جبهة صراع جديدة في ليبيا: لماذا يرفض الشرق “الهيئة العليا للرئاسات” التي أعلنتها طرابلس؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/11/26 الساعة 15:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/11/26 الساعة 15:30 بتوقيت غرينتش
أزمة جديدة في ليبيا بعد إعلان تشكيل "الهيئة العليا للرئاسات"/ عربي بوست

جبهة صراع جديدة فُتحت في ليبيا التي تعيش على وقع انقسام وأزمات مستمرة منذ أكثر من عشر سنوات، ولم تمر أكثر من 48 ساعة حتى تحول الإعلان عن "الهيئة العليا للرئاسات" في طرابلس من خطوة وُصفت بأنها تنسيقية بين المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية والمجلس الأعلى للدولة، إلى عنوان جديد لصراع الشرعية في ليبيا.

الرئاسات الثلاث في الغرب قدّمت الهيئة كـ"إطار تنسيقي يشكّل السلطة السيادية العليا للبلاد" بهدف توحيد القرار في الملفات الاستراتيجية، بينما اعتبرت الحكومة المكلّفة من مجلس النواب في بنغازي أن ما جرى "عمل معدوم دستورياً وقانونياً" يهدد وحدة الدولة ويعطل المسار الانتخابي، ولوحت بخيار الحكم الذاتي في الشرق إذا استمر هذا المسار.

خلف هذا الصراع السياسي والتراشق بين الشرق والغرب لا تبدو "الهيئة العليا للرئاسات" مجرد خلاف شكلي حول صلاحيات مؤسسات متنازعة، بقدر ما يعكس صراعاً على السلطة والتفرد بها بالتحكم في القرار السياسي والمالي والعسكري، وهو ما نستعرضه في هذا التقرير من خلال التطرق إلى خلفيات إعلان الهيئة العليا للرئاسات في ليبيا، ودور الفاعلين داخلياً وخارجياً، ولماذا أثارت أزمة سياسية جديدة في ليبيا؟

ما الذي أعلنته حكومة الوحدة، وما الذي رفضته حكومة البرلمان؟

بيان الرئاسات الثلاث في طرابلس الذي صدر عن طرابلس كان مقتضباً بالنظر إلى كونها "سلطة سيادية"، واكتفى بتقديم شروح مقتضبة، إذ أعلن الهيئة تضم المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية والمجلس الأعلى للدولة، وتعمل كـ"سلطة سيادية عليا" لتنسيق القرار في السياسة والاقتصاد والأمن، وتطوير "منهجية مشتركة لصنع القرار".

وشدد البيان على أن الخطوة "لا تستحدث أي كيان إضافي ولا تفرض أعباء هيكلية جديدة"، في محاولة من قبل المشرفين على إعلان هذه الهيئة الجديدة نفي تهمة خلق جسم سياسي جديد يزيد مشهد الأجسام تعقيداً.

في المقابل ركّز بيان الحكومة المكلّفة في بنغازي، الذي جاء رداً على إعلان ميلاد الهيئة العليا للرئاسات، على نقطتين أساسيتين:

  • من الناحية الدستورية، الإعلان الدستوري يحصر استحداث الأجسام التشريعية والتنفيذية في مجلس النواب بوصفه السلطة التشريعية المنتخبة. وعليه، فإن تشكيل هيئة تعرف نفسها بأنها "سلطة سيادية عليا" من خارج البرلمان هو "انتهاك صريح" لاختصاصاته.
  • من الناحية السياسية، ربط البيان بين هذه الخطوة وبين "تهديد وحدة الدولة وتعطيل المسار الانتخابي"، محذراً من أن استمرار التأخير في إنجاز الانتخابات "سيجعل خيار المطالبة بالحكم الذاتي مطروحاً بشكل واضح وعاجل" في إقليم برقة.

لتتحول بذلك "الهيئة العليا للرئاسات" وفي أقل من 48 ساعة من عنوان لتنسيق القرار في الغرب، إلى نقطة اشتباك جديدة في صراع الشرعية والتنافس السياسي والعسكري بين الشرق والغرب.

"الهيئة العليا للرئاسات" وصراع الشرعية

يرى خبير القانون الدستوري الدكتور الهادي بوحمرة أن النقاش حول الهيئة العليا للرئاسات لا يمكن حصره في سؤال، هل هي قانونية أم لا؟ بل يجب أن يوضع في إطار أوسع، هو المسار التأسيسي للدولة الليبية ومفهوم "السلطة التأسيسية" بحد ذاته.

بوحمرة أكد في تصريح مكتوب لـ"عربي بوست" أن الحالة الليبية "لا تحتمل أي حل بديل عن الاستفتاء الشعبي على مشروع الدستور"، وأن أي محاولة لتجاوز هذا الاستحقاق، سواء عبر لجان خبراء أو مجالس رئاسات أو وثائق مبادئ أو دساتير انتقالية، هي في جوهرها "محاولة لإعادة توزيع الشرعية خارج مصدرها الأصلي: الشعب، ونقل السلطة التأسيسية إلى مؤسسات سياسية قائمة أو إلى إرادة دولية أو إلى شبكات نفوذ محلية".

من هذا المنظور، يضيف المتحدث، يصبح الاستفتاء على مشروع الدستور امتحاناً سياسياً وأخلاقياً أكثر منه إجراءً فنياً: إما أن تعترف الدولة بأن الشعب ما زال هو مصدر السلطات، أو تنقل عملياً هذه السلطة إلى البرلمان أو الحكومات أو البعثة الأممية.

بوحمرة حذر من أن البدائل المتكاثرة، ومن ضمنها إنشاء هيئات جديدة تحت مسميات مختلفة تؤدي إلى خلق طبقات متراكمة من الأجسام الانتقالية، وتحويل الاستثناء إلى قاعدة دائمة، وتفريغ مفهوم الشرعية من محتواه الشعبي، عبر إقصاء الناس عن لحظة القرار التأسيسي.

وخلص الخبير في القانون الدستوري إلى أن الهيئة العليا للرئاسات، في نظره، جزء من نمط متكرر "إدارة الانقسام والمرحلة الانتقالية عبر ترتيبات فوقية، بدل حسم المسار التأسيسي بالعودة إلى الشعب".

رئيس حكومة الوحدة في ليبيا عبد الحميد الدبيبة/ رويترز
رئيس حكومة الوحدة في ليبيا عبد الحميد الدبيبة/ رويترز

ما المخاطر التي يحملها مشروع "هيئة الرئاسات"؟

من زاوية قانونية أخرى، يقدم أستاذ القانون العام المساعد بالأكاديمية الليبية للدراسات العليا مجدي الشبعاني قراءة أقل حدة في توصيف الهيئة العليا للرئاسات، لكن لا تقل تحذيراً من مخاطر "تناسُل الهياكل" في غياب قاعدة دستورية واضحة.

الشبعاني يرى أنه من الناحية الدستورية البحتة يمكن النظر إلى الهيئة بوصفها إطاراً تنسيقياً داخلياً، ما دامت لا تستحدث ولاية جديدة، ولا تمنح نفسها مهاماً تشريعية أو تنفيذية إضافية خارج ما هو منصوص للأجسام الثلاثة. في هذه الحدود، يمكن للهيئة، يقول الشبعاني، أن تصنف ضمن "آليات تنظيم العمل داخل البنية التنفيذية والسياسية التي أسسها الاتفاق السياسي".

لكن النقطة الفاصلة عنده هي: هل تتحول هذه الهيئة إلى سلطة مستقلة؟ إن ادعت لنفسها صفة "المرجعية السيادية" التي تتجاوز سلطات البرلمان أو تعيد تعريف شكل السلطة في البلاد، فإنها عندئذ تحتاج إلى تشريع صريح من مجلس النواب، وإلا دخلت في منطقة رمادية تثير إشكالات دستورية حقيقية.

أما وصف حكومة الشرق للخطوة بأنها "منعدمة دستورياً"، فيراه الشبعاني توصيفاً يغلب عليه الطابع السياسي أكثر من القانوني؛ لأن الحديث عن "الانعدام" يفترض وجود إطار دستوري موحد يحتكم إليه الجميع، وهو غير متحقق في ظل الانقسام الحالي وتعدد مصادر الشرعية (الإعلان الدستوري – الاتفاق السياسي – ترتيبات الأمر الواقع).

مع ذلك، لا يخفف الشبعاني من خطورة النمط السياسي الذي تكرسه هذه الخطوة؛ إذ يحذر من أن استمرار استحداث أطر وهياكل جديدة ما دام ضاق الهامش الدستوري، قد يراكم الأجسام ويطيل أمد المرحلة الانتقالية، ويضعف ثقة المواطنين في أي مسارات سياسية لاحقة، ما يهدد في النهاية وحدة الدولة عبر تكريس ازدواجية المؤسسات وتعدد مراكز القرار.

ما الذي نفهمه من وراء هذه المبادرة؟

من داخل المنطقة الشرقية، يربط أستاذ القانون العام راقي المسماري بين إعلان الهيئة العليا للرئاسات وبين حراك موازٍ في الشرق والجنوب يدعو إلى "حلول ليبية محلية" خارج الإطار الذي تصاغ فيه معظم المبادرات السياسية في طرابلس.

المسماري يرى أن الإعلان عن الهيئة العليا للرئاسات "لا يخرج من دائرة الاحتراب السياسي المستمر منذ سنوات، وهو في جوهره رد فعل على ما تم طرحه في الشرق والجنوب من مقترحات ورؤى قدمها نخب وأعيان ومشايخ ونشطاء، تطالب بحل ليبي–محلي ينهي حالة التشرذم والانقسام".

من هذه الزاوية، يفسر حدة رد حكومة أسامة حماد، موضحاً أن تهديدها بالذهاب نحو الحكم الذاتي قائلاً إنه "لا يأتي من فراغ، بل يعبر عن واقع يجري تكريسه على الأرض، وقامت الولايات المتحدة بتأطيره مؤخراً عبر رعايتها لاتفاق البرلمان والمجلس الأعلى للدولة حول اقتسام مخصصات الباب الثالث من الميزانية العامة".

في هذه القراءة، لا ينظر إلى الاتفاق المالي إلا كنوع من تقاسم فعلي للموارد بين مراكز نفوذ، في سياق انقسام جغرافي–سياسي، ما يجعل خطاب الحكم الذاتي في الشرق أقرب إلى توصيف لواقع يتشكل، لا مجرد ورقة ضغط عابرة.

وبذلك، تبدو "الهيئة العليا للرئاسات" في عين جزء من نخب الشرق بمثابة "خطوة تحاول تثبيت مركز قرار سيادي في طرابلس"، في مقابل حراك شرقي–جنوبي يتحدث عن حلول محلية وحكم ذاتي وتقاسم للثروة، تحت عين دولية ترعى أحياناً بعض تفاصيل هذه المعادلات المالية والسياسية.

البعد الدولي وتحركات حفتر.. كيف يقرأ المشهد؟

عند ربط "الهيئة العليا للرئاسات" بتحركات الأطراف المحلية والإقليمية، يقدم المحلل السياسي فرج فركاش قراءة تعتبر أن ما يجري جزء من إعادة ترتيب لموازين القوة داخل الانقسام نفسه.

فركاش يشير في تصريحه لـ"عربي بوست" إلى سلسلة تحركات لخليفة حفتر في الأسابيع الأخيرة، من ضمنها:

  • لقاءات مع شيوخ وأعيان من الزاوية وسوق الجمعة والساحل الغربي،
  • تعزيز نفوذ أبنائه في مواقع عسكرية واقتصادية حساسة،
  • انفتاح متزامن على عواصم متباينة مثل موسكو وأنقرة.

هذه التحركات، برأيه، تعكس محاولة من حفتر لإعادة تقديم نفسه كـ"عنوان محتمل للاستقرار" أو كطرف لا يمكن تجاوزه في أي تسوية، حتى في مناطق كانت في قلب المواجهة معه خلال حرب طرابلس.

على خط موازٍ، يأتي الاتفاق المالي بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة حول برنامج إنفاق موحد بدعم أمريكي، ليطرح سؤالاً إضافياً، هل نحن أمام خطوة لتوحيد المؤسسات، أم أمام آلية جديدة لإدارة الانقسام وتقاسم الموارد، ما دام أن الحكومتين والتشكيلات المسلحة ما تزال قائمة؟

خليفة حفتر/ رويترز
خليفة حفتر/ رويترز

في خلفية التطورات الأخيرة التي تشهدها ليبيا والتي مهدت للإعلان عن "الهيئة العليا للرئاسات"، تتحرك عواصم إقليمية ودولية وفق حسابات متشابكة:

  • تركيا تحاول الحفاظ على شراكتها مع حكومة الدبيبة، مع فتح قنوات مع الشرق وحفتر لأسباب اقتصادية وأمنية.
  • مصر ترى في عقيلة صالح وحفتر واجهتها السياسية والأمنية في الشرق، ولا ترغب في ترتيبات تضعف نفوذ هذا المعسكر.
  • الإمارات تركز على الصفقات الاقتصادية وعلى دور صدام حفتر في إعادة الإعمار ومشاريع الطاقة، مع انفتاح على تفاهمات مع الدبيبة.
  • الولايات المتحدة توازن بين هاجس الاستقرار النفطي ومواجهة الحضور الروسي، وتبدو مهتمة بأي صيغة تعيد ترتيب القوى الأمنية والعسكرية دون انفجار شامل.
  • روسيا ترى في الشرق الليبي منصة لتعزيز حضورها في أفريقيا، وتسعى لشريك محلي يضمن لها موطئ قدم دائم.

في هذا السياق، يعتبر فركاش "الهيئة العليا للرئاسات" بمثابة "محاولة من معسكر طرابلس لتقديم عنوان سياسي موحد في مواجهة تحركات حفتر والاتفاقات المالية والأمنية التي قد تطبخ من خارج العاصمة، أكثر من كونها خطوة داخلية صرفة لتجاوز الانقسام".

أما البعثة الأممية، فيبدو أنها تتحرك وسط تضارب مصالح أطراف محلية وإقليمية ودولية، ما يجعلها عاجزة عن فرض خارطة طريق حاسمة، ويدفعها أحياناً للتعامل مع أي "عنوان جديد" يظهر في المشهد، سواء كان حكومة أو مجلساً أو هيئة للرئاسات.

الخلاصة ومستقبل "الهيئة العليا للرئاسات"

ما تكشفه قراءة هذه المداخلات مجتمعة أن الجدل حول "الهيئة العليا للرئاسات" ليس خلافاً تقنياً على آلية تنسيق، بل هو انعكاس لأزمة تأسيسية مؤجلة منذ سنوات، حيث يصر الهادي بوحمرة على أن الاستفتاء على الدستور هو الاختبار الوحيد لاعتراف الدولة بالشعب كمصدر للسلطات.

وهي أيضاً تعبير عن مأزق قانوني–مؤسسي، كما يشرح مجدي الشبعاني، بين تنسيق مشروع داخل الاتفاق السياسي وبين استحداث سلطة جديدة تفتقر إلى سند تشريعي واضح.

وتجسيد لهواجس الشرق من إعادة إنتاج مركزية القرار في طرابلس دون ضمانات حقيقية لتقاسم السلطة والثروة، كما يوضح راقي المسماري في حديثه عن الحكم الذاتي واتفاق الباب الثالث. وجزء من لعبة أوسع لإعادة ترتيب النفوذ بين حفتر ومعسكرات الغرب والفاعلين الإقليميين والدوليين، كما يقرأها فرج فركاش.

أمام هذه الصورة المركبة، يظل السؤال مفتوحاً، هل يمكن لمثل هذه "الهيئة" أن تكون خطوة في مسار توحيد القرار وإعادة بناء الشرعية على أساس دستوري واضح؟ أم أنها حلقة جديدة في سلسلة ترتيبات فوقية تبقي ليبيا في دائرة الانقسام، مع اختلاف توزيع الأدوار فقط؟

الإجابة في النهاية تبدو مرتبطة بقدرة الفاعلين الليبيين، وبضغط حقيقي من الرأي العام، على إعادة وصل أي ترتيبات سياسية قادمة بالمسار التأسيسي الذي يقوم على: دستور يستفتى عليه، وسلطة تنتخب على أساسه، ومرحلة انتقالية تنهي نفسها بنفسها، بدل أن تتحول إلى بنية دائمة تعاد هندستها كل مرة تحت مسمى جديد.

تحميل المزيد