إسرائيل تُعيد رسم خرائط الجنوب السوري..منطقة عازلة بلا سقف زمني وتحذيرات من مستنقع استنزاف جديد

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/24 الساعة 17:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/24 الساعة 17:52 بتوقيت غرينتش
التوغل الإسرائيلي في سوريا/ عربي بوست

لا يزال العدوان الإسرائيلي الأخير على الأراضي السورية يثير تفاعلات متزايدة في الأوساط السياسية والعسكرية داخل تل أبيب، بعدما كشف عن أبعاد تتجاوز مجرد الردع أو توجيه رسائل أمنية. فالتوقيت والسياق الميداني يشيان بمحاولة إسرائيلية ممنهجة لاستثمار حالة عدم الاستقرار الداخلي في سوريا، وإعادة رسم خطوط التأثير الإقليمي على حدودها الشمالية.

تكشف هذه التطورات عن مروحة من الأهداف التي تتراوح بين ما هو تكتيكي على المدى القريب، واستراتيجي على المدى البعيد، وسط مؤشرات على رغبة إسرائيلية في إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية، والبحث عن قوى محلية يمكن التعويل عليها كـ"حلفاء ميدانيين"، في إعادة إنتاج نموذج النفوذ الإسرائيلي في جنوب لبنان خلال الثمانينيات والتسعينيات.

إسرائيل تُقدِّم قدماً وتسحب أخرى في العلاقة مع سوريا

الجنرال عاموس يادلين، الرئيس الحالي لمنظمة "مايند إسرائيل"، والرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية- أمان، حدّد في مقال نشرته القناة 12، بصورة واضحة أهم ستة مصالح إسرائيلية في الساحة السورية على النحو التالي: 

  1. منع التهديد الأمني المباشر للجولان.
  2. الحيلولة دون نجاح العمليات الهجومية، وإطلاق الصواريخ، وتهريب الأسلحة عبر الحدود.
  3. إحباط التمركز الإيراني المتجدد في سوريا من خلال إعادة تثبيت مكانتها ووكلائها.
  4. التزام أخلاقي تجاه الدروز. 
  5. الحفاظ على قنوات التواصل مع النظام السوري الجديد لمراجعة الترتيبات الأمنية والسياسية، لأن وجود حكومة مركزية مستقرة شرط لتحقيق الهدوء، وإدارة المخاطر، ومنع التهديدات على الحدود.
  6. تقليص نفوذ تركيا التي لا يتوافق وجودها العسكري في جنوب سوريا مع المصالح الاسرائيلية. 

يزعم الاسرائيليون أنهم سيأتون هذه المرة لطاولة المفاوضات مع السوريين من موقع قوة، أكثر من أي وقت مضى، بعد سلسلة الهجمات على مواقع سيادية في قلب دمشق، خاصة مقر هيئة الأركان العامة، وبالتالي يمكنهم إعادة تحديد شروطهم، وتحديد مصالحهم في الدولة السورية، على النحو التالي: 

  • الحفاظ على منطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا.
  • الاتفاق على تشكيل القوات التي ستؤمِّن المنطقة العازلة.
  • جعل أي انسحاب للقوات الاسرائيلية من الأراضي السورية مشروطا بتنفيذ مطالبها تدريجياً. 

إسرائيل والدروز في سوريا

في تفسيرها لأسباب التصعيد الإسرائيلي الأخير في سوريا، تشير كارميت فالنسي، محررة الشؤون السورية في معهد أبحاث الأمن القومي بجامعة تل أبيب، إلى أن الخطاب الرسمي في تل أبيب برّر التدخل العسكري بزعم "حماية الدروز" في محافظة السويداء. 

غير أن هذا التبرير، كما توضح، لم يُجمع عليه الداخل الإسرائيلي، بل أثار نقاشاً واسعاً حول ما إذا كان الأمر التزاماً أخلاقياً أم مخاطرة سياسية وأمنية، خاصة في ظل وصف القادة الإسرائيليين للدروز بـ"حلفاء الدم" و"الإخوة"، ضمن رواية تسعى لربط مصيرهم بمصير الدولة.

فالنسي تؤكد أن خلف هذه العبارات العاطفية، تكمن حسابات أكثر عمقاً: ترى المؤسسة الإسرائيلية أن الدروز، بوصفهم يشكّلون الأغلبية السكانية في السويداء، يمكن أن يشكّلوا "حاجزاً بشرياً" يمنع وصول القوى "المعادية" إلى الحدود الإسرائيلية. لكنها في الوقت نفسه تحذّر من الإفراط في هذا الرهان، معتبرة أن الدعم الإسرائيلي للدروز ـ والذي تُرجم ميدانياً في غارات كثيفة طالت محيط دمشق ـ يعرّض الطائفة لاتهامات خطيرة، منها لعب دور "الطابور الخامس" خدمةً لأجندة تل أبيب، مما يهدد مكانتهم داخل المشهد السوري.

إلى ذلك، يلفت البروفيسور إيال زيسر، الخبير البارز في الشأن السوري ونائب رئيس جامعة تل أبيب، إلى أن هذا الانخراط قد يُفضي إلى "مستنقع جديد" على غرار التجربة الإسرائيلية في لبنان عام 1982. زيسر يوجّه تحذيراً واضحاً لصنّاع القرار في إسرائيل: "قد تظنّون أنكم بصدد تغيير المعادلات، لكنكم في الواقع تفتحون جبهة انتقام لا طائل منها، ستدفعون ثمنها باهظاً".

ويضيف: "صحيح أن لإسرائيل قوة عسكرية يُحسب لها حساب، لكن هذا لا يمنحها قدرة مطلقة على إدارة صراعات المنطقة. فالقوة لها حدود، ويجب قياس الأثمان قبل المغامرات"، مشيراً إلى أن الحملة الأخيرة في سوريا عكست قصوراً في الرؤية الاستراتيجية، وتجاهلاً لتجارب مريرة دفعت إسرائيل أثمانها لعقود.

الجنوب السوري

لا تُخفي إسرائيل قلقها المتصاعد من احتمال عودة الدولة السورية لبسط سيطرتها بالقوة العسكرية على الجنوب، وهي المنطقة الأقرب لحدودها. وفي ظل هذا التخوّف، تروّج تل أبيب لما تسميه بـ"حالة إعادة التشكّل" في بنية النظام السوري، حيث تزعم أن قادة فصائل جهادية سابقة باتوا جزءاً من الدولة، ما يعزز هواجسها الأمنية من تنامي ما تصفه بـ"الخطر المركّب".

عوفر غروزبيرد، الاستشاري السابق في قسم الأبحاث بالاستخبارات العسكرية ومؤلف سلسلة "الشيفرة الثقافية"، يوضح أن إسرائيل تضع نصب أعينها مطلباً واضحاً: الإبقاء على الجنوب السوري منزوع السلاح الثقيل. غير أن تكرار التدخلات الإسرائيلية، سواء تحت ذريعة "حماية الدروز"، أو "منع التمركز الإيراني"، أو "ضبط حدود نازفة"، ينطوي ـ برأيه ـ على تهديد خطير لوحدة الدولة السورية.

ويرى أن هذا المسار من شأنه أن يُضعف شرعية النظام المركزي، ويفاقم الانقسامات الداخلية، وهو ما يدفع دمشق إلى اتهام تل أبيب صراحة بمحاولة تفكيك البلاد واستثمار هشاشتها لتكريس نفوذها.

أما مايكل هراري، السفير الإسرائيلي الأسبق في قبرص والمسؤول السابق في وزارة الخارجية، فيطرح رؤية أكثر توازناً، محذّراً من أن المقاربة الحالية قد تُقوّض فرص إقامة علاقة مستقبلية مستقرة مع "سوريا الجديدة". ويرى هراري أن الانخراط الإسرائيلي في البُنى الطائفية والديمغرافية السورية، وخاصة في ملف الدروز، يُعد مخاطرة غير محسوبة، تعرقل إمكانية الوصول لتفاهمات أوسع على المدى الطويل.

وفي مقاله بصحيفة معاريف، دعا هراري إلى التوفيق بين هدفين رئيسيين في سياسة إسرائيل تجاه سوريا:
أولاً، السعي نحو اتفاقيات شاملة مع النظام السوري ـ حتى وإن بدا ذلك الآن محل شك.
ثانياً، الالتزام بالتضامن مع القوى المحلية كالدروز، دون التورط الميداني المفرط الذي جرّ إسرائيل سابقاً إلى مستنقعات مُكلفة، كما حدث في لبنان.

رسالة هراري واضحة: على إسرائيل أن تتعامل مع سوريا كدولة ذات تعقيدات داخلية متشابكة، لا كساحة مفتوحة لسياسات الاختراق والوصاية.

  • بين التفكك والاستقرار: ضبابية الموقف الإسرائيلي من مستقبل الدولة السورية
  • رغم تكثيف الغارات والتدخلات العسكرية، لا يزال الموقف الإسرائيلي من مستقبل الدولة السورية يكتنفه الكثير من التردد والغموض. فقد رصدت تل أبيب ردود الفعل السورية والعربية على ضرباتها الأخيرة، وعلى رأسها اتهامها بالسعي لتأجيج الصراعات الطائفية وتفكيك الدول العربية خدمة لمصالحها الأمنية.
  • الجنرال موشيه إلعاد، المستشار العسكري السابق لوزراء الدفاع، عبّر عن تشككه في جدوى تطبيع العلاقات مع سوريا، واعتبرها دولة مفككة تستوجب الحذر الشديد في التعامل معها. وأشار إلى أن أحداث السويداء الأخيرة فجّرت نقاشًا داخليًا في إسرائيل حول مدى استقرار النظام السوري الجديد، ومدى واقعية الرهان عليه كشريك في اتفاقيات مستقبلