يتساءل الكثير من المصريين حول الأسباب التي قادت لصعود الجنيه في مقابل الدولار رغم أن وضعية الاقتصاد المصري بشكل عام لم تشهد اختلافاً واضحاً مع استمرار معدلات التضخم المرتفعة وعدم وجود طفرة في الصادرات مقارنة بالواردات واستمرار الضغوطات الاقتصادية التي يعانون منها على المستوى المعيشي، وهو ما يجعل التكهنات تتجه مرة أخرى إلى "الأموال الساخنة" التي تتدفق بمعدلات غير مسبوقة لكنها تركت من قبل تأثيرات وخيمة على الاقتصاد مع سحبها دون تحقيق استفادة تذكر من توفر الدولار في البنوك المصرية.
سيولة دولارية مرتفعة
وبلغت قيمة تدفقات المستثمرين العرب والأجانب في أدوات الدين الحكومية نحو 3.7 مليار دولار، خلال الفترة من 29 يونيو الماضي وحتى 24 يوليو الماضي، ويُشكل ذلك الرقم 4 أضعاف حجم تدفقات "المستثمرون الأجانب"، في الفترة السابقة المماثلة، من 1 إلى 26 يونيو الماضي، التي سجلت فيه 914 مليون دولار.
وكان الدولار انخفض إلى أدنى مستوياته في تسعة أشهر، مسجلًا 48.4 جنيهًا للشراء و48.5 للبيع، بحسب تعاملات بنكي الأهلي ومصر مطلع هذا الأسبوع.
وقال مصدر مطلع في البنك المركزي، إن الأموال الساخنة مصدرها المؤسسات الحكومية الخليجية تحديداً من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت، وهي دول تضخ ودائع في البنك المركزي المصري، هذا بالإضافة إلى صناديق الاستثمار الدولية وتشارك فيها صناديق أميركية وأوروبية أغلبها يأتي من فرنسا وإيطاليا وكذلك بعض الدول الآسيوية في مقدمتها الهند، كما أن بعض المؤسسات المالية الكبرى حول العالم والتي تركز على الأسواق الناشئة لديها حضور قوي في السوق المصري.
وقال مصدر مطلع بوزارة المالية إن الحكومة المصرية رصدت أن هناك سيولة دولارية في الأسواق الآن نتيجة لتوافد السياحة العربية والتوسع في شراء العقارات وتدفق تحويلات المصريين من الخارج بل ونزول ملايين الأسر إجازات نهاية العام وصرف مبالغ دولارية كبيرة خلال أشهر الصيف ووجدت أن ذلك يعد وقتا ملائما للحصول على الدولار بأفضل قيمة للجنيه، خاصة وأن الخلاف القائم بين مصر وصندوق النقد الدولي بشأن تحرير الجنيه بشكل كامل لم يتم حلها بعد إذ مازال يتم التحكم به بنسبة تتراوح من 3% إلى 5% وهي النسبة التي تحرك فيها الجنيه خلال الفترة الماضية.
وأوضح المصدر ذاته، أن الحكومة تهدف للاستفادة من توجه الأموال الساخنة إلى السندات الحكومية استفادة من زيادة أسعار الفائدة باعتبار أن مصر من ضمن أعلى خمس دول على مستوى العالم بها فائدة مرتفعة وتدرك بأن رفع قيمة الجنيه أمام الدولار لن يؤثر على اتجاهات المستثمرين في الأموال الساخنة، وبالتالي فإن ذلك لم ينعكس على قيمة التدفقات، وترى بأن مزيد من جذب الأموال يساهم في استقرار الجنيه وارتفاعه في مواجهة الدولار.
وشدد المصدر ذاته إلى أن الأهداف السياسية لا تخلو من اتجاهات رفع الجنيه أمام الدولار لأن ذلك يمنح إشارات على استقرار الوضع الاقتصادي في ظل اضطراب الأوضاع الإقليمية، ولعل ذلك كان دافعاً لرئيس الحكومة مصطفى مدبولي لأن يعلن عن تجاوز مصر الأزمة الاقتصادية، مشيراً إلى أن القاهرة تهدف لمضاعفة عوائد السياحة لتكون بديلاً عن تراجع عوائد قناة السويس، وفي حال تأثرت اقتصاديا بالأوضاع القريبة منها فسيبقى تأثيراته سلبية ولعل ذلك ما يفسر أيضاً تسرعها في إعلان موعد افتتاح المتحف المصري الكبير في أول نوفمبر بعد أن جرى إرجائه تزامنا مع اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران.
وذكر أن القاهرة تعتمد على إجراءاتها الأمنية وكذلك تحسن عائداتها من الدولار للتحوط من أزمة السقوط مرة أخرى في أزمات السوق الموازية، وهو أمر مستبعد في الوقت الحالي، وفي الوقت ذاته فإن مصر تطمئن لأنها سوف تستقبل الجزء الأكبر من الأموال الساخنة التي هربت من الولايات المتحدة ودول أوروبية الى الأسواق الناشئة، وترى بأنها أكثر قدرة على التحكم في الدولار مع تراجع الطلب على السلع والخدمات المستوردة تأثراً بالقدرة الشرائية للمصريين، كما أنها تضغط على من يحتفظون بالدولار بالاتجاه نحو بيعه وبالتالي تحقق حالة سيولة في العملة الصعبة غير مسبوقة خلال السنوات الماضية.
ارتفاع ملحوظ في قيمة المصادر الدولارية
ويمكن تعريف الأموال الساخنة بأنها رؤوس أموال أجنبية تدخل الأسواق المحلية وهي تستهدف أذون وسندات الخزانة المحلية، مستفيدة من ارتفاع أسعار الفائدة واستقرار سعر صرف الجنيه، وساهمت زيادة تدفقات الأموال الساخنة في انخفاض الدولار 2.1 جنيه خلال يوليو الماضي، وتعد مصر أحد أكثر الدول الجاذبة لمستثمري "الأموال الساخنة" بسبب العوائد المرتفعة التي وصلت إلى 27.7%.
ويثير هذا النوع من الاستثمارات قلقاً لدى بعض الخبراء، الذين يحذرون من تأثيرات محتملة إذا تحولت إلى خروج صافي، مما قد يزيد الضغط على العملة المحلية، ويعتبر مصدرا مهما للنقد الأجنبي، لكنه يحمل مخاطرة كبيرة نظراً إلى سهولة سحبه خلال الأزمات، ما يجعله "أموالًا ساخنة" تتقلب مع حالة السوق.
وقد عزز توصية بنك جولدمان ساكس للمستثمرين بزيادة استثماراتهم بالجنيه المصري، بسبب انخفاض تسعيره بنحو 30% عن قيمته الحقيقية، من تدفقات الأموال الساخنة إلى السوق المصري، وخلال العام الأول من تحرير سعر الصرف، جذبت مصر نحو 24 مليار دولار من هذه الأموال، ليصل إجمالي الاستثمار الأجنبي غير المباشر إلى 38 مليار دولار، مسجلًا رقمًا قياسيًا.
وقال مصدر ثان بوزارة المالية، إن وضعية الجنيه المصري حاليا ترتبط بأبعاد مختلفة بينها ماهو خارجي إذ أنه مع بدء الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، تراجع الدولار الأميركي أمام العملات الأجنبية وفقدت ما يقرب من 10% من قيمته، ما قاد بالتبعية إلى تحسن الجنيه، وهو أمر يركز عليه مستثمري الأموال الساخنة الذي يعولون على ارتفاع قيمة الدولار مرة أخرى ومن ثم خفض قيمة الجنيه وتحقيق مكاسب جيدة عند سحب الأموال من السوق المصري.
وذكر المصدر ذاته، أن مصر تأثرت إيجاباً بالارتفاع الملحوظ في قيمة المصادر الدولارية التي حصلت عليها والتي حدث بها قدر من الزيادة الكبيرة على مستوى السياحة وتحويلات المصريين في الخارج أو الصادرات التي ارتفعت لكنها مازالت عند مستويات العجز مقابل الواردات التي تزايدت أيضاً، كما أن غياب السوق الموازية جعل أغلب التعاملات التي بالدولار تتم داخل البنوك المصرية عبر قنوات شرعية، وهو ما منح الجهاز المصرفي المصري قدرة على الاستفادة من الدولارات الموجودة لديه.

وشدد على أن الاستثمارات في السندات المحلية والعملات الأجنبية اللي تطرحها الدولة أيضاً تضاعفت مع زيادة أسعار الفائدة مقارنة بغالبية دول العالم، وهو ما يفتح شهية المستثمرين في الأموال الساخنة في اللجوء إلى مصر ويعد ذلك أحد مصادر دخول العملة الأجنبية ورغم أنه يضاعف تكلفة وعبء احتمالات سحبها في أي وقت لكن ذلك يشكل عامل رئيسي في تحسن الجنيه حاليا، لافتاً أن غالبية اقتصاديات العالم تعتمد على الأموال الساخنة كأحد موارد الاستثمار لكن العبرة بمدى قدرة النظام المصرفي على الاستعداد لجميع السيناريوهات المرتبطة بسحب هذه الأموال.
وأضاف مصدر مطلع في البنك المركزي، أن تراجع سعر الجنيه مجدداً يرتبط بسداد ما يقرب من 20 مليار دولار قبل نهاية هذا العام، وحال عدم قدرة الحكومة على تأجيل سداد بعض الديون وهي تتجه لصندوق النقد الدولي وجهات عربية وأوروبية مانحة، فإن سعر الجنيه قد يكون عرضة لأن يتراجع خلال الشهرين المقبلين، إذ كان من المقرر سداد 43 مليار دولار حتى بداية سبتمبر المقبل غير أن المبلغ لم يتم سداده بالكامل حتى الآن، ويبقى التعويل على توافد المساعدات المالية من الاتحاد الأوروبي بقيمة 4 مليارات دولار وكذلك صرف الشريحة الخامسة من قرض صندوق النقد والتي تبلغ قيمتها 1.3 مليار دوار
ولفت إلى عنصر آخر يرتبط بتحسن قيمة الجنيه ويرتبط باستمرار الحكومة المصرية في سياسة الاقتراض من الخارج ووصول مساعدات مالية بينها من الاتحاد الأوروبي وكذلك شرائح صندوق النقد الدولي، إلى جانب تأثيرات صفقة رأس الحكمة المستمرة حتى الأن، وكذلك ودائع الدول الخليجية في البنوك المصرية، مشيراً إلى أن كل هذه العوامل كانت تنبأ بمزيد من التحسن في قيمة الجنيه إلى ما دون 40 جنيها وأن مصر تأثرت بالتوترات العسكرية في المنطقة والأعباء الاقتصادية وخدمة الدين وعجز الموازنة.
وتابع قائلاً: "السؤال الذي يطرح نفسه الآن ثم ماذا بعد وهل يتجه الجنيه نحو مزيد من التحسن أم ستتراجع قيمته؟"، مشيراً إلى أن ذلك سيكون مرهون بمستوى الديون وقيمته وما تشكله من ضغط على سعر الصرف والتوترات القائمة في المنطقة ومدى اشتعالها أو استقرارها بخاصة وأن الأمر يتعلق بعوائد قناة السويس وهي أحد أبرز عوائد العملة الصعبة.
وضعية الجنيه الحالية مؤقتة
وقد ساهمت الإيرادات السياحية في التعافي الاقتصادي، إضافة إلى ارتفاع تحويلات المصريين العاملين في الخارج، حيث ساعد ذلك في تعويض خسارة إيرادات قناة السويس بسبب هجمات الحوثيين ضد الملاحة في البحر الأحمر.
وارتفعت تحويلات المصريين المقيمين بالخارج بنسبة 24.2% على أساس سنوي لتصل إلى 3.4 مليار دولار في شهر مايو الماضي، ووفق بيانات البنك المركزي المصري، ارتفعت التحويلات المرسلة بين يوليو 2024 ومايو 2025 بنسبة 69.6% على أساس سنوي لتصل إلى 32.8 مليار دولار، بينما قفز الرقم بنسبة 59% على أساس سنوي في الفترة بين يناير ومايو 2025 ليصل إلى 15.8 مليار دولار.
وكذلك سجلت إيرادات السياحة في مصر سجلت ارتفاعاً لتصل إلى 12.5 مليار دولار في الفترة المذكورة، مقابل 10.9 مليار دولار في الفترة نفسها قبل عام، وسبق أن أعلن البنك المركزي المصري ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي ليصل إلى 48.7 مليار دولار بنهاية يونيو الماضي، مقارنةً بـ48.526 مليار دولار في مايو، وهو أعلى مستوى للاحتياطي منذ عدة سنوات.
وبحسب خبير اقتصادي يعمل مستشاراً في الحكومة، فإن الاقتصاد المصري يقوم بشكل رئيسي حالياً على توفير العملة الصعبة بما لا يؤدي لاختلالات تقود لشح العملة ومن ثم حدوث حالة من الاضطراب في الأسعار، ولعل ذلك ما يفسر التراجع الرسمي في معدلات التضخم إلى 15% وهي نسبة مازالت مرتفعة لكنها أقل مما كانت عليه، لكن في الوقت ذاته فإن البنك المركزي المصري مازال مصراً على ارتفاع معدلات الفائدة والتي تصل إلى 27% لضمان جذب أدوات الدين، مشيرا إلى أن ذلك يبرهن على أن وضعية الجنيه الحالية مؤقتة ومن الوارد أن يحدث تراجع جديد في أي لحظة لأنه لا يعتمد على حركة منطقية في أوضاع الاقتصاد أو زيادات مضطردة في العملية الإنتاجية المحلية يمكن أن تُحدث طفرات على مستوى زيادة معدلات التصدير أو تراجع حجم الواردات.
ولفت المصدر ذاته أن الحكومة المصرية مكبلة بأعباء وديون ضخمة سيكون عليها سدادها خلال الأشهر والسنوات المقبلة وفي حال حدث ضغط على الدولار فإن قيمته سوف تزيد مباشرة، في ظل مشكلات فوائد الديون التي تترك تأثيراتها على الموازنة العامة وأبوابها المختلفة، مشيراً إلى أن الحكومة المصرية تستفيد من استمرار سياسية الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن التوسع في فرض الرسوم الجمركية وتخفيض قيمة الدولار في مواجهة الاقتصاد الصيني الذي يجذب الاستثمارات الأجنبية ارتكاناً على انخفاض قيمة العملة، وذلك من أجل الترويج لارتفاع الجنيه مقابل الدولار، لكن تلك الفرضية قد لا تستمر طويلا ويمكن أن يحدث تحولات في السياسة الاقتصادية الأميركية يترتب عليها ارتفاع الدولار مجدداً.
وأشار إلى أن الاعتماد المفرط على الأموال الساخنة يحمل مخاطر كبيرة في حال حدوث اضطرابات مفاجئة وهي سمة سائدة تتسم بها المنطقة بأكملها التي تبقى معرضة لأي تصعيد في ظل استمرار حرب غزة واحتمالات عودة التصعيد مع إيران ومخاوف من دخول الصين أو روسيا على خط هذه الصراعات، وكان من المفترض أن يكون هناك اعتماد وقتي على تلك الأموال لسد عجز الموازنة قبل التوجه نحو بناء اقتصاد قومي قوي لكن ذلك لم يحدث في الحالة المصرية.
في مارس 2022 عانت مصر من تفاقم أزمة النقد الأجنبي بعد خروج استثمار أجنبي غير مباشر بنحو 22 مليار دولار في 3 أشهر دفعة واحدة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يزيد المخاوف من تكرار نفس السيناريو، فيما شهدت أزمة كورونا خروجًا جماعيًا لرؤوس الأموال من الأسواق الناشئة بقيمة بين 50 و60 مليار دولار، مما كشف هشاشة الاعتماد على هذه الأموال دون وجود بدائل مستدامة.
ومن المتوقع أن تكون الأموال المرسلة من الخارج قد شكلت نحو 8% من إجمالي الناتج المحلي لمصر في عام 2024، صعودًا من 5% في عام 2023، و6.1% في عام 2022.
وقدّرت الموازنة العامة الحالية 2025/2026، سعر الدولار للعام المالي الحالي عند 50 جنيهاً، بينما سجل سعر الصرف الرسمي متوسط 48.34 جنيهاً خلال يوليو/تموز الماضي، بانخفاض 3.2%.
وتتوقع الحكومة ارتفاع الفجوة التمويلية في موازنة 2025-2026 بأكثر من 25%، بحيث تصل إلى 3.6 تريليونات جنيه، وهو ما يعادل نحو 70 مليار دولار وفقاً لتوقعات سعر الدولار في الموازنة. وفي 17 يونيو/حزيران الماضي، وافق مجلس النواب على قانون الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2025-2026، بعجز متوقع بلغ 1.454 تريليون جنيه (29.8 مليار دولار تقريباً)، بخلاف أقساط الديون.