أعلنت مصر الأسبوع الماضي فتح مفيض توشكى لتصريف المياه الزائدة خلف السد العالي، واتهمت إثيوبيا بأن "إجراءاتها الأحادية غير المنضبطة" في تشغيل سد النهضة اضطرتها إلى هذا الإجراء. يأتي ذلك وسط تحذيرات من تكرار غرق أراضي طرح النهر وتأثر زراعة الشتاء، واحتمال اختفاء مئات الجزر النيلية مع ارتفاع المناسيب.
سياق أوسع: أديس أبابا افتتحت السد رسميًا في سبتمبر 2025، فيما تقدمت القاهرة بشكوى إلى مجلس الأمن ضد "التصرفات الأحادية" وتداعياتها على مجرى النيل.
ما تقوله مصادرنا
قال مصدر مصري مطلع، إن وصول الفيضانات إلى مصر أو حدوث ارتفاعات غير طبيعية في مناسيب مياه النيل يتطلب تصريف المياه الزائدة عبر ثلاث وسائل وهي فتح مفيض توشكى أو استثمارها في مشاريع توشكى الزراعية أو إطلاقها في نهر النيل واستيعابها في الترع وأيضاً توجيهها نحو الأراضي الزراعية، وأن وزارة الري في مرات عديدة سابقة كانت ترى بأن الكميات الزائدة لا تستدعي فتح مفيض توشكى وأنه يمكن استيعابها.
وأضاف أن وزارة الري عملت خلال الشهرين الماضيين على محاولة الاستفادة من زيادة منسوب مياه النيل عبر فتح قناطر "ادفينا" على البحر المتوسط، وإطلاق عملية تسمى بغسيل النهر والاستفادة منها للزراعة لكن هذه المرة بدا هناك سلوك عدائي نتيجة اضطراب عمليات تصريف المياه من سد النهضة وهو ما من شأنه التأثير على كفاءة السد العالي، وتطلب الاتجاه إجراءات أكثر فعالية تتمثل في فتح مفيض توشكى.
وأوضح أن الحديث عن السد العالي وقدرته على استيعاب الفيضانات يحمل شقاً استراتيجياً لمصر ويبقى الهدف الرئيسي أن يظل السد يعمل بكفاءة وهناك قياسات تتم عليه بشكل مستمر لكي لا يكون هناك أي تسريبات للمياه ويتم إزاحة المياه الزائده بشكل دوري سواء في موسم الفيضان أو في أي وقت، وذلك للحفاظ على عمره الافتراضي والذي يصل إلى 500 عاماً. وأشار المصدر ذاته إلى أن السد العالي يعد صمام أمام لشبكة المجاري المائية، وقامت وزارة الري خلال السنوات الأخيرة بعملية إحلال وتجديد لجميع القناطر على نهر النيل لكي تصبح قادرة على استقبال المياه، وأن تتحمل ضغوط المياه الكثيفة وغير المتوقعة وبينها قناطر إسنا بمحافظة قنا وقناطر أسيوط الجديدة و قناطر الدلتا وقناطر زفتى وهي تعد جزءاً من صمام أمن المياه.
وكشف المصدر عن قيام وزارة الري في شهر سبتمبر الماضي بفتح مفيض توشكى لكن دون إعلان رسمي وذلك تحسباً لوصول فيضانات مع فتح إثيوبيا بوابات سد النهضة بشكل مفاجئ وهو ما استهدف أيضاً في ذلك الحين حماية السد العالي، كما أن القاهرة كان لديها مخاوف بشأن غرق محاصيل الأرز والذرة وعملت على حمايتها، لكن عملية فتح المفيض في ذلك الحين تأخرت ولم تكن مبكراً ما أدى إلى غرق 1000 فدان في محافظتي البحيرة وبدت إدارة الأزمة غير متماشية مع أخطار الفيضان وهو ما كان مثار انتقادات عديدة في ذلك الحين.
ما تقوله "الري" رسميًا
فتحت وزارة الموارد المائية والري مفيض توشكى لتصريف جزء من المياه الزائدة الواردة من السد الإثيوبي، التي نتجت عن تصرفات أحادية وغير منضبطة من مشغل السد. وأكدت الوزارة أن المنظومة المائية المصرية تعمل بكفاءة عالية وتحت سيطرة كاملة، مشددة على أن السد العالي يظل خط الدفاع الرئيسي لمصر في مواجهة أي تقلبات.
وكانت وزارة الري المصرية قد أكدت أن التصرفات الإثيوبية المتتابعة تعكس غياب الضوابط الفنية والعلمية في تشغيل سد النهضة، مؤكدة أن استمرار النهج العشوائي في إدارة منشأة بهذا الحجم على نهر دولي، يُعرّض مجرى نهر النيل لتقلبات غير مأمونة التأثير، ويُجدد التأكيد على خطورة استمرار الإدارة الأحادية للسد وما تمثله من تهديد لحقوق ومصالح دولتي المصب.
وقالت الوزارة إن هذه التصرفات تؤثر على تشغيل السدود الواقعة خلف السد الإثيوبي مباشرة، التي تضطر لاتخاذ إجراءات تحفظية لاستيعاب هذه التغيرات المفاجئة وضمان التشغيل الآمن لتلك السدود.
روايات إضافية من الميدان
وقال مصدر مطلع آخر، إن ما تعرضت له مصر قبل شهر تقريباً حينما غرقت أراضي زراعية لم يحدث منذ 55 عاماً ولم تكن إدارة الأزمة على المستوى المطلوب وهو ما فاقم من الخسائر وبالتالي فإن الإجراءات الحالية استباقية بالأساس، بخاصة بعد أن وجدت جهات حكومية أن صورة السد العالي باعتباره قادراً على التعامل مع أي زيادة في معدلات المياه قد اهتزت وطرح ذلك تساؤلات عديدة حول دوره في التعامل مع مفاجآت إثيوبيا، وترتب على ذلك وجود رقابة آنية من الجانب المصري على موقف سد النهضة واستراتيجيات تشغيله المبهمة.
وأضاف أن مزراعي توشكى استفادوا من فتح المفيض مع وصول المياه إلى زراعتهم، وأن وزارة الري هذه المرة سعت لأن تقلص من وتيرة الاتهامات إليها مع ضعف إجراءات مواجهة التعديات على أراضي طرح النهر والتوغل على نهر النيل وهو ما قاد لغرق عشرات المنازل بخاصة وأن بعض هذه المنازل بعقود إيجارية منحتها وزارة الري للمزارعين وكان من المفترض أن تفسخ هذه العقود مع تدخل الحكومة لتوفير أماكن بديلة لهم. وتُعرف أراضي "طرح النهر" بأنها أراضٍ منخفضة، تقع ضمن حرم النهر، وتكون عرضة للغمر مع زيادة التصرفات المائية.
ولفت المصدر إلى أن التقديرات الحكومية تشير إلى أن الفيضانات الحقيقة لم تبدأ بعد وما حدث في مطلع أكتوبر قابل للتكرار بكميات أكبر خلال الأيام المقبلة وأن مياه النيل القوية تحتاج إلى 15 يومًا لتصل من إثيوبيا إلى مصر، وبالتالي فإن إجراءات إثيوبيا الأخيرة لتصريف المياه يمكن أن تصل تأثيراتها إلى مصر خلال عشرة أيام على الأكثر.
وحذر من اختفاء 144 جزيرة في نهر النيل وهي معرضة للغرق من بينها جزيرة الزمالك، وجزيرة الوراق، وجزيرة الدهب في الجيزة، بالإضافة إلى جزيرة فيلة السياحية بأسوان، الأمر الذي تطلب إجراءات احترازية سريعة، مشيراً إلى أن تدخل وزارة الري جاء بعد ارتفاع منسوب بحيرة ناصر إلى 182 مترًا، مما استدعى فتح مفيض توشكى لتصريف المياه الزائدة، كما أن هذه الإجراءات جاءت لحماية السد العالي الذي تصل قمته إلى 192 م فوق سطح البحر.
وبحسب الوزارة: عقب انتهاء ما يدعى بالافتتاح، قام يوم 10 سبتمبر 2025 بتصريف كميات كبيرة من المياه بلغت نحو 485 مليون م3، تلتها زيادات مفاجئة وغير منتظمة وصلت إلى 780 مليون م3 في 27 سبتمبر 2025… انخفض المنسوب بما يقارب مترًا واحدًا (≈2 مليار م³)… ثم 380 مليون م³ في 30 سبتمبر… في 8 أكتوبر خُفِّض التصريف إلى 139 مليون م³/يوم ثم استقر بمتوسط 160 مليون م³/يوم حتى 20 أكتوبر… وفي 21 أكتوبر زادت التصريفات إلى 300 مليون م³/يوم… وبمتوسط 180 مليون م³/يوم من 1 إلى 20 نوفمبر بزيادة 80% عن المتوسط التاريخي.
وكان من المتوقَّع – بحسب الوزارة – وفقًا لآليات إدارة وتشغيل السدود، خفض منسوب المياه في بحيرة السد تدريجيًا من 640 مترًا إلى نحو 625 مترًا بنهاية العام المائي، وهو نطاق التشغيل الطبيعي للسد، إلا أن ذلك لم يحدث، فقد تم الإسراع في غلق مفيض الطوارئ في 8 أكتوبر 2025، مما أدى الى خفض التصريفات الخارجة في ذلك اليوم إلى حوالي 139 مليون متر مكعب، ثم استقرت بمتوسط 160 مليون متر مكعب يوميًا حتى 20 أكتوبر 2025، بما يعنى تشغيل نحو 50% فقط من التوربينات المتاحة.
ويُعد هذا الأسلوب في التشغيل غير منضبط هيدرولوجيًا، إذ يتم خفض التصريف لزيادة التخزين ورفع المنسوب، ثم إعادة تصريف المياه لاحقًا بشكل مفاجئ وبكميات تفوق الحاجة الفعلية، بدلًا من تصريفها تدريجيًا كما تقتضي القواعد الفنية السليمة، ويعكس هذا النمط غياب خطة تشغيل علمية مستقرة أو رؤية واضحة لإدارة السد.
وارتفع منسوب المياه داخل بحيرة السد الإثيوبي مرة أخرى ليقترب من منسوب 640 متراً، وفي يوم 21 أكتوبر 2025 لوحِظ زيادة مفاجئة في التصريفات لتصل إلى نحو 300 مليون متر مكعب في اليوم، ثم أُغلق مفيض الطوارئ للمرة الثانية يوم 31 أكتوبر 2025، وبلغ متوسط المنصرف خلال الفترة من 1 إلى 20 نوفمبر 2025 نحو 180 مليون متر مكعب يوميًا، بزيادة تقارب 80% عن المتوسط التاريخي لنفس الفترة، ما يؤكد استمرار التقلبات الحادة في التصرفات المائية على مجرى النيل الأزرق.
تقديرات فنية عن السعات والأزمنة
وقال خبير دولي في مجال المياه إن مصر اتخذت إجراءات حاسمة لضمان استدامة الموارد المائية… الإجراءات الحالية ليست بعيدة عن احتمالات عديدة بينها انهيار السد علمًا أنه يمتلئ بـ74 مليار م³، ومنسوبه يصل إلى 150 مترًا أعلى سطح التربة… وتستغرق مياه هذا السد 12–14 يومًا للوصول إلى بحيرة ناصر… مفيض توشكى يستوعب حتى 120 مليار م³ لكن يحدّه التصريف من بحيرة ناصر إلى المفيض بنحو 330 مليون م³/يوم… والتصرف اليومي للسد العالي 250 مليون م³/يوم ومفيض الطوارئ 200 مليون م³/يوم… وتُدرس بوابات أوتوماتيكية بدلاً من السد الترابي الفاصل بين البحيرة والمفيض.
- وظيفة مفيض توشكى تاريخيًا: قناة تربط بحيرة ناصر بمنخفض توشكى لتصريف الفائض وحماية السد ومنشآت أسفل النهر—وهو ما تؤكده المراجع الهندسية/التاريخية.
- منسوب/سعات السد العالي/بحيرة ناصر: الأدبيات الفنية تُظهر مناسيب تشغيل وسعات تخزينية قصوى مع اختلافات بين المصادر؛ كمرجع عام: ارتفاع بحيرة ناصر الأقصى ~183 م، وسعة التخزين الكلية ~132 كم³.
- زمن انتقال موجة التصريف من أعالي النيل الأزرق إلى أسوان يتراوح عادة بين نحو أسبوعين تبعًا للظروف الهيدرولوجية—وارد في دراسات ميدانية/أكاديمية على النيل الأزرق وتفرعاته.
خلفية سياسية وقانونية
لا يزال التوتر قائمًا بعد افتتاح السد؛ مصر خاطبت مجلس الأمن محذّرة من "الإدارة الأحادية"، فيما ترد إثيوبيا باتهام القاهرة بعرقلة التسوية. افتتاح سبتمبر 2025 وثّقته كبريات الوكالات والصحف.
لماذا يهم؟
- استقرار المنسوب خلف السد العالي يرتبط بسلامة البنية التحتية وأسفل النهر. فتح مفيض توشكى هو صمام أمان لتخفيف الضغط على البحيرة عندما تحدث تقلبات حادة في الوارد من النهضة.
- تقلبات تشغيل GERD (فتح/غلق مفاجئ لمفيض الطوارئ وتغيّر التصريف) تنتقل آثارها بعد أيام إلى بحيرة ناصر والترع، ما يبرر إجراءات استباقية لحماية أراضي طرح النهر وزراعات الشتاء.