تفاصيل أكثر: حقيقة الوضع المالي لليبيا في ظل تطمينات المصرف المركزي وواقع متوتر

عربي بوست
تم النشر: 2025/12/11 الساعة 14:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/12/11 الساعة 14:38 بتوقيت غرينتش
كيف يبدو الوضع المالي للدولة الليبية؟/ عربي بوست

مع بداية ديسمبر/كانون الأول 2025، بدا أن مصرف ليبيا المركزي يريد طمأنة الشارع بإعلان مالي حمل أرقاماً لافتة: إيرادات بلغت 22 مليار دولار، مقابل نفقات قدرها 20 مليار دولار، بفائض يقترب من 1.5 مليار. بينما كشف المصرف عن عجز في النقد الأجنبي بقيمة 7.8 مليارات دولار، قال إنه غطّاه من عوائد الاستثمارات والودائع ومحفظة السندات والذهب، مع تسجيل ارتفاع في إجمالي الأصول الأجنبية إلى نحو 99.4 مليار دولار.

للوهلة الأولى، تبدو الصورة منسجمة: ميزانية بفائض، واحتياطيات مريحة، وبيان رسمي يوحي بأن الأمور لا تزال تحت السيطرة رغم الانقسام السياسي. لكن خلف هذه الأرقام الهادئة، تتحرك ليبيا على إيقاع يومي أكثر توتراً، ازدحام أمام المصارف وأجهزة الصرّاف الآلي بحثاً عن السيولة، شكوى متزايدة من ارتفاع الأسعار، ورسائل متناقضة حول سعر الدولار في السوق الموازية.

ويظهر تقرير البنك الدولي "ليبيا الاقتصادي – ربيع 2025" ليؤكد أن الاقتصاد الليبي انكمش في 2024 بنسبة 0.6% بعد تراجع الإنتاج النفطي بنحو 6%، فيما لم يتمكن النمو غير النفطي، المدفوع بالاستهلاك لا بالإنتاج، من تعويض هذا التراجع، في مؤشر جديد على هشاشة اقتصاد يعتمد على قطاع واحد. وتتوالى تحذيرات المؤسسات الدولية من غياب ميزانية موحّدة وشفافة تُظهر الإنفاق الحقيقي، ما فيه تكاليف دعم الوقود وشبكات المقايضة بالنفط.

أمام هذا التناقض بين ورقٍ يبدو مطمئناً وواقعٍ يزداد هشاشة، تبرز أسئلة لا يمكن تجاوزها: كيف يمكن تفسير فجوة الثقة بين البيانات الرسمية وتجربة المواطن اليومية؟ وما الذي يعنيه فائض مالي في بيئة تُنفق فيها حكومتان من خزانة واحدة بلا سقف واضح؟ وهل يمكن للاستقرار الرقمي الذي تعلنه البيانات أن يصمد أمام اقتصاد يستهلك احتياطياته ويؤجل إصلاحاته عاماً بعد عام؟

الوضع المالي للدولة: مشهد معقد

ما يزيد المشهد تعقيداً أن البيانات التي ينشرها المصرف المركزي تقدم، وفق البنك الدولي وخبراء محليين، صورة غير مكتملة عن الوضع المالي للدولة، إذ تغفل نفقات جوهرية ومستحقات قائمة وتقلل من تقدير الإيرادات النفطية، بينما تستثني بالكامل إنفاق حكومة الشرق.

ويذهب مسؤولون وخبراء، مثل عضو مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي السابق مراجع غيث، إلى التشكيك في الفائض المعلن، لافتين إلى أن اعتماد الأساس النقدي وتجاهل الديون المستحقة يجعل الأرقام أقل دقة ما تبدو عليه. ويوازي ذلك تحذير من أثر الفوضى في الاعتمادات وتدفقات النقد الأجنبي، في ظل غياب أدوات نقدية فعّالة وتوسع اقتصاد التهريب، ما يربك قدرة الدولة على حماية احتياطياتها ويفاقم تقلبات السوق.

وفقاً لتقرير البنك الدولي "ليبيا الاقتصادي – ربيع 2025″، سجّل الاقتصاد الليبي انكماشاً نسبته 0.6% خلال عام 2024، متأثراً بتراجع الناتج النفطي بنحو 6%، مقابل نمو غير نفطي بلغ حوالي 7.5% مدفوعاً بالإنفاق العام والخاص. ويعكس هذا الأداء حقيقتين متوازيتين: استمرار الاعتماد الحرج على الهيدروكربونات، وعجز القطاعات غير النفطية عن امتصاص أي صدمات ما لم تُنفّذ إصلاحات هيكلية أعمق.

ولا تتوقف التحذيرات عند هذا الحد؛ فصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يشددان باستمرار على هشاشة ما يبدو أنه "استقرار"، محذرين من الاعتماد المفرط على العوائد النفطية، ومن غياب ميزانية موحدة ومتوسطة الأجل تُظهر حجم الإنفاق الحقيقي، ما فيه تكلفة دعم الوقود وترتيبات المقايضة بالنفط التي تبتلع جزءاً مهماً من الإيرادات.

النفط هو المصدر الأساسي لعائدات ليبيا المالية/ عربي بوست
النفط هو المصدر الأساسي لعائدات ليبيا المالية/ عربي بوست

أرقام متضاربة وغياب الوضوح

في بيانه المالي الصادر عن الفترة ما بين يناير/كانون الثاني ونهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2025، يعرض مصرف ليبيا المركزي هو الآخر أرقاماً تزيد المشهد وضوحاً: إيرادات بلغت 115.3 مليار دينار، مقابل نفقات قدرها 107.5 مليارات دينار، بفائض اسمي يصل إلى نحو 7.9 مليارات دينار. وفي المقابل، سجّل المصرف عجزاً في النقد الأجنبي بقيمة 7.8 مليارات دولار، قال إنه جرى تغطيته من الأصول الأجنبية التي وصل إجماليها، وفق البيان، إلى حوالي 99.4 مليار دولار.

لكن تقرير "ليبيا الاقتصادي – ربيع 2025" يوضح أن هذه البيانات، رغم انتظام نشرها، تقدم "صورة غير مكتملة" عن الوضع المالي للدولة. فهي تشمل إنفاق حكومة الوحدة الوطنية داخل الموازنة وخارجها، ما في ذلك المؤسسة الوطنية للنفط والشركة العامة للكهرباء، لكنها تقلل من حجم الإيرادات النفطية وتكلفة دعم الوقود بسبب آلية مبادلة النفط بالوقود المعمول بها منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2021.

كما تغفل، هذه البيانات المقدمة من قبل المصرف المركزي، بالكامل الإنفاق العام لحكومة الاستقرار الوطني في الشرق، وهو ما يجعل تقييم المركز المالي الحقيقي أكثر تعقيداً، ويضعف قدرة الدولة على صياغة سياسات اقتصادية فعّالة في بيئة شديدة الهشاشة.

ومن داخل التجربة، يقدم عضو مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي السابق مراجع غيث قراءة أكثر تشككاً في الفائض المعلَن، وقال إن الحديث عن فائض بقيمة 7.9 مليارات دينار "غير دقيق"، موضحاً أن جزءاً من النفقات المستحقة لم يُسجَّل بعد في البيانات، مثل مرتبات شهر نوفمبر/تشرين الثاني التي لم تُصرف بعد، وقيمتها تقارب 6 مليارات دينار، إضافة إلى علاوة الأبناء والزوجة، ومستحقات موظفين لم تُسدَّد بعد من تعيينات وتسويات درجات وعلاوات سنوية وبدلات إجازة التقاعد.

ويرى غيث وفق ما صرح به لـ"عربي بوست" أن اعتماد الأساس النقدي في المحاسبة، وتجاهل الديون المستحقة على الدولة، يجعل الصورة "أقل دقة مما تبدو عليه"، قبل أن يشير إلى "تناقض واضح بين الإعلان عن انخفاض كبير في إيرادات النفط، والإبقاء في الوقت نفسه على فائض في الموازنة، مع العلم بأن إيرادات النفط تمثل نحو 98% من موارد الدولة".

أما العجز في النقد الأجنبي، فيصفه غيث بأنه "أمر متوقع" في ظل ما يسميه "فوضى الاعتمادات"، والانقسام السياسي، وغياب أدوات السياسة النقدية التقليدية وعدم القدرة على تبني أدوات بديلة مثل التيسير الكمي لغياب سعر فائدة فعّال.

ويضيف أن الإفراط في استخدام مخصصات الأغراض الشخصية، التي تُعد أحد روافد السوق الموازية، إلى جانب التهريب والتجارة غير المشروعة، يجعل من الصعب ضبط خروج العملة الصعبة من المصرف المركزي "ما لم تتكاتف مؤسسات الدولة كافة، ويُدرك الجميع أن ما يجري هو هدر لمواردنا وضد مصلحتنا جميعا".

ورغم انتقاداته، يذكّر غيث بأن المصرف المركزي يبقى الجهة التي "عليها في النهاية تغطية أي عجز في العملة الصعبة"، لأن الاحتياطيات الأجنبية التي يديرها "ملك للدولة"، ويُفترض أن تُستخدم لسد أي عجز فعلي بعد استنفاد الوسائل الرقابية الأخرى.

لكنه يخلص إلى أن جوهر الأزمة يكمن في غياب ضوابط الإنفاق العام: فلا توجد موازنة واحدة تلتزم بها السلطة التنفيذية، والإنفاق، كما يقول، "يتم حسب الحاجة لا ضمن موازنة مدروسة، وقد يُصرف على أبواب غير موجودة أصلًا في أي موازنة"، وحذر من أن استمرار هذا النهج يعني عجزاً متزايداً، مالياً وخارجياً، في آن واحد.

وفي المحصلة، تبدو الأرقام الرسمية مطمئنة نسبياً، لكن الحفاظ على هذا "الاستقرار الرقمي" يجري عملياً عبر استنزاف تدريجي للأصول والاحتياطيات، في اقتصاد يعتمد بشكل شبه كلي على النفط وإنفاق جارٍ متضخم.

حكومتان من خزانة واحدة وإنفاق بلا سقف

على الورق، تبدو ليبيا بلداً بحكومتين متنازعتين: واحدة في الغرب وأخرى في الشرق. لكن الواقع أن كلتيهما تستندان إلى الخزانة نفسها، والمورد النفطي ذاته، والمصرف المركزي نفسه لتمويل الرواتب والدعم والمشروعات. ورغم الخطاب السياسي المتوتر، يرفع الطرفان الشعارات نفسها تقريباً:

  • الرواتب "خط أحمر".
  • دعم الوقود والسلع "حق للمواطن".
  • المشاريع التنموية "ضرورة".

لكن الحصيلة مختلفة تماماً. إذ يقول الباحث الليبي جلال حرشاوي لـ"عربي بوست" إن نقطة التحول كانت حين "أقنعت أبوظبي إدارة بايدن بأن تعيين رئيس جديد للمؤسسة الوطنية للنفط قد يرضي عائلتي الدبيبة وحفتر"، كان الاعتقاد السائد أن تسييس المورد الوحيد للثروة ربما يساعد على خلق توازن سياسي، "لكن النتيجة كانت كارثية"، على حد وصفه.

وبرغم ما تكشف لاحقاً، يقول حرشاوي إن دوائر صنع القرار في الغرب، وفي ليبيا نفسها، لا تزال متمسكة بفكرة أن منح الفصائل السياسية نفوذاً داخل المؤسسات التكنوقراطية الأساسية مثل المؤسسة الوطنية للنفط، والمصرف المركزي، والشركة العامة للكهرباء، يمكن أن يضمن السلام، لكن هذه الفلسفة، برأيه "مضللة وخطيرة".

ويضيف المتحدث أن تسييس توزيع الثروة وإضعاف استقلال المؤسسات السيادية خلق بيئة تسمح للحكومتين بالإنفاق دون أي رادع فعلي، وهو ما أدى إلى تدمير الوضع المالي لليبيا. ومع تدهور الاقتصاد، يتبادل الطرفان الاتهامات بينما يواصل الإنفاق اللامحدود استنزاف الموارد.

ويرى حرشاوي أن تقاسم الثروة بين معسكرات النخبة لا يُنتج استقراراً، بل يُنتج اختلالاً جديداً في ميزان القوى: "الطرف الأكثر نفوذًا سيستأثر بالثروة، فتبدو البلاد مستقرة شكليًا، لكنها تكون محكومة بانهيار مؤجل قد يتحول إلى صراع جديد".

ويخلص الحرشاوي في تصريحه لـ"عربي بوست" إلى أن محاولات "شراء السلام" عبر ترتيبات اقتصادية غير رسمية، بلا شفافية ولا سقوف للإنفاق، قادت منذ 2022 إلى نتائج كارثية. ويؤكد أن الأولوية اليوم يجب أن تكون "استعادة حياد المؤسسات التكنوقراطية، وتشكيل حكومة موحدة تعمل وفق ميزانية شفافة وواقعية"، معتبراً أن استمرار نهج الحكومتين "انتحار مالي للدولة".

رئيس حكومة طرابلس الدبيبة يرفض محاولات تشكيل حكومة جديدة/ الأناضول
رئيس حكومة طرابلس الدبيبة يرفض محاولات تشكيل حكومة جديدة/ الأناضول

من يدفع ثمن هذا الوضع؟

العبء الأكبر لا تتحمله الحكومات ولا الجماعات المسلحة، بل المواطن نفسه:

  • تآكل مستمر في القوة الشرائية مع كل انخفاض جديد في قيمة الدينار؛
  • ارتفاع تدريجي في أسعار السلع الأساسية بسبب ضغوط الاستيراد والدعم؛
  • نقص في الخدمات العامة نتيجة توجيه الجزء الأكبر من الموارد إلى الرواتب والدعم ومشروعات ذات طابع سياسي؛
  • ضياع فرص عمل حقيقية في ظل اقتصاد يعتمد على التوظيف الحكومي والاقتصاد غير الرسمي.

وفي أماكن أخرى، خصوصاً في الجنوب والمناطق البعيدة عن المركز، تزداد الأزمة بفعل اضطرابات إمدادات الوقود، وتبقى طوابير المصارف والصرافات واحدة من أبرز رموز الانقسام والفشل في الشرق والغرب معاً.

ما الحد الأدنى الممكن قبل الارتطام؟

لا توجد صيغة واحدة تصلح لكل شيء، لكن خبراء كثر يتفقون على حد أدنى من الخطوات العاجلة. ويذكّر البنك الدولي، في تقرير خاص بعنوان "إعادة تعريف دور الشركات المملوكة للدولة في ليبيا"، بأن الدولة لا تسيطر على النفط فحسب، بل تدير شبكة تضم نحو 190 شركة تتوزع على قطاعات استراتيجية ومنافسة، من الطاقة والمالية إلى النقل والمرافق والسياحة.

هذا الانتشار الضخم يخلق مخاطر مالية كبيرة، ويعمّق اختلالات الكفاءة وتعقيدات السوق، ما يجعل أي إصلاح جدي للإنفاق العام مرهوناً أيضاً بمراجعة دور هذه الكيانات وحدودها.

  1. شفافية وموازنة موحدة: نشر مسار أموال النفط من المؤسسة الوطنية إلى المصرف الخارجي ثم المصرف المركزي، والإعلان عن حجم الدين العام في الشرق والغرب، واعتماد ميزانية وطنية واحدة تُظهر كل الإنفاق، ما في ذلك كلفة دعم الوقود وترتيبات المقايضة، مع إخضاع صناديق الإعمار والإنفاق خارج الموازنة لرقابة مستقلة.
  2. إصلاح الدعم والرواتب وتفكيك اقتصاد التهريب: تجميد التوظيف السياسي في القطاع العام، ومراجعة الازدواج الوظيفي، وإعادة تصميم منظومة الدعم بحيث تصل للفئات المستحقة بدل تمويل شبكات التهريب، مع إطلاق حزمة متكاملة لمواجهة اقتصاد الوقود غير المشروع تشمل إصلاح التراخيص وعمليات التحقيق والملاحقة.
  3. تفاهم سياسي يحمي المؤسسات: لا يمكن لأي سياسة مالية أو نقدية أن تنجح في ظل انقسام سياسي. تجاوز مرحلة "إدارة الأزمة" يتطلب اتفاقاً على قواعد مشتركة: من يقرّر الإنفاق؟ من يراقب؟ من يحاسب؟ وكيف تُحمى المؤسسات السيادية من التحول إلى أدوات صراع؟

لماذا لم تعد الأزمة مفاجئة؟

الأزمة التي تقترب منها ليبيا اليوم لم تعد حدثاً عابراً، بل نتيجة مسار طويل من الإغلاقات النفطية، والإنفاق الموازي، وتسييس المؤسسات السيادية، وترك منظومة الدعم تتحول إلى رافعة لاقتصاد التهريب والعلاقات الزبائنية.

وعلى امتداد أكثر من عقد، جرى استخدام المال العام لإدارة الانقسام بدل معالجته، ولشراء الوقت بدل بناء أسس الاستقرار الحقيقي. وفي كل مرة كانت الأرقام تبدو "متماسكة" على الورق، كان الثمن يُدفع في مكان آخر: في تآكل قيمة الدينار، وتمدد اقتصاد الظل، وانهيار ثقة المواطنين في قدرتهم على العيش في اقتصاد منضبط.

اليوم، لم يعد النقاش حول فائض هنا أو عجز هناك، ولا حول رقم في بيان مصرفي أو تقرير دولي؛ بل حول نموذج إدارة كامل. استمرار المسار الحالي يعني تعميق الاعتماد على النفط وتوسيع رقعة الإنفاق غير المنضبط، ورفع كلفة أي إصلاح مستقبلي على المجتمع. أما تغيير هذا المسار فيبدأ بالاعتراف بأن "الاستقرار" الذي يجري شراؤه عبر تأجيل القرارات الصعبة ليس استقراراً حقيقياً، بل هدنة مالية مؤقتة.

وما بات واضحاً، في ضوء الأرقام وشهادات الخبراء، هو أن الاقتصاد الليبي لم يعد يحتمل مزيداً من إدارة الانقسام بأموال عامة تُنفق دون سقف واضح أو رواية شفافة. الحساب لم يُلغَ، بل تأجّل، وكل تأجيل جديد لا يغير النتيجة، بل يرفع فقط كلفتها الاجتماعية والاقتصادية على الليبيين جميعاً.

تحميل المزيد