية وإعادة التموضع الاستراتيجي
يرى الدكتور عماد شاهين أن اللحظة الحالية، رغم قسوتها، تحمل في طياتها بذور النهضة. فمشاعر المهانة والذل التي عمّت العالم العربي بعد حرب غزة، وما وصفه بـ "الشعور بالانتهاك"، يمكن ويجب تحويلها إلى "مشروع نهضوي جديد"، تماماً كما حدث تاريخياً بعد نكبة 1948 أو كما تشكّل الاتحاد الأوروبي من رحم دمار الحرب العالمية الثانية. هذه اليقظة يجب أن تتم على مستويين متكاملين:
- المستوى الشعبي: يجب زيادة الوعي العام وتكوين كيانات جديدة، كالمؤتمرات والملتقيات الفكرية، لبلورة رؤية واضحة ومطالب محددة للضغط على الأنظمة. الهدف هو استعادة المطالب الأساسية لثورات الربيع العربي التي لم تمت: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية".
- المستوى الرسمي: هناك ضرورة حتمية لإعادة النظر في استراتيجيات الأمن القومي لكل دولة عربية على حدة، والدفع نحو بناء "استراتيجية أمن قومي عربي جماعي". هذه الاستراتيجية ليست تهديداً للأنظمة، بل هي السبيل الوحيد لكسر التبعية وتحقيق حماية حقيقية للحدود والسيادة، وهو ما فشلت فيه استراتيجيات الاعتماد على الحماية الخارجية.
مستقبل الأمل في الشرق: من الرؤية إلى الفعل
يُظهر هذا التحليل المركّب أن إعادة التفكير في موقع الشرق ودوره لا يمكن أن تتم عبر مسار أحادي، بل تتطلب نهجاً مزدوجاً متكاملاً لا يستقيم أحد شِقَّيه دون الآخر: سيادة اقتصادية فعلية، تنبع من المجتمع المدني وتستند إلى تفعيل أدواته الأصيلة بما يحرّر الفرد من أسر المديونية والتبعية البنيوية؛ وسيادة سياسية تُبنى على وعي شعبي متراكم وضغط استراتيجي منظّم، يهدف إلى صياغة أمن قومي جماعي يعيد لدول الشرق قدرتها على الفعل المستقل ويخفف ارتهانها للخارج.
إن الفصل المصطنع بين البعدين الاقتصادي والسياسي هو أحد الأسباب الجوهرية التي أبقت المنطقة لعقود في حالة من العجز البنيوي والتبعية المزمنة، وحال دون تحوّل الوعي إلى قوة تغيير حقيقية.
وفي هذا الإطار، تفضي رؤى الخبيرين—من حيث لا تسعى إلى صياغة مشروع شامل بقدر ما تحاول فتح هوامش للفعل—إلى مقاربة تنسجم، في جوهرها، مع الأسئلة التي يطرحها مؤتمر "الشرق" حول الانتقال من تشخيص الأزمة إلى التفكير العملي في سبل التعامل معها. فالأمل، كما يتبدّى هنا، لا يقوم على وعود كبرى، بل على إدراك نقدي لطبيعة المأزق، وعلى تمكين جيل جديد من الأدوات المعرفية والعملية التي تتيح له، تدريجياً، تجاوز منطق الانتظار والارتهان، والشروع في بناء مسارات مختلفة للمستقبل.