تهديدات اقتصادية وتحركات للوبيّات نافذة.. هكذا ضغطت أمريكا على الرئيس اللبناني لفتح باب المفاوضات مع إسرائيل

عربي بوست
تم النشر: 2025/10/18 الساعة 15:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/10/18 الساعة 15:05 بتوقيت غرينتش
اجتماع الحكومة اللبنانية/ رويترز

يواجه الرئيس اللبناني جوزيف عون واحدةً من أعقد مراحل ولايته، بسبب الضغوط الهائلة التي يتعرض لها من جهات خارجية وداخلية أيضاً، ما كان وراء إعلانه استعداده الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، وهي خطوة تأتي تتويجاً لمسار طويل من الضغوط السياسية والاقتصادية التي تحيط بلبنان منذ أشهر.

مصادر "عربي بوست" كشفت كيف أن جهات أمريكية فاعلة، مدفوعة من مجموعات ضغط إسرائيلية ولبنانية أيضاً معارضة لحزب الله، تحاول منذ أسابيع فرض جدول عمل جديد على لبنان، وجميعها تدور حول عنوان واحد: "سلاح حزب الله، وما يمثله من عقدة أمام أي استقرار أو تسوية في جنوب لبنان".

من خلال هذا التقرير سنتعرف على طبيعة الضغوط التي تعرض لها جوزيف عون، ومن يقف وراءها، إضافة إلى الرسائل الأمريكية التي تلقاها الرئيس اللبناني ورئيس وزرائه، وحملت في طياتها تهديدات، وكيف حشرت تلك الضغوط المسؤولين في بيروت في الزاوية، وجعلتهم يتحركون في مساحة ضيقة.

تهديدات أمريكية وتلويح بسلاح العقوبات

يشير مصدر حكومي لبناني رفيع لـ"عربي بوست"، فضّل عدم ذكر اسمه، إلى أن دوائر أمريكية فاعلة، مدفوعة من مجموعات ضغط إسرائيلية ولبنانية، تحاول منذ أسابيع فرض جدول عمل جديد على لبنان.

ويوضح المصدر أن تلك المجموعات، وبينها شخصيات لبنانية محسوبة على تيارات معارضة لحزب الله، تنشط في الكونغرس ومراكز الأبحاث الأمريكية الكبرى، مقدّمةً رواية مفادها أن الدولة اللبنانية باتت "رهينة للحزب"، وأن أي دعم مالي أو سياسي لا بد أن يُربط بخطوات ملموسة نحو نزع السلاح.

ويقول المصدر إن بعض هؤلاء المقيمين في واشنطن "يلعبون دور الوسيط بين اللوبي الإسرائيلي والإدارة الأمريكية، مقدّمين أنفسهم كواجهة لبنانية إصلاحية جاهزة لمرحلة ما بعد السلاح"، على حد تعبيره.

ووفقاً للمصدر نفسه، بدأت واشنطن بالفعل في إرسال إشارات تحذيرية إلى بيروت، عبر قنوات دبلوماسية وعسكرية، تفيد بأن استمرار الغموض في ملف حزب الله سيقود إلى "إهمال تام" للبنان على المستويين المالي والسياسي.

التحذيرات لم تبقَ في إطار الكلام، بل رافقها تلويح واضح من بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي بإعادة تقييم المساعدات العسكرية للجيش اللبناني، وإبطاء المفاوضات مع صندوق النقد، إضافة إلى تقارير عن تحرّك داخل الإدارة الأمريكية لفرض عقوبات جديدة على شخصيات سياسية ومالية لبنانية متهمة بـ"تغطية نفوذ الحزب".

واشنطن ترفض وقف الاعتداءات الإسرائيلية

في الجنوب، يواصل الطيران الإسرائيلي ضرباته، متدرجاً من استهداف مواقع عسكرية للحزب إلى منشآت مدنية في الجنوب والبقاع، تشمل مراكز إعمار ومعامل لصناعة مواد بناء وآليات بلدية، في سياسة تبدو مقصودة لإبقاء الجنوب في حالة شلل اقتصادي كامل.

ووفق المصدر الحكومي الذي تحدث لـ"عربي بوست"، فإن بيروت ربطت منذ البداية أي مسار تفاوضي بوقف هذه الاعتداءات، لكن واشنطن رفضت هذا الربط، معتبرةً أن "وقف النار يجب أن يكون نتيجة للمفاوضات، لا شرطاً لها".

