تشهد العاصمة المالية باماكو أزمة كبيرة في ظل اشتباكات متكررة بين قوات الجيش المالي وعناصر تابعة لتنظيم القاعدة، على إثر حصار فرضه عناصر التنظيم المسلح على إمدادات الوقود إلى العاصمة، ما أصابها بحالة من الشلل شبه التام.
وبحسب محللين أمنيين نقلت عنهم وكالة رويترز، فإن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) الموالية لتنظيم القاعدة، تنشط منذ أشهر في مناطق تبعد نحو خمسين كيلومتراً فقط عن باماكو، لكنها لا تمتلك في الوقت الراهن القدرة على اقتحام العاصمة. وهو ما يتفق عليه أيضاً الدكتور محمد سنغاري، الأكاديمي في جامعة إفريقيا الفرنسية العربية الأهلية في باماكو، الذي قال في تصريحات خاصة لعربي بوست إن الجماعة لن تستطيع أن تستولي على الحكم في مالي بسبب عدم توفر الإمكانيات العسكرية لديها.
في هذا التقرير نرصد بالتفاصيل حجم الاشتباكات بين الجيش المالي وتنظيم القاعدة ومصير كل منهما، في ظل الحديث عن اقتراب عناصر التنظيم من العاصمة باماكو، كما نحاور أحد الباحثين المعروفين في مالي والمطلعين على التفاصيل.
ماذا يحدث في مالي؟
منذ مطلع سبتمبر/أيلول 2025، تواجه مالي أزمة وقود خانقة غير مسبوقة أصابت شوارع العاصمة باماكو ومدنًا رئيسية أخرى بالشلل شبه التام. ووفقًا لتقارير إذاعة فرنسا الدولية، فإن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة فرضت حصارًا على طرق الإمداد الرئيسية، مستهدفة صهاريج الوقود وشاحنات النقل، ما أدى إلى تفاقم النقص رغم محاولات الجيش تأمين بعض القوافل.
ولم تعد الأزمة مقتصرة على المناطق الداخلية فحسب، إذ وصلت تداعياتها إلى قلب العاصمة خلال الأسبوع الماضي. وأفادت تقارير بأن عددًا محدودًا فقط من محطات الوقود ما زال يعمل، ويمكن تمييزها من خلال الطوابير الطويلة التي تمتد لكيلومترات.
وحسب تقرير لوكالة رويترز، فإن ستة محللين أمنيين ودبلوماسيين يرون أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تهدف على الأرجح إلى إثارة انقلاب جديد سيكون الثالث في مالي منذ عام 2020. ومن شأن مثل هذا الانقلاب أن يسمح للجماعة بجمع المزيد من الأسلحة والأموال. وعلى المدى الطويل، تسعى الجماعة إلى التفاوض إما مع الحكومة الحالية أو مع إدارة ما بعد الانقلاب، مما يمثل نقطة تحول في سعيها للحصول على الشرعية السياسية، حسب مذكرة صادرة عن شركة كونترول ريسكس.
وحذّرت المذكرة من أن خطر انهيار النظام، سواء من خلال انقلاب أو شكل آخر من أشكال الأزمة السياسية، سيكون مرتفعًا للغاية خلال الأسابيع المقبلة، مع ممارسة نصرة الإسلام والمسلمين ضغوطًا غير مسبوقة على الحكومة. وفي أوائل سبتمبر، ذكرت الجماعة في بيان بشأن الحصار أن هدفها هو اللصوص الذين يتقلدون السلطة والذين تتهمهم باضطهاد شعب مالي، خاصة خارج العاصمة. ولم ترد وزارة الاتصالات في مالي على طلب للتعليق.
اعتقالات وتحولات في مالي
وبالعودة إلى الوراء قليلاً، فقد شهدت مالي في العاشر من أغسطس 2025 تطورًا سياسيًا وأمنيًا بارزًا، بعد إعلان السلطات اعتقال ما لا يقل عن عشرين عسكريًا بتهمة التآمر للإطاحة بالمجلس العسكري الحاكم، الذي استولى على السلطة عبر انقلاب أغسطس 2020. وجاءت هذه الاعتقالات وسط تصاعد الغضب داخل المؤسسة العسكرية واستمرار حالة الاضطراب التي تعصف بالبلاد منذ خمس سنوات.
يقول الدكتور محمد سنغاري، الأكاديمي في جامعة إفريقيا الفرنسية العربية الأهلية في العاصمة المالية باماكو، في تصريحات خاصة لعربي بوست، إن السلطات العسكرية قامت قبل أشهر بحلّ الأحزاب السياسية، وباتت الدولة تحت إدارة الجيش حاليًا، ولم يعد هناك أي وجود لأي حركة أو حزب سياسي. وبطبيعة الحال، يقوم الجيش باعتقالات ضد من يصفهم بأنهم يحاولون الانقلاب عليه، كما حدث في أغسطس الماضي.
ويشير إلى أن المشهد الأمني والسياسي في مالي يمرّ بمرحلة معقدة تشهد صراعًا مفتوحًا بين الجيش وتنظيم القاعدة، الذي يتنقل بين بوركينا فاسو والنيجر ومالي، وسط إجراءات غير مسبوقة للسيطرة على الوضع الميداني.
وتناول سنغاري الوضع السياسي الداخلي في مالي قائلاً إن البلاد لا تعرف أي حياة سياسية حقيقية في الوقت الراهن، موضحًا أنه بعد الانقلاب العسكري الأخير، تمّ حلّ جميع الأحزاب السياسية قبل نحو أربعة أشهر، وبالتالي لم يعد هناك أي نشاط سياسي أو رموز سياسية فاعلة في الساحة.
وأضاف أن هذا القرار أدى إلى غياب تام للمعارضة أو للنقاش السياسي داخل مالي، مؤكدًا أن المجلس العسكري الحاكم هو الجهة الوحيدة التي تتخذ القرارات وتوجّه البلاد، بينما لم تعد للسياسيين مواقف رسمية ولا دور في المشهد العام بعد حلّ أحزابهم بالكامل.
وبخصوص مظاهر التحولات داخل مالي في الفترة الماضية، فهي كالتالي:
أولا: تمديد ولاية أسيمي غويتا
في الرابع من يوليو 2025، اتخذت مالي خطوة سياسية مثيرة للجدل حين وافق المجلس الوطني الانتقالي على تمديد ولاية الزعيم العسكري أسيمي غويتا لفترة جديدة مدتها خمس سنوات قابلة للتجديد، دون إجراء انتخابات عامة. هذا القرار منح غويتا سلطة البقاء في الحكم حتى عام 2030 على الأقل، ليكرّس بذلك مرحلة من الحكم العسكري الممتد.
ثانيا: تنامي الهجمات المسلحة
على الصعيد الأمني، تصاعدت الهجمات المسلحة في مالي خلال منتصف عام 2025 بوتيرة لافتة، في مؤشر على تراجع قدرة الجيش على مواجهة التنظيمات المتطرفة. ففي أوائل يوليو، أعلنت القيادة العسكرية عن سلسلة من الهجمات المتزامنة التي استهدفت سبعة مواقع عسكرية في غرب البلاد قرب الحدود مع السنغال، شملت مدن نيورو وسانداري وجوجوي وديبولي، ونُفذت بتكتيكات عالية الدقة. ولم تمضِ أسابيع حتى تعرضت قاعدتا تمبكتو وبولكيسي لهجومين عنيفين أوديا بحياة ما لا يقل عن ستين جندياً، وأديا إلى خطف عدد آخر من العسكريين.
ثالثا: تزايد العنف الانفصالي في الشمال
تصاعدت حدة المواجهات بين المجلس العسكري والحركات الطوارقية المسلحة منذ مطلع عام 2024، إثر قرار باماكو إلغاء اتفاق الجزائر للسلام الموقّع عام 2015، والذي كان يمثل آخر تسوية سياسية في شمال البلاد. أدى هذا القرار إلى تجدد الصراع، حيث أعادت "تنسيقية الحركات الوطنية الأزوادية" تنظيم صفوفها ونشرت حواجز على الطرق الرئيسية في الشمال، قبل الدخول في اشتباكات متفرقة مع الجيش المالي.
في يونيو 2024، شهدت بلدة أبايبرا ومحيطها مجازر دامية أسفرت عن مقتل أكثر من سبعين مدنياً من الطوارق، وحمّلت منظمات حقوقية المسؤولية للقوات المسلحة المالية ومجموعة فاغنر الروسية. وفي يوليو من العام ذاته، شن مقاتلو الطوارق هجوماً واسعاً على قافلة تابعة لفاغنر قرب تنزاواتين على الحدود الجزائرية، ما زاد من التوتر مع الجزائر. ورداً على ذلك، أسقطت الجزائر طائرة مسيرة مالية في مارس 2025، مما أدى إلى أزمة دبلوماسية انتهت بسحب السفراء.
مع نهاية عام 2024، أعلنت فصائل طوارقية عدة عن اندماجها تحت مسمى "جبهة تحرير أزواد"، مما أكد الطابع الانفصالي للحركة. وفي يونيو 2025، نفذت الجبهة كميناً كبيراً ضد قافلة عسكرية تضم قوات مالية وعناصر من الفيلق الإفريقي الروسي قرب أنومالان شمال كيدال، مما أسفر عن خسائر بشرية ومادية فادحة.
رابعا: أزمة الفيلق الإفريقي في مالي
في مطلع يونيو 2025، شهدت مالي تحولاً جديداً في شكل الحضور العسكري الروسي، مع انتقال الدعم من مجموعة فاغنر إلى ما يُعرف بـ "الفيلق الإفريقي"، وهو تشكيل عسكري يخضع مباشرة لوزارة الدفاع الروسية. جاء هذا التغيير عقب تمرد يفغيني بريغوجين ووفاته في حادث الطائرة عام 2023، وما تبعه من تفكيك لبنية فاغنر وإعادة هيكلتها.
ورغم أن الفيلق الجديد أكثر انضباطاً من سلفه من حيث الطابع الرسمي، فإن الأداء الميداني الروسي تراجع بصورة واضحة، سواء على مستوى الدعم اللوجستي أو القتالي أو التدريب، بالمقارنة مع مرحلة فاغنر التي كانت قد بنت شبكات محلية واسعة في مالي. وقد انعكس هذا التراجع سلباً على أداء القوات المالية في الميدان.
من هي جماعة نصرة الإسلام والمسلمين؟
ظلت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين خلال السنوات الأخيرة المحرك الرئيس لتصاعد الهجمات الجهادية في منطقة الساحل الغربي لإفريقيا، لا سيما في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وتشكّلت الجماعة في مارس 2017 كائتلاف يضم خمس مجموعات كانت مستقلة سابقًا، من أبرزها أنصار الدين وكتيبة ماسينا والمرابطون وفرع القاعدة في المغرب الإسلامي، تحت قيادة إياد أغ غالي وأمادو كوفا.
ينتمي إياد أغ غالي إلى الطوارق، وكان قائدًا سابقًا لانتفاضة عام 2012، بينما يرتبط أمادو كوفا بشبكات الفولاني. هذا التحالف منح التنظيم تماسكًا هيكليًا واستراتيجية بعيدة المدى تعتمد على الجمع بين الخبرة العسكرية والمعرفة الاجتماعية بالمجتمعات المحلية.
نشاط الجماعة
بدأت الجماعة نشاطها في وسط وشمال مالي ثم وسعت نطاق عملياتها بسرعة لتشمل بوركينا فاسو والنيجر، ووصلت هجماتها أحيانًا إلى دول ساحلية مثل بنين وتوغو وساحل العاج. وفي يوليو 2025 أعلنت الجماعة عن تنفيذ هجوم منسق استهدف سبعة مواقع عسكرية في غرب مالي قرب حدود السنغال وموريتانيا. تلت ذلك هجمات متتابعة ضد قواعد عسكرية وخطوط إمداد رئيسية، ما يعكس انتقالها من حرب العصابات الريفية إلى عمليات أكثر تنظيمًا وذات أثر استراتيجي مباشر يهدد المدن والطرق الحيوية.
نجحت الجماعة في تنويع مصادر تمويلها بشكل كبير، وهو ما مكّنها من الاستمرار والتوسع رغم الضغط العسكري. وتشمل أبرز مصادر تمويلها ما يلي:
* السيطرة على مناجم الذهب الصغيرة وفرض رسوم حماية أو اقتطاع نسبة من الإنتاج.
* سرقة الماشية بشكل منظم لتأمين دخل مباشر يؤثر اقتصاديًا واجتماعيًا.
* عمليات الاختطاف مقابل فدية، التي أصبحت أداة للتمويل والسيطرة على المجتمعات في آن واحد.
* الابتزاز وغسل الأموال من خلال استثمارات جزئية في أنشطة مدنية وشراء ولاءات محلية.
أساليب القتال
طورت الجماعة أساليبها القتالية بشكل ملحوظ، إذ تستخدم الكمائن والعبوات الناسفة والهجمات المباشرة على القواعد العسكرية، إلى جانب استغلال شبكات محلية لجمع المعلومات والتجنيد.
كما تفيد تقارير ميدانية بأن الجماعة بدأت تستخدم وسائل اتصال حديثة مثل أنظمة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية وأحيانًا طائرات مسيّرة للمراقبة، ما يزيد من فعالية قيادتها الميدانية ويعقّد جهود مكافحتها.
ساهم تصاعد الهجمات في إضعاف ثقة المواطنين بالمؤسسات المدنية، وكان من العوامل التي مهدت لموجة الانقلابات في دول الساحل: مالي في عامي 2020 و2021، بوركينا فاسو في 2022، والنيجر في 2023.
ولا تقتصر قوة الجماعة على سلاحها فقط، بل تمتد إلى نفوذها الاجتماعي والدعوي. فهي تفرض قواعد دينية صارمة في المناطق التي تسيطر عليها، مثل فرض الزي الإسلامي ومنع الموسيقى وإقامة محاكم شرعية بديلة عن القضاء الرسمي. وكثير من السكان، خاصة في المناطق المهمشة، يتعاملون مع هذه المحاكم باعتبارها وسيلة أسرع وأقل فسادًا لحل النزاعات، ما يمنح الجماعة شرعية ضمنية في بعض المناطق. ويشير باحثون إلى أن هذا القبول الجزئي يرتبط أساسًا بغياب الدولة وخدماتها الأساسية.
القاعدة تحاصر الوقود
قال الدكتور محمد سنغاري، الأكاديمي في جامعة إفريقيا الفرنسية العربية بالعاصمة المالية باماكو والباحث المتخصص في قضايا الساحل الإفريقي والشؤون الإفريقية، إن الجيش المالي اتخذ خلال الأسابيع الماضية إجراءات مشددة لإحكام الوضع الأمني، كان أبرزها منع وصول الوقود إلى القرى والمناطق الريفية والنائية. وأوضح أن الهدف من هذا القرار هو منع سيطرة قوات تنظيم القاعدة على الوقود واستخدامه في تنقلاتها وتحركاتها داخل البلاد، مؤكّدًا أن الجيش يسعى بهذه الخطوة إلى خنق التنظيم اقتصادياً ولوجستياً.
وأضاف أن تنظيم القاعدة ردّ على هذه الخطوة بفرض حصار مضاد، من خلال اعتراض شاحنات الوقود التي تتجه نحو العاصمة باماكو ومنعها من المرور، موضحًا أن التنظيم قام بمحاصرة حركة عربات الوقود كردّ فعل مباشر على سياسة الجيش، ما أدّى إلى أزمة وقود خانقة داخل البلاد، خصوصاً في العاصمة وعدد من المدن الكبرى.
وأشار سنغاري إلى أنّ عناصر التنظيم أصبحوا يخرجون من أماكن اختبائهم في المناطق الجبلية أو الريفية، وينفذون هجمات مفاجئة على الطرق التي تمرّ منها الشاحنات، فيقومون بإيقافها ثم يحرقونها لإحداث حالة من الرعب والفوضى بين السكان، مضيفًا أن ما إن تصل قوات الجيش إلى مكان الحادث حتى يختفي المسلحون مجددًا ويذوبون بين السكان المحليين.
ثغرات حدودية وتمويل غامض
وحول سيطرة التنظيم على الحدود المالية، أوضح سنغاري أنّ تنظيم القاعدة لا يسيطر على الحدود بشكل كامل، لكنه يستفيد من ثغرات في بعض المنافذ الحدودية التي يتسرّب منها المقاتلون والدعم البشري القادم من دول الجوار، مشيرًا إلى أن هذه الثغرات تمثل تحديًا كبيرًا للجيش المالي الذي لا يستطيع إحكام السيطرة الكاملة على حدود البلاد الممتدة.
وقال سنغاري إنّ الدعم المالي واللوجستي للتنظيم يأتي أيضًا من خارج الحدود عبر شبكات عابرة للدول، لكنه شدّد على أنّ مصدر هذا التمويل لا يزال غامضًا حتى الآن. وأضاف أن تنظيم القاعدة في الساحل تنظيم معقّد عابر للحدود يمتلك تمويلًا ماليًا ضخمًا وعتادًا عسكريًا كبيرًا، لكن لا يوجد مصدر واضح أو معلن لهذه الأموال أو الأسلحة حتى اليوم، ولا أحد يستطيع تحديدها بدقة.

وأشار إلى أنّ هناك اتهامات متداولة في الأوساط المالية تتحدث عن تورط أطراف خارجية في دعم التنظيم، قائلاً إنّ الاتهامات توجَّه بين الحين والآخر إلى فرنسا أو الجزائر أو بعض الدول التي بينها وبين مالي خلافات سياسية، بأنها قد تكون متورطة في تمويل أو دعم بعض الفصائل المتشددة، لكن حتى الآن تبقى هذه الاتهامات بلا أدلة دامغة.
التجنيد في الريف وإغراءات المال
تحدث سنغاري عن أساليب تجنيد التنظيم لعناصره داخل البلاد، مؤكدًا أنه لا توجد إحصاءات دقيقة حول أعداد مقاتلي القاعدة في مالي، لكن يُقدّر عددهم بالمئات. وأوضح أن هؤلاء المقاتلين يتنقلون بحرية نسبية بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، مستفيدين من الطبيعة الجغرافية الصعبة ومن ضعف السيطرة الأمنية على الحدود.
وقال إن التنظيم يعتمد بشكل رئيسي على تجنيد الشباب الفقير في المناطق الريفية والقروية من خلال إغراءات مالية ضخمة، مشيرًا إلى أن كثيرًا من هؤلاء الشباب يتركون أعمالهم الزراعية والمشاريع الصغيرة في القرى وينضمون إلى التنظيم بسبب الإغراءات المالية. وأضاف أن الوضع المعيشي الصعب في الأرياف يجعل من هؤلاء الشباب صيدًا سهلًا للتنظيم، الذي يستغل حاجتهم للمال في كسب ولائهم.
النفوذ الروسي بعد خروج فرنسا
أوضح الدكتور محمد سنغاري، الأكاديمي في جامعة إفريقيا الفرنسية العربية في باماكو، أن خروج فرنسا من مالي شكّل نقطة تحول حاسمة في مسار الصراع الدائر داخل البلاد. فبعد انسحاب القوات الفرنسية، دخلت روسيا إلى المشهد المالي عبر ما يُعرف بـ"الفيلق الإفريقي"، الذي يضم وحدات عسكرية روسية تتولى تدريب الجيش المالي وتزويده بالأسلحة والمعدات الحديثة.
وأضاف سنغاري أن هذا الوجود الروسي منح الجيش المالي دفعة جديدة وقوة ميدانية ملموسة في مواجهة الجماعات المسلحة، حيث يشارك الفيلق الإفريقي بشكل مباشر في المعارك ضد تنظيم القاعدة داخل الأراضي المالية. وأشار إلى أن التعاون العسكري بين باماكو وموسكو غيّر موازين القوى على الأرض، إلا أن التنظيم ما زال يعتمد على أسلوب حرب العصابات الذي يرهق الجيش ويستنزف موارده، رغم تفوقه في العدد والتسليح.
حرب العصابات تستهلك الجيش
وتحدث سنغاري عن طبيعة المعارك الدائرة بين الجيش المالي وتنظيم القاعدة، موضحًا أنها ليست حربًا تقليدية بين جيشين، بل مواجهة غير متكافئة تعتمد على الكرّ والفرّ. وقال إنه لو كانت الحرب نظامية، لتمكّن الجيش من حسمها سريعًا بفضل الدعم الروسي الكبير، لكنّ أسلوب القاعدة المعتمد على الضرب السريع والاختفاء والاندماج وسط المدنيين يجعل المعركة طويلة وشاقة.
وبيّن أن الجيش اضطر إلى تعديل تكتيكاته الميدانية للتعامل مع هذه التحديات، فأصبح يرافق صهاريج الوقود بآليات مدرعة، ويستخدم الطائرات المروحية لمراقبة الطرق وتأمين خطوط الإمداد الممتدة من الحدود حتى العاصمة باماكو. وأشار إلى أن الجيش بات ينظّم قوافل عسكرية كبيرة ترافق عربات الوقود لحمايتها من هجمات المسلحين، في محاولة للحفاظ على تدفق الإمدادات الحيوية إلى العاصمة.
لا خطر مباشر على العاصمة
وفي تقييمه للوضع الأمني، استبعد سنغاري أن يتمكن تنظيم القاعدة من السيطرة على العاصمة باماكو، واعتبر ذلك احتمالًا غير واقعي ومبالغًا فيه. وأوضح أن عمليات التنظيم تقتصر على هجمات محدودة تستهدف الطرق الرئيسة وشاحنات الوقود في مناطق نائية، باستخدام أسلحة خفيفة ومدافع محمولة، دون أن يمتلك أي قاعدة ثابتة أو منطقة جغرافية محددة يسيطر عليها.
وأكد أن الجيش ما يزال يمسك بزمام الأمور في العاصمة والمدن الكبرى، رغم التحديات الميدانية المتزايدة. واختتم سنغاري بالقول إن مالي تخوض حربًا طويلة ومعقدة ضد "عدو غير مرئي"، وأن طبيعة حرب العصابات التي تتبناها القاعدة تجعل من الصعب تحقيق نصر سريع، رغم الدعم الروسي المتزايد، مشددًا على أن البلاد تمر بمرحلة حرجة عنوانها الأبرز غياب الأمن وغياب السياسة في آن واحد.