نزع قرار السفارة البريطانية في القاهرة بإعادة فتح أبوابها، فتيل أزمة دبلوماسية كانت في طريقها نحو التصعيد بين مصر والمملكة المتحدة، وذلك بعد يومين من إغلاقها إثر قرار حكومي مصري بإزالة الحواجز الحديدية في محيطها، على خلفية انتقادات وجهها وزير الخارجية المصري السفير بدر عبدالعاطي لعدد من الدول الغربية بينها بريطانيا لضعف تأمين السفارات المصرية التي تعرضت لمظاهرات انتقدت التعاطي المصري مع الحرب الدائرة في غزة.
الخروج من دائرة التعامل بالمثل
وكشف مصدر دبلوماسي مطلع على كواليس ما حدث، إن دوائر داخل وزارة الخارجية المصرية أبدت انتقادات لمبدأ "المعاملة بالمثل" الذي تحدث عنه في السابق الوزير بدر عبدالعاطي بشأن التعامل مع السفارات الأجنبية الموجودة على الأراضي المصرية.
وأوضح المصدر أن "تلك التصريحات أظهرت الدولة المصرية كطرف يواجه خطأ حدث أمام السفارات في الخارج بأخطاء أخرى تقود لتوتر العلاقات مع بعض الدول التي لديها إجراءات أمنية متبعة بشأن التعامل مع التظاهرات التي تقع على أراضيها بخلاف الوضع في مصر".
وأوضح المصدر ذاته، أن عدد من الدبلوماسيين الحالين والسابقين وجهوا نصائح لوزير الخارجية المصري بأهمية تقديم تفسيرات بشأن إزالة الحواجز الحديدية في الشوارع المحيطة بالسفارة بعد أكثر من عقدين على وضعها، وهو ما حدث بالفعل. إذ حدثت اتصالات ولقاءات غير مباشرة بين دوائر دبلوماسية مصرية والسفير الذي تولى منصبه قبل أيام مارك برايسون ريتشاردسون، لتفسير أبعاد الموقف المصري بشكل كامل والخروج من دائرة التعامل بالمثل نحو التأكيد على أن الأوضاع الأمنية في منطقة وسط القاهرة التي تقع السفارة في محيطها لم تعد تستدعي غلق الشوارع المؤدية للسفارة.
ولفت المصدر ذاته أن السفارة البريطانية أيضاً تركت منافذ جرى التحرك من خلالها لتسوية الأزمة إذ أنها لم تعلق جميع خدماتها ولكنها أعلنت إغلاق الإجراءات الإدارية داخل مقرها مع استمرارها خلال اليومين الماضيين في إجراءات إنهاء الأوراق الرسمية إلكترونياً، ولم تتأثر كثير من الأنشطة الاقتصادية التي ترتبط بموافقات تصدر عن السفارة. كما أن عقد اجتماعات قمة العشرين لأول مرة خارج الدول المنضوية بالمجموعة في مصر تزامنا مع الأزمة المثارة مع بريطانيا كان أحد عوامل تخفيف التصعيد من الجانبين بعد تدخلات دبلوماسية.
وذكر المصدر أن إعادة افتتاح السفارة جاء أيضاً نتيجة لعوامل تتعلق بالجانب البريطاني مع حالة السخط التي انتابت قطاعات من المصريين جراء قرار غلق السفارة، رغم أن مصر لم تتحدث عن تخفيض التواجد الأمني المحيط بها، كما أن بريطانيا ترى في القاهرة نموذجاً يمكن من خلاله التحرك نحو إثبات رغبتها في إنهاء جرائم الإبادة الفلسطينية في قطاع غزة، إذ من المقرر أن يكون لديها مواقف داعمة للاعتراف بالدولة الفلسطينية أثناء اجتماعات الأمم المتحدة خلال هذا الشهر والتصعيد لن يسمح بمزيد من التنسيق الدبلوماسي خلال الأيام المقبلة.
ولفت إلى أن جهات رسمية مصرية قدمت تطمينات إلى السفارة البريطانية بتشديد الإجراءات الأمنية حولها مع إزالة الحواجز المؤدية إليها، وأن هناك التزام بتحقيق انسياب مروري وتسهيل مهمة الوصول إلى السفارة مع عودة عملها مرة أخرى، نافياً إمكانية عودة الحواجز مرة أخرى في الوقت الحالي، مضيفا: "هناك رغبة رسمية في مصر لأن يكون هناك حالة ود بين المصريين والسفير الجديد مثلما الوضع لسلفه غاريث بايلي الذي ترك منصبه في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس".
ارتباك لدى صانع القرار المصري
أعلنت السفارة البريطانية في القاهرة، مساء الثلاثاء 2 سبتمبر/ أيلول، إعادة فتح أبوابها وخدماتها بعد يومين من الإغلاق بسبب رفع السلطات المصرية الحواجز الأمنية حولها، وقالت السفارة في بيان لها: "إنه وبعد التفاعل مع السلطات المصرية، تم تحديث نصائح السفر الخاصة، مضيفة أن السفارة لا تزال مفتوحة وتستمر في تقديم مجموعة كاملة من الخدمات".
جاء ذلك بعد يومين من إعلان السفارة، إغلاق مبناها الرئيسي في القاهرة الأحد، بعد ساعات قليلة من رفع السلطات المصرية الحواجز الأمنية خارج المبنى، وأوضحت السفارة في ذلك الحين، أن السلطات المصرية أزالت الحواجز الأمنية خارج مقرها في القاهرة، موضحة أنه سيتم إغلاق مبنى السفارة الرئيسي ريثما تتم مراجعة تأثير هذه التغييرات.
وأكد مصدر دبلوماسي آخر بوزارة الخارجية المصرية، ومطلع على تفاصيل هذا الملف، أن موقف السفارة البريطانية بتعليق عملها من المبنى الرئيسي في وسط القاهرة لم يكن متوقعاً، خاصة وأن القرار المصري يحمل أوجه عديدة لأنه ينهي "وضع غير منطقي استمر لعقود" – على حد تعبيره – وأضحى لا داعي لاستمراره، كما أن وزارة الخارجية رأت أنه يجب أن يكون لديها تحرك كرد فعل على التساهل أمني في تأمين السفارة المصرية بلندن والتي شهدت مظاهرات متفرقة خلال الأسابيع الماضية، وأن دوائر مصرية سعت خلال اليومين الماضيين لتقديم مزيد من التطمينات لتوفير الحماية اللازمة لانتظام عمل السفارة.
وبحسب المصدر فإن استدعاء فترات التوتر بين البلدين والحديث عن الحقبة الاستعمارية البريطانية لمصر أثار هواجس في لندن والقاهرة أيضاً، وهدف كلا الطرفين لعدم اتساع نطاق التوتر ولملمة الأزمة، بخاصة وأن تصعيد وزارة الخارجية المصرية من المتوقع أن يقابله مظاهرات أكبر قد تحاصر عدد من السفارات المصرية الأخرى، إذ أنها أحدثت ارتباكاً لدى صانع القرار المصري بعد أن انتشرت بكثافة في هولندا وبريطانيا والولايات المتحدة.
وأوضح أنه كان من المهم الذهاب نحو التهدئة وتوقع أن تحدث لقاءات مباشرة مع السفير الجديد وإطلاعه على دوافع قرار إزالة الحواجز، بخاصة وأن مصر وبريطانيا كانا يرتبان لزيارة مرتقبة لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى القاهرة في نهاية شهر أكتوبر أو بداية شهر نوفمبر المقبل لإطلاق الشراكة الإستراتيجية بين البلدين لتحقيق فرص نمو متبادلة جديدة وتعزيز الروابط الاقتصادية، وهي الزيارة التي جرى الإعداد لها منذ شهر يوليو الماضي قبل تولي السفير الجديد مهام منصبه، وبالتالي كان من المهم عودة عمل السفارة بشكل طبيعي تمهيداً للزيارة، في حين أن أجواء التوتر كانت تشير لإمكانية إرجاء الزيارة لوقت لاحق، ومع حل الأزمة جزئيا تدعم إتمامها في وقتها.