ويكشف المصدر أن الرسالة التي نقلها الأمريكيون مؤخراً إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة نواف سلام كانت حادّة، وهي: "قوموا بواجباتكم"، وهي عبارة تكررت في أكثر من اتصال رسمي، في إشارة إلى ضرورة أن تبدأ الدولة اللبنانية خطوات فعلية لضبط السلاح وتطبيق القرار 1701، وسحب سلاح الحزب وسلاح الفصائل الفلسطينية في مخيمات لبنان، والضغط لوقف أي نشاط لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في الجغرافيا اللبنانية.

كما أنه داخل واشنطن، لا يتوقف نشاط مجموعات ضغط إسرائيلية ولبنانية. وتشير مصادر دبلوماسية لـ"عربي بوست" إلى تزايد اللقاءات غير الرسمية بين ممثلين عن جماعات ضغط لبنانية ومسؤولين في لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس، يطرحون خلالها تصوّرات لـ"اتفاق سلام اقتصادي وأمني بين لبنان وإسرائيل"، مقابل رفع تدريجي للعقوبات.

وتشير المعلومات إلى أن من بين هذه الجماعات أفراداً لبنانيين مقرّبين من شركات استشارات سياسية تموّلها جهات أمريكية–إسرائيلية، تروّج لخطط إعادة إعمار الجنوب بإشراف دولي بعد نزع سلاح الحزب، في إطار شبيه باتفاق 17 أيار عام 1983.

ووفق المصدر، فإن هذه التحركات، كما يصفها، "تُضيق الخناق على لبنان الدولة، وتدفعه إلى البحث عن توازن جديد، يحمي شرعيته الدولية من جهة، ولا يصطدم كلياً مع حزب الله من جهة أخرى".

عون بين الحصار والخيارات الصعبة

يؤكد المصدر الحكومي أن رئيسي الجمهورية والحكومة باتا مدركين أنهما يتحركان في مساحة ضيقة؛ فالدعم الغربي المشروط، والانقسام الداخلي، والإرهاق العام من الحرب، كلها عوامل دفعت بهما إلى إعلان الانفتاح على المفاوضات غير المباشرة كخيار سياسي اضطراري أكثر منه قناعة مبدئية.

ويراهن عون وسلام على لحظة إقليمية جديدة، بعدما أدركا أن الحروب المفتوحة انتهت من دون منتصر، وأن التفاوض – ولو تحت النار – بات الطريق الوحيد الممكن لوقف الانهيار الكامل، وفق ما أوضحه مصدر "عربي بوست".

وأضاف أن المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل ليست جديدة، وكان لبنان قد خاضها بترسيم الحدود البحرية التي أُنجزت عام 2022 كمثال ناجح للتفاوض غير المباشر، إذ أثبتت أن الوساطة الأمريكية – برغم كل ثغراتها – يمكن أن تحمي لبنان إذا أُحسن توظيفها.

لكنّ الفارق هذه المرة أن الموضوع يتجاوز الغاز والبحر، ويمسّ البنية الأمنية والسيادية للبلاد، وهو ما يجعل أي خطوة محفوفة بالمخاطر السياسية والطائفية معاً، وخاصة في ظل عدم وضوح موقف حزب الله والمكوّن الشيعي في البلاد.

كيف تُنسّق الرئاسات الثلاث لمواجهة الضغط

في الأيام الماضية، عُقدت سلسلة لقاءات داخلية هدفت إلى تنسيق الموقف الرسمي قبل أي مفاوضات محتملة، وأهمها لقاء في القصر الرئاسي في بعبدا جمع رئيس الجمهورية جوزيف عون برئيس الحكومة نواف سلام، تناول – وفق معلومات "عربي بوست" – كل الإشكاليات المتصلة بالمفاوضات المحتملة، من شكل الوفد إلى الإشراف الدولي، واتُّفق على مراقبة المواقف الخارجية قبل اتخاذ أي خطوة عملية.

أما رئيس مجلس النواب نبيه بري، فيبدو أكثر استعداداً للمضي في مسار "حصر السلاح بالتفاهم لا بالمواجهة"، إذ أبلغ بري سلام أن تسليم السلاح يجري "بصمت مطبق"، في إشارة إلى مسار تدريجي داخل بيئة الحزب نفسها لتخفيف وجوده العسكري العلني في عدد من المناطق. وكان موقع "عربي بوست" قد كشف منذ أيام عن خطوات تجري في هذا الإطار.

المفارقة أن هذا التقاطع بين الرئاسات الثلاث، على الرغم من خلافاتها السياسية العميقة، شكّل مفاجأة للأطراف الإقليمية.

فعون وسلام وبري يبدو أنهم متفقون على أن التفاوض غير المباشر هو أقل الشرور، وأنه يمنح لبنان وقتاً ثميناً قبل أي مواجهة أكبر، وخاصة في ظل رسائل كانت قد وصلت إلى لبنان خلال مرحلة التفاوض بين حماس وإسرائيل في شرم الشيخ، مفادها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يسعى لإقناع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأهمية شن حرب جديدة واسعة على لبنان لتجريد حزب الله من سلاحه بالقوة.

إسرائيل تسعى لفرض واقع جديد

على الميدان، تسعى إسرائيل إلى فرض واقع جديد من خلال "منطقة عازلة بالنار"، كما يسمّيها ضباط في الجيش اللبناني؛ فالقصف الإسرائيلي المستمر على عمق 5 كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية يهدف إلى تفريغ المنطقة من السكان وإبقائها تحت مراقبة عسكرية دائمة، عبر طائرات مسيّرة ورشاشات تلقائية على الحدود.

وفي موازاة التصعيد الميداني، تواصل إسرائيل تمرير رسائل عبر الوسطاء الغربيين، مفادها أن أي انسحاب محتمل من النقاط المحتلة مرهون ببدء المفاوضات، لا العكس.

رغم هذا الواقع القاتم، ترى الرئاسة اللبنانية في المناخ الدولي الحالي فرصة نادرة؛ فواشنطن، رغم تشددها، تحتاج إلى نجاح سياسي في المنطقة بعد الهدنة الهشة في غزة، فيما تبدو أوروبا متعطشة لأي استقرار في شرق المتوسط.

وتقول المصادر الحكومية إن الرئيس عون تلقى إشارات ارتياح من باريس والرياض ودول عربية وأوروبية حيال مبادرته، وتفهماً واضحاً لخياره "التفاوضي الواقعي". حتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفق هذه المصادر، أشاد في لقاء خاص مع وفد أمريكي لبناني بموقف عون "المتزن والمطابق لروح التسويات الجديدة في الشرق الأوسط".

ووفق المصدر، فإن عون ينطلق في موقفه من أن سوريا، برئاسة الرئيس أحمد الشرع، بدأت مفاوضات ونقاشات مباشرة مع إسرائيل لتأمين اتفاق أمني سوري–إسرائيلي، برعاية أمريكية–فرنسية وغطاء تركي، يُحصّن استقرار سوريا، وأن الحالة اللبنانية ليست بعيدة عن هذا الإطار.

صراع على تعريف السيادة في لبنان

لكنّ في العمق، يتجاوز النقاش السياسي حدود التكتيك إلى سؤال جوهري: ما تعريف السيادة في لبنان اليوم؟ إذ يرى خصوم عون أن أي مفاوضات، حتى لو كانت غير مباشرة، تشكّل اعترافاً ضمنياً بإسرائيل، وتفتح الباب أمام تنازلات لاحقة في ملفات أخرى، كاللاجئين والغاز. في المقابل، يعتبر مؤيدوه أن التفاوض لا يعني التطبيع، وأن "الدولة التي تنهار تحت العقوبات ليست سيادية أكثر من تلك التي تتفاوض لإنقاذ نفسها".

من هذا المنطلق، يرى المحلل السياسي اللبناني ربيع دندشلي أن إعلان الرئيس جوزيف عون الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل لا يمكن فصله عن "المناخ الضاغط الذي يتعرض له لبنان من الخارج والداخل معاً".

وبحسب دندشلي، ما يجري ليس قراراً سيادياً صرفاً، بقدر ما هو استجابة ذكية لضغط هائل تمارسه دوائر أمريكية وإسرائيلية، تتعامل مع ملف سلاح حزب الله كمدخل إلزامي لأي استقرار أو دعم اقتصادي للبنان.

كما أن عون يحاول من خلال هذا المسار أن يلتقط لحظة سياسية دولية تميل إلى التسويات لا الحروب، وأن يقدم نموذجاً جديداً للحفاظ على الحد الأدنى من التوازن بين الدولة والحزب، وبين الواقعية السياسية والسيادة الوطنية، يضيف دندشلي.

وتابع موضحاً أن لبنان يدرك أن المفاوضات غير المباشرة قد لا تُفضي سريعاً إلى نتائج ملموسة، لكنها تمنح لبنان فرصة لتخفيف الضغط الخارجي، وإعادة إدخال الجيش في صلب المشهد التفاوضي، بما يعيد الاعتبار للمؤسسات الرسمية كمحاور وحيد باسم الدولة.

ويختم بالقول إن لبنان يراهن على عامل الوقت، وعلى أن تُدرك واشنطن أن فرض تسوية على لبنان من خارج توازنه الداخلي سيؤدي إلى انفجار جديد، بينما التفاوض المحسوب يمنح الجميع مخرجاً مشرفاً من أزمة السلاح والحرب معاً.

تحميل المزيد