في الوقت الذي تروّج فيه الحكومة المصرية لسياسة الانسحاب التدريجي من عدد من القطاعات الاقتصادية بهدف تمكين القطاع الخاص وزيادة مساهمته إلى 68% من إجمالي الاستثمارات، جاءت خطوة وزارة التموين بإطلاق مشروع "CarryOn" لتوحيد وتطوير نحو 40 ألف منفذ بيع حكومي، لتسلط الضوء على تناقض لافت في توجهات الدولة الاقتصادية.
فالمشروع، الذي تديره الشركة القابضة للصناعات الغذائية، يهدف إلى تعزيز الحضور الحكومي في سوق التجزئة من خلال توفير سلع محلية بأسعار تنافسية وجودة عالية، بدعوى ضبط الأسواق وتخفيف الأعباء عن المواطنين.
غير أن هذا التوسع الحكومي يثير تساؤلات حول جدية توجه الدولة نحو تقليص دورها لصالح القطاع الخاص، ويطرح إشكالية التداخل بين الأدوار الاقتصادية في مرحلة يُفترض أن تشهد مزيداً من تحرير السوق ودعم التنافسية.
منافسة القطاع الخاص ضرورية لضبط السوق
قال مصدر حكومي مطّلع إن سوق التجزئة في مصر شهد نمواً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، مدفوعاً بالزيادة السكانية واتساع رقعة الأسواق، وهو ما دفع الحكومة إلى إعادة النظر في الأصول التابعة لها في هذا القطاع، لاسيما في القرى والمراكز والمحافظات، بهدف تنشيطها واستثمار انتشارها الجغرافي الواسع. وأوضح أن هذا التوجه سيتم بالشراكة مع القطاع الخاص، الذي حقق مبيعات تتراوح بين 30 إلى 40 مليار جنيه العام الماضي، ما يشير إلى جدوى اقتصادية كبيرة يمكن للدولة أن تستفيد منها عبر مشروع "CarryOn".
وأشار المصدر إلى أن السوق المصرية تضم حالياً نحو 45 سلسلة تجارية، بلغت مبيعاتها مجتمعة نحو 55 مليار دولار العام الماضي، معظمها في قطاع الأغذية، وهو القطاع الذي تستهدف الحكومة التوسع فيه تحديداً. وأضاف أن نجاح هذه السلاسل، المملوكة لمستثمرين مصريين وعرب ودوليين، شكّل دافعاً أساسياً وراء إطلاق المشروع الحكومي الجديد، لاسيما مع وجود خطط للتعاون مع واحدة من كبرى شركات الأغذية المحلية لإعادة تأهيل المنافذ التابعة لوزارة التموين، مع إعطاء الأولوية لتسويق المنتجات الوطنية.
كما كشف المصدر أن جهاز تنمية التجارة الداخلية يعمل حالياً على تحديد المناطق التي تفتقر إلى منافذ بيع مناسبة، في إطار خطة لتوسيع التغطية الجغرافية على مستوى الجمهورية. ومن المرتقب أن تنضم الشركات المشاركة في مبادرة "كلنا واحد" إلى المشروع، عبر توفير منتجاتها في المنافذ الجديدة المقرر إطلاقها تدريجياً اعتباراً من مطلع العام المقبل.
وأكد المصدر أن الأغذية تمثل الحصة الأكبر من مبيعات السلاسل التجارية مقارنة بباقي القطاعات مثل الأجهزة المنزلية والملابس، ما يجعل التركيز على هذا القطاع منطقياً في ظل معدلات التضخم المرتفعة. كما شدد على أهمية وجود منافسة فعالة بين القطاعين الحكومي والخاص لضبط الأسعار وتوفير سلع أساسية بأسعار مناسبة، في ظل التفاوت الكبير الذي تشهده الأسواق وصعوبة الرقابة على جميع المنافذ الخاصة.
الحكومة المصرية تراهن على سوق التغذية
أعلن أحمد كمال، المتحدث الرسمي باسم وزارة التموين والتجارة الداخلية، إطلاق أول علامة تجارية موحدة للمنافذ التموينية ومنافذ البيع الحر تحت اسم "كاري أون"، وذلك ضمن مشروع تطوير وتحديث منظومة بيع السلع الأساسية.
مشيرا إلى أن الفكرة جرى طرحها خلال لقاء جمع وزير التموين شريف فاروق مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث تم تكليف الشركة القابضة للصناعات الغذائية (حكومية) بتحويل 1060 مجمعًا استهلاكيًا إلى سلسلة موحدة تحمل اسم "كاري أون"، مع التوسع تدريجيًا لتشمل أي منافذ جديدة، سواء كانت تموينية أو حرة.
وأشار إلى أن مشروع "كاري أون" سيغطي على المدى المتوسط أكثر من 40 ألف منفذ، خاصة في المناطق الأكثر احتياجًا، بما في ذلك منافذ مشروع "جمعيتي"، وعدد من المنافذ التابعة لوزارات أخرى كوزارة الزراعة.
وأضاف أن المنتجات التي ستُعرض تحت العلامة التجارية الموحدة ستكون أغلبها محلية من إنتاج مصانع وشركات تابعة للشركة القابضة، مع الالتزام بتقديم أسعار منخفضة مقارنة بأي سلسلة تجزئة وطنية أو أجنبية، وبخدمة تضاهي ما يقدمه القطاع الخاص.
وبحسب خبير اقتصادي يعمل بوزارة التموين، فإن التوسع في منافذ بيع السلع واللحوم من جانب القوات المسلحة ووزارة الداخلية وكذلك وزارة التموين وبعض الأحزاب المحسوبة على الحكومة شجع على أن يتم تدشين سلسلة تجارية كبرى على مستوى جميع المحافظات.
وذلك بفعل ما تحققه المنافذ الحكومية من أرباح كبيرة نتيجة قدرتها بيع السلع بأسعار مخفضة واستفادتها من عدم دفع الضرائب أو مرتبات العاملين أو حتى إيجارات المحال ومنافذ البيع، وهو أمر يمكن أن يستفيد منه المواطن لكنه يشكل خطرا داهما على الاقتصاد المحلي.
وأوضح أن تحول الحكومة إلى تاجر تجزئة يقضي على ما تبقى من مساحات حركة للقطاع الخاص، وأن التجارب السابقة التي هدفت فيها الحكومة لتأسيس ما يشبه السلاسل التجارية سواء عبر تجربة "عمرأفندي" أو "صيدناوي" أو "باتا" أو "بنزايون" وغيرها من التجارب لم تنجح وفي الأغلب جرى بيع مقاراتها نتيجة الخسائر الفادحة لأن من يعملون بها موظفين وليسوا أصحاب مشاريع تجارية، وهو أمر تحاول الحكومة التغلب عليه هذه المرة نحو السماح بالقطاع الخاص لأن يكون شريكا لها، لكن تبقى التجربة غير مضمونة النجاح أيضا.
الفكرة تحتاج لتكلفة هائلة
كان المتحدث باسم وزارة التموين أكد أن مشروع "كاري أون" يستهدف على المدى المتوسط توحيد أكثر من 40 ألف منفذ بيع، لا سيما في المناطق الأكثر احتياجاً، بما يشمل منافذ مشروع "جمعيتي" ومنافذ تتبع وزارات أخرى كوزارة الزراعة.
وستعتمد السلسلة الجديدة في الغالب على منتجات محلية من إنتاج شركات ومصانع تابعة للشركة القابضة، مع التزام بتقديم أسعار أقل من تلك المعروضة في السلاسل الوطنية والأجنبية، وبخدمة تسعى لمضاهاة القطاع الخاص.
من جانبه، رأى خبير اقتصادي مقرّب من دوائر صنع القرار بالحكومة المصرية أن التوسع في إنشاء منافذ بيع حكومية، سواء عبر القوات المسلحة أو وزارة الداخلية أو وزارة التموين، إضافة إلى بعض الأحزاب المحسوبة على السلطة، دفع باتجاه إطلاق سلسلة تجارية موحدة، خصوصاً في ظل الأرباح الكبيرة التي تحققها هذه المنافذ نتيجة استفادتها من إعفاءات ضريبية وعدم دفعها لأجور العاملين أو إيجارات المحال.
وأضاف أن هذا التوسع قد يُشكل مكسباً مباشراً للمواطن في صورة أسعار مخفضة، لكنه في المقابل يفرض خطراً هيكلياً على الاقتصاد المحلي، عبر تقليص المساحة المتاحة أمام القطاع الخاص الذي يفتقر إلى الامتيازات ذاتها.
ولفت إلى أن تجارب الدولة السابقة في إنشاء سلاسل تجارية مثل "عمر أفندي"، "صيدناوي"، "بنزايون"، و"باتا" لم تُحقق النجاح المرجو، وانتهت أغلبها ببيع الأصول بسبب الخسائر، نظراً لأن من تولى إدارتها موظفون بيروقراطيون لا يملكون روح المبادرة التجارية.
وأشار إلى أن الحكومة تحاول تلافي هذه الإخفاقات من خلال فتح المجال أمام القطاع الخاص كشريك في مشروع "كاري أون"، إلا أن التجربة تبقى محفوفة بالمخاطر، خاصة في ظل غياب شروط المنافسة العادلة بين الطرفين.
أزمات غلاء يومية
تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن سوق تجارة التجزئة في مصر يشهد نمواً مطرداً، إذ بلغت قيمة المبيعات نحو 3.5 مليار دولار في نهاية العام المالي 2018–2019، محققة زيادة بنسبة 18.5% على أساس سنوي. وبحسب المؤشرات الحالية، من المتوقع أن تتجاوز المبيعات هذا العام حاجز 60 مليار جنيه (نحو 5 مليارات دولار).
فيما كشف تقرير صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء أن إجمالي مبيعات القطاع وصل إلى نحو 303 مليارات دولار خلال عام 2023، ما يعكس حجم القاعدة الاستهلاكية المصرية وإمكانات النمو طويلة الأجل، إذ تقدمت مصر إلى المركز السادس ضمن 30 دولة على مؤشر تجارة التجزئة للعام نفسه.
ورداً على الانتقادات الموجهة لمشروع "كاري أون"، دافع مصدر مسؤول في وزارة التموين عن توجه الدولة لتوحيد منافذ البيع تحت مظلة حكومية، موضحاً أن الهدف لا يتمثل في تعظيم الأرباح بقدر ما يركز على ضبط الأسعار، وتحقيق نوع من العدالة السعرية، خاصة في ظل غياب تعريفة موحدة للسلع الأساسية في الأسواق. ولفت إلى أن المشروع يركز على تغطية المناطق النائية والنجوع، وهي مناطق لا تجذب استثمارات القطاع الخاص بسبب ضعف العائد المتوقع.
وأشار المصدر إلى أن معظم استثمارات القطاع الخاص في تجارة التجزئة تتركز في المدن الكبرى والعواصم، بينما تغيب عن المحافظات النائية، مما يترك فجوة تسعى وزارة التموين إلى سدها.
وأكد أن المشروع الجديد لاقى ترحيباً من مستثمرين محليين وخليجيين، في ظل توجه الوزارة نحو رقمنة سلاسل التوريد، وتوسيع خدمات الدفع الإلكتروني، مع التركيز على تسويق المنتجات المحلية التي تحظى بقبول واسع في الأسواق الشعبية، وخاصة الأغذية والخضروات الطازجة.
وأوضح أن المشروع لا يستهدف منافسة القطاع الخاص بقدر ما يسعى لتحقيق التوازن في السوق، في ظل الارتفاعات الكبيرة في الأسعار وصعوبة الرقابة على آلاف المنافذ التجارية.
وأضاف: "السوق المصري كبير بما يكفي لاستيعاب مزيد من السلاسل التجارية، خاصة مع زيادة عدد السكان، والحاجة لتوفير سلع أساسية بأسعار مناسبة، ولا نية لدى الحكومة لإقصاء القطاع الخاص من هذا المجال".
كما أشار إلى أن التوسع العشوائي للسلاسل الخاصة أدى إلى زيادة الاستيراد من الخارج، بما شكل ضغطاً إضافياً على العملة الصعبة، وساهم في انتشار سلع مرتفعة الثمن لا تتماشى مع القدرة الشرائية للمواطنين.
وفي ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، يضيف المصدر، فإن التدخل الحكومي لتوفير سلع محلية بأسعار منخفضة يُعد ضرورة لضمان استقرار السوق.
وتعزز هذه المعطيات ما ورد في تقرير لمؤسسة "فيتش"، الذي رأى أن تمويل برنامج صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار من شأنه تعزيز الاستهلاك المحلي ودعم الاقتصاد الكلي على المدى الطويل، بما يخلق فرصاً إضافية في قطاع التجزئة ويزيد من جاذبيته لشركات الأغذية والمشروبات العالمية.
كما أن تعديل قانون مراكز التسوق عام 2018، والذي أقر إدراج مناطق تجارية في جميع المشاريع العقارية الجديدة، أتاح فرصاً واسعة أمام المستثمرين في هذا القطاع.
ووفق تقرير حديث لمؤسسة "يورومونيتور"، يشهد قطاع التجزئة في مصر منافسة متنامية بين علامات تجارية محلية ودولية، حيث استطاعت الشركات المحلية الحفاظ على ميزة تنافسية من خلال الأسعار الملائمة، والتكيف مع الثقافة المحلية، إلى جانب الاستفادة من الدعم الحكومي والحوافز الاستثمارية، ما يفتح الباب أمام تحولات هيكلية قد تعيد رسم خريطة تجارة التجزئة في البلاد.