وذكر أن كلا البلدين بحاجة لإنجاح الزيارة لأنها سوف تركز على الاستثمارات البريطانية في مصر ومن المقرر عقد ملتقى استثماري تشارك فيه شركات مصرية وانجليزية، هذا بالإضافة إلى تعزيز الروابط التجارية وإقرار تعاون مشترك بشأن مواجهة الهجرة غير الشرعية، لافتا إلى أن استمرار إغلاق السفارة كان يعني تعطيل المصادقات التجارية وتأجيل حركة التعاقدات بين الشركات المختلفة ومن ثم فإن ذلك سيكون نتيجته المباشرة هو تراجع ثقة المستثمرين.
وشدد على إن إغلاق السفارة دفع بشكل سريع لعقد لجان مشتركة تتعلق بمكاتب التمثيل التجاري لضمان استمرار تدفق حركة التجارة وكان من المتوقع أن تتأثر حركة التجارة بمعدلات تصل إلى 20% في حال استمر الإغلاق، كما أن الغرف السياحية المصرية تلقت تساؤلات لآلاف من السياح الإنجليز عن إمكانية عودتهم لبلدانهم أو التساؤل عن مستقبل رحلات السياحة رغم عدم وجود تحذيرات سفر رسمية من جانب المملكة المتحدة.
وزارة الخارجية اختارت الطريق الخاطئ
تُعد بريطانيا أحد أكبر الشركاء الاقتصاديين لمصر في أوروبا، إذ تتجاوز الاستثمارات البريطانية المباشرة داخل السوق المصري حاجز 50 مليار دولار، موزعة على قطاعات الطاقة والغاز الطبيعي، البنوك، البنية التحتية، والصناعات الغذائية، كما بلغ حجم التبادل التجاري السنوي بين البلدين نحو 3.5 إلى 4 مليارات دولار في السنوات الأخيرة.
وتشهد العلاقات المصرية – البريطانية تعاوناً عميقاً في العديد من المجالات. بينها الاتفاقيات الأمنية، ومكافحة الإرهاب، إلى جانب التعاون الاقتصادي، فيما شهدت العلاقات بين البلدين توترات دبلوماسية محدودة خلال العقود الماضية تم تجاوزها سريعاً، أبرزها المظاهرات التي انطلقت من ميدان التحرير "وسط العاصمة" احتجاجاً على الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ووصلت إلى محيط السفارة البريطانية، وهو ما دفع السلطات المصرية إلى وضع "الحواجز الإسمنتية والحديدية" بمحيط السفارتين البريطانية والأميركية، وإغلاق الشوارع المحيطة أمام المركبات والمارة.
كما اضطرت المملكة المتحدة عام 2014 إلى إغلاق سفارتها بمصر، عقب قيام متظاهرين بمحاصرة المبنى، خلال فترة التوتر الأمني في يونيو من العام 2013.
وقال دبلوماسي مصري سابق، إن المواقف المتشنجة بين البلدين خلال الأيام الماضية عكست توترا في العلاقات وكان يمكن أن تكون مقدمة لأزمة دبلوماسية يمكن وصفها بأنها "خطيرة"، إذ أن المكالمة الهاتفية التي جرت نهاية الأسبوع الماضي بين وزير الخارجية المصري ومستشار الأمن القومي البريطاني جوناثان باول، تضمنت طلباً مصريا للتعرف على ملابسات القبض على أحد الشباب الذين كانوا يدافعون عن السفارة وطالبت القاهرة اطلاعها على التحقيقات، وهو ما عبر عن تصعيد مصري أعقبه إزالة الحواجز وهي إشارات التقطتها بريطانيا أيضا وذهبت باتجاه التصعيد عبر قرار غلق السفارة.
وأوضح المصدر ذاته، أن المواقف التي اتخذتها وزير الخارجية وردت عليها السفارة البريطانية تعبر عن حالة عدم ثقة على مستوى العلاقات بين البلدين، وبدت المملكة المتحدة رافضة لإي إجراءات تنتقص من هيبة سفاراتها وهو ما كان يدفع القاهرة نحو التصعيد أيضا للحفاظ على صورتها، لكن في نهاية الأمر حدث نوع من التفاهم أفضى لعودة عمل السفارة، غير أن رواسب الواقعة ستظل عالقة بخاصة وأن مصر تضع في اعتبارها أن المملكة المتحدة توفر دعما وبيئة حاضنة لمعارضين للنظام المصري.
وأشار إلى أن الأزمة تكمن في أن المظاهرات ضد السفارات المصرية بالخارج بدت ممنهجة وهو ما كان يتطلب التعامل معها، لكن الأزمة في أن وزارة الخارجية اختارت الطريق الخاطئ وكان من الممكن إرسال اعتراضات رسمية قبل الشروع في اتخاذ قرارات تؤدي لتوتير الأجواء السياسية مع دول حليفة لمصر، بخاصة وأن هناك تصعيد متوقع على الحدود الشرقية من جانب إسرائيل مع استمرارها في تنفيذ خطط احتلال مدينة غزة ودفع المواطنين للحدود المصرية بحاجة للتركيز عليها بدلاً من الدخول في صراعات جانبية لا طائل منها.
وذكر أن تأمين السفارات أمر يخضع لسلطة الدولة المصرية التي تسعى للحفاظ على أمنها الداخلي بخاصة وأن هناك وقائع تعرضت لها سفارات في السابق في فترات الفوضى الأمنية بالعام 2014 استدعت تشديد الإجراءات الأمنية عليها، وإذا كان هناك تصعيد من جانب معارضين في الخارج أمام السفارات فإن الأمر يمكن أن يتكرر في الداخل ويتطلب الأمر مزيد من التأمين وليس العكس.
وكانت الشرطة البريطانية أوقفت الأسبوع الماضي شاباً مصرياً يدعى أحمد عبد القادر (ميدو)، كان يدعو لحماية البعثة المصرية في مواجهة معارضين، وأجرى عبد العاطي اتصالاً هاتفياً مع مستشار الأمن القومي البريطاني، جوناثان باول، لبحث أزمة توقيف "ميدو"، ولم تمر ساعات قليلة حتى أُفرج عنه، لكن الأزمة لم تنتهِ؛ إذ تصاعدت المطالبات من نواب وإعلاميين وشخصيات عامة بإزالة الحواجز الأمنية أمام السفارة البريطانية، إعمالاً لمبدأ "المعاملة بالمثل"، لا سيما مع "عدم قيام لندن بجهود كافية لحماية سفارة مصر من المتظاهرين"، على حد قولهم.
وتصاعدت في الآونة الأخيرة حملة للتظاهر أمام السفارات والبعثات الدبلوماسية المصرية في الخارج والدعوة لإغلاقها، بزعم أن القاهرة تعرقل دخول المساعدات إلى غزة، وهو ما نفته مصر مرات عدة
وعدّ وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، في وقت سابق، استهداف البعثات الدبلوماسية لبلاده في الخارج "اعتداءً على السيادة وانتهاكاً لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية التي تلزم الدولة المضيفة بمسؤولية حماية البعثات الموجودة بها"، داعياً إلى تطبيق "مبدأ المعاملة بالمثل".
لافتا ًإلى أنه في حال استمر اغلاق السفارة فإن مصر هي الأخرى سيكون لديها أدوات عديدة يمكن استخدامها لتصعيد مقابل بخاصة وأن تقليص عمل السفارة البريطانية في القاهرة ستكون لديه عواقب سلبية على مجمل العلاقات السياسية والاقتصادية.