بدأت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية في سوريا سلسلة من التحركات الجديدة خارج البلاد من أجل "تفعيل مخرجات" مؤتمر الحسكة الذي نظمته قبل أيام، ودعت فيه إلى كتابة دستور سوري جديد وتأسيس "جيش سوري" مستقل عن سلطة الحكومة السورية.
شهدت مدينة الحسكة قبل أيام عقد مؤتمر "وحدة الموقف لمكونات شمالي شرقي سوريا" تحت إشراف قوات سوريا الديمقراطية، في خطوة وصفتها دمشق بالخطيرة والمثيرة للجدل، ورفضت جميع مخرجات المؤتمر التي اعتبرتها مخالفة للقانون السوري وضد مكونات الدولة.
جمع المؤتمر ممثلين عن مكونات مختلفة من المجتمع السوري، بما في ذلك عرب وكرد وسريان ودروز وعلويين، بهدف صياغة رؤية سياسية بديلة للدولة السورية. وعلى خلفية هذا المؤتمر، سعت قسد إلى توسيع نشاطها السياسي خارج سوريا عبر سلسلة مؤتمرات مرتقبة في أوروبا، تهدف إلى استثمار الزخم الإعلامي والسياسي الذي أحدثه مؤتمر الحسكة للضغط على الحكومة السورية وتحقيق مكاسب سياسية وإدارية لمناطق سيطرتها.
مؤتمرات خارج سوريا
كشف مصدر في اللجنة الإعلامية المركزية لقوات سوريا الديمقراطية أن الحركة لم تكتفِ بالزخم الذي أحدثه مؤتمر الحسكة الأخير، بل تعمل حاليًا على الإعداد لسلسلة مؤتمرات جديدة في أوروبا، من المتوقع أن تُعقد خلال الأيام القليلة المقبلة، سواء في العاصمة البلجيكية بروكسل أو في فرنسا.
وأوضح المصدر أن الهدف من هذه التحركات هو "استثمار المناخ السياسي والإعلامي الذي صنعه مؤتمر الحسكة، وتحويله إلى ورقة ضغط إضافية على الحكومة السورية في أي مسار تفاوضي مقبل".
وبحسب المصدر، فإن مؤتمرات أوروبا المرتقبة ستركز على إعادة طرح المطالب التي نوقشت في مؤتمر الحسكة، وعلى رأسها تكريس نموذج الإدارة الذاتية وتثبيت الحقوق السياسية والثقافية لمكونات شمال وشرق سوريا، في محاولة لإحراج دمشق أمام المجتمع الدولي ودفعها لتقديم تنازلات ملموسة في حال العودة إلى طاولة المفاوضات.
وأكد المصدر أن قسد تسعى لأن يكون الحضور في هذه الفعاليات أوسع وأكثر تنوعًا، بحيث يشمل ممثلين عن الجاليات الكردية والسريانية والأرمنية، إلى جانب منظمات حقوقية وشخصيات أوروبية متعاطفة مع قضاياها.
وأشار إلى أن مؤتمرات قسد وتحركاتها الخارجية المرتقب ترتيبها ستتنوع أماكنها ما بين بروكسل وفرنسا، التي تحتضن عددًا كبيرًا من قادة وأفراد الأكراد الذين يولون قوات قسد الولاء والدعم.
وكشف المصدر أن قسد كانت قد بدأت قبل أسابيع ترتيبات لإرسال العشرات من فريقها الإعلامي والأمني إلى باريس للترتيب للتحركات الإعلامية والسياسية في الفترة المقبلة، بالتنسيق مع الجالية الكردية الداعمة لقسد في فرنسا.
وأوضح أن هذه الخطوات لا تعني رفض قسد للتفاوض مع الحكومة السورية، لافتًا إلى أن الحركة أرسلت بالفعل وفدًا رسميًا إلى دمشق يوم الثلاثاء 12 أغسطس/آب 2025، لبحث جدول أعمال جولة المفاوضات التي تسعى الولايات المتحدة إلى عقدها في باريس بين قوات سوريا الديمقراطية وحكومة الرئيس السوري أحمد الشرع.
وأكد أن قسد "مستعدة للانخراط بشكل كامل في هذه الجولة التفاوضية"، وأنها "حريصة على تنفيذ بنود اتفاق مارس الماضي الذي تم توقيعه بين القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع"، موضحًا أن الاتفاق تضمن بنودًا تتعلق بتنسيق أمني وعسكري مشترك، وإجراءات لإشراك ممثلي الإدارة الذاتية في بعض الملفات الخدمية والاقتصادية، وهو ما ترى قسد أنه يشكل أساسًا صالحًا لأي تسوية مستقبلية.
الحكومة السورية تتشكك
في الوقت نفسه، قال مصدر سوري في وزارة الدفاع إن تحرك قسد على مسارين متوازيين — التفاوض مع دمشق من جهة، وحشد الدعم الدولي عبر المؤتمرات الأوروبية من جهة أخرى — يعكس محاولة لزيادة أوراق الضغط وتعزيز الموقف التفاوضي، خصوصًا في ظل تراجع فرص الحسم العسكري، وتزايد القناعة لدى الأطراف الفاعلة بأن الحل السياسي هو الخيار الواقعي الوحيد لإنهاء النزاع في شمال وشرق سوريا.
كشف المصدر أن الأنشطة السياسية والإعلامية التي تقوم بها قوات سوريا الديمقراطية خارج البلاد تمثل مؤشرًا واضحًا على أن القوات الكردية لا تسعى إلى الوصول لتسوية سياسية حقيقية مع الحكومة السورية، بل تهدف – بحسب قوله – إلى خلق مسار موازٍ قائم على "الزخم الإعلامي والسياسي الضخم" في أوروبا والعالم، من أجل دعم موقفها ضد السلطة الحالية في دمشق.
وأوضح أن تحركات قسد، التي شملت مؤخرًا مؤتمر الحسكة وخططًا لعقد مؤتمرات في بروكسل أو فرنسا، تُظهر أن استراتيجيتها تعتمد على تدويل الملف الكردي واستثمار الدعم الغربي لكسب اعتراف سياسي أكبر بمشروع الإدارة الذاتية، بدل الانخراط في حوار داخلي جاد مع الحكومة السورية. وأضاف أن هذا النهج عزز قناعة دمشق بأن قسد ليست بصدد تقديم تنازلات أو البحث عن حلول وسط، بل تحاول فرض أمر واقع بدعم خارجي.
وأشار المصدر إلى أن هذه السياسات هي التي دفعت الحكومة السورية إلى الانسحاب من مفاوضات باريس التي كانت الولايات المتحدة تسعى لعقدها بين وفود دمشق وقسد، قبل انطلاقها. كما أوضح أن الاعتراض الرسمي على مؤتمر الحسكة جاء في السياق نفسه، باعتباره امتدادًا لتحركات تهدف – وفق توصيف دمشق – إلى تقويض وحدة البلاد وإضعاف سلطتها المركزية.
وبحسب المصدر، فقد أبلغت الحكومة السورية الجانب الأمريكي بشكل رسمي بموقفها من هذه التحركات، مؤكدة أن "قوات قسد حريصة على صناعة مزيد من المشاكل، وليس على البحث عن حلول لها". ولفت إلى أن الرسالة التي نقلتها دمشق لواشنطن تضمنت تحذيرًا من أن استمرار هذه الأنشطة الخارجية لقسد لن يؤدي إلا إلى تعقيد المشهد السوري، وزيادة حالة الانقسام السياسي والاجتماعي.
ويأتي هذا الموقف في وقت تتصاعد فيه التوترات بين الجيش السوري وقسد في بعض مناطق الشمال الشرقي، وسط تبادل الاتهامات بخرق تفاهمات سابقة، ووسط محاولات أمريكية وفرنسية لإحياء مسار تفاوضي قد يواجه عراقيل أكبر بعد هذا الموقف العلني من دمشق.
توترات ميدانية
وبالتوازي مع تحركات قسد الإعلامية والسياسية خارج سوريا، شهدت عدة مناطق شمالي البلاد توترات ميدانية. وأكد مصدر في قوات قسد أن مجموعات تابعة للقوات الحكومية السورية نفذت خلال الأسابيع الماضية ما وصفها بـ"تحركات استفزازية" في محيط بلدة دير حافر وحيي الشيخ مقصود والأشرفية في ريف حلب، شملت إرسال تعزيزات عسكرية وتحليق طائرات مسيرة، بل وتنفيذ هجمات محدودة بعبوات ناسفة.
وأشار إلى أن هذه التصرفات تمثل خرقًا واضحًا للتفاهم المبرم بين مجلس أحياء الشيخ مقصود والأشرفية وحكومة دمشق في الأول من أبريل/نيسان 2025، والذي كان يهدف لضمان الاستقرار وحرية الحركة للسكان مقابل التنسيق الأمني. وأضاف: "نحن ملتزمون بالاتفاق، لكن استمرار هذه الاستفزازات سيجبرنا على الرد دفاعًا عن المدنيين".
رفض مصدر في وزارة الدفاع السورية هذه المزاعم، موضحًا أن التحركات العسكرية الأخيرة التي نفذها الجيش السوري في مناطق شمال وشرق البلاد، والتي اعتبرتها قسد خرقًا للاتفاقات، هي "تحركات قانونية بالكامل"، وأن "الجيش السوري يحق له التحرك في أي منطقة داخل الأراضي السورية باعتباره القوة الشرعية المخولة بفرض سلطة الدولة على كامل تراب الوطن".
وأشار المصدر إلى أن ما تصفه قسد بـ"الاستفزازات" أو "التجاوزات" لا يعدو كونه تنفيذًا لواجب الجيش في بسط سيادة الدولة، معتبرًا أن "المشكلة الحقيقية تكمن في أن قسد هي التي بادرت بالاشتباك مع وحدات الجيش السوري في بعض المناطق، محاولةً صناعة أزمة عسكرية وفرض أمر واقع يخدم أجنداتها السياسية".
وكشف المسؤول العسكري أن قيادة قسد "رفضت تنفيذ بنود الاتفاق المبرم بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي"، مؤكدًا أن دمشق التزمت بما تم الاتفاق عليه، بينما الطرف الآخر "تنصل من التزاماته". وشدد على أن "قسد هي التي مطالبة باحترام القانون السوري وبنود الاتفاق، وليس العكس".
وقال المصدر السوري في وزارة الدفاع إن اتهامات قسد تأتي في إطار تصعيد سياسي وعسكري بين الطرفين، وسط تزايد الخلافات حول مستقبل إدارة المناطق التي تسيطر عليها قسد ودور الجيش السوري فيها. فبينما تصر دمشق على عودة السيطرة الكاملة للدولة على كل الأراضي، تسعى قسد إلى الحفاظ على قدر من الاستقلالية الإدارية والأمنية، وهو ما تعتبره الحكومة السورية مخالفًا للدستور والقانون.
وأكد أن هذه التطورات تشير إلى احتمال ازدياد التوتر في المرحلة المقبلة، خاصة مع استمرار الوجود العسكري الأمريكي في مناطق سيطرة قسد والدعم الغربي لها، مقابل إصرار دمشق على المضي في سياسة "استعادة السيطرة الكاملة" التي تراها حقًا سياديًا غير قابل للتفاوض.
أزمة مؤتمر الحسكة: صراع سياسي بين قسد ودمشق
أثار مؤتمر "وحدة الموقف لمكونات شمالي شرقي سوريا" أزمة سياسية كبيرة بين الحركة والحكومة السورية. وفق مصدر أمني رفيع في قسد، لم يكن المؤتمر مجرد فعالية محلية، بل خطوة محسوبة لإعادة رسم خريطة الحوار السياسي السوري ووضع أساس لرؤية بديلة لمستقبل البلاد.
جمع المؤتمر ممثلين عن مختلف المكونات السورية، من عرب وكرد وسريان ودروز وعلويين، إضافة إلى شخصيات مستقلة من مناطق سيطرة الحكومة وأخرى من خارج نفوذها، بهدف وضع لبنة لمشروع سياسي بعيد عن حكومة أحمد الشرع.
أحد أبرز ما ميز المؤتمر هو حضور شيخ عقل طائفة الدروز في السويداء، حكمت الهجري، عبر كلمة مسجلة، وكذلك رئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى، غزال غزال، وهو ما اعتبره المصدر "رسالة واضحة بأن مكونات من الطيف السوري، بما فيها الأقليات التي كانت حذرة، بدأت تدرك ضرورة البحث عن صيغة سياسية جديدة تضمن حقوقها وأمنها".
ودعا البيان الختامي للمؤتمر إلى صياغة دستور جديد يقوم على مبادئ الديمقراطية التعددية واللامركزية الإدارية والسياسية، مع ضمان تمثيل كافة المكونات القومية والدينية، مؤكدًا أن الهدف ليس التقسيم كما تزعم دمشق، بل تصحيح مسار تاريخي من المركزية المفرطة التي تهمش مناطق بأكملها وأشعلت الصراعات منذ 2011.
رفض دمشق
الحكومة السورية رفضت هذه الرؤية، معتبرة المؤتمر دعوة للانقسام. ونقلت وسائل الإعلام الرسمية عن دمشق وصفها المؤتمر بأنه "محاولة لإحياء نهج تقسيمي يخدم أجندات خارجية"، واتهمت المشاركين بتنفيذ "مشاريع تهدف إلى إضعاف الدولة السورية".
وردت قسد بالقول: "إذا كانت الدعوة إلى الشراكة وتقاسم السلطة وفق آليات ديمقراطية تُعتبر تقسيمًا، فالمشكلة ليست فينا، بل في العقلية التي ما زالت تعمل بعقلية ما قبل 2011".
وأوضح المصدر أن دعوة شخصيات دينية من السويداء والساحل كانت مقصودة لتوضيح أن البحث عن صيغة حكم جديدة ليس مطلبًا كرديًا فقط، بل قضية وطنية تمس جميع السوريين. وأضاف: "عندما يجلس شيخ عقل الدروز إلى جانب ممثل علوي وممثل عشيرة عربية في نفس الطاولة، فهذا يرسل رسالة بأن المكونات السورية تستطيع صياغة مستقبلها إذا أُتيحت لها الفرصة".
وأكد المصدر أن مؤتمر الحسكة جزء من مسار أوسع نحو بناء "جبهة سياسية للأقليات والمكونات المهمشة"، تهدف إلى فرض نفسها كرقم صعب في أي مفاوضات سياسية قادمة، وحذر من أن تجاهل هذه المطالب سيؤدي إلى مزيد من الانقسام، داعيًا دمشق إلى فتح حوار جاد مع كل المكونات.
وقال: "لقد أثبتت السنوات الماضية أن الحلول الأمنية والعسكرية لا تنهي الأزمات، بل تؤجلها. سوريا اليوم تحتاج عقدًا اجتماعيًا جديدًا يضمن التمثيل العادل ويعترف بالتعددية كقوة لا كتهديد".
تحديات دمشق
من منظور الحكومة السورية، يمثل المؤتمر "خطوة خطيرة" تهدف إلى فرض الأمر الواقع وبدء التحرك نحو تقسيم سوريا على أسس عرقية ودينية، وهو ما يخدم أجندات خارجية، وفق مصدر في وزارة الدفاع السورية.
وترى دمشق أن تحركات قسد جزء من "مخطط أوسع تدعمه الولايات المتحدة وبعض القوى الغربية" لإعادة رسم الخريطة السياسية بما يتماشى مع مصالح تلك القوى. وتصف الحكومة نموذج الإدارة الذاتية الذي تسعى قسد لتكريسه خارج سلطة الدولة بأنه "نهج انفصالي" يتعارض مع وحدة البلاد وسيادتها.
كما اعتبرت دمشق التنسيق الذي ظهر في المؤتمر بين قسد ودروز السويداء مؤشرًا مقلقًا، إذ ترى أن التقارب بين قوى وأطراف من خلفيات طائفية مختلفة قد يكون مدعومًا من قوى إقليمية ودولية، وفي مقدمتها إسرائيل، في إطار جهود لإضعاف مركزية الدولة وإيجاد اصطفافات بديلة على أساس الهويات الفرعية.
رفض بعض الأطراف للمؤتمر
لم يحظ المؤتمر بإجماع القوى المحلية، إذ رفضت أطراف كردية وعشائر عربية المشاركة، ما يعكس انقسامات داخل البيئة السياسية والاجتماعية التي تسيطر عليها قسد.
وأوضح مصدر سوري أن المجلس الوطني الكردي رفض الدعوة، فيما اتخذت العديد من العشائر العربية موقفًا مشابهًا، معتبرة المؤتمر محاولة لفرض أجندات لا تعكس أولوياتها الوطنية. وترى دمشق أن الهدف الأساسي من عقد المؤتمر هو الضغط على الحكومة لتقديم تنازلات بشأن الاعتراف بالإدارة الذاتية ومنحها صلاحيات موسعة.
وأشار المصدر إلى أن المؤتمر حمل رسالة تحدٍ واضحة لسلطة الدولة السورية، إذ سعى قادة قسد إلى تسويق تجربة "الإدارة الذاتية" في الحسكة والرقة وحلب ودير الزور كنموذج ناجح وديمقراطي، وقد وجدت هذه الأفكار صدى في محافظة السويداء عبر "اللجنة القانونية العليا" التي شكّلها الشيخ حكمت الهجري.
ويعتبر الربط بين الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي والتحركات في السويداء محاولة من قسد وحلفائها لطرح مشروع بديل للنظام الإداري والسياسي، وهو ما تنظر إليه الحكومة السورية كتهديد مباشر لوحدة الدولة وسيادتها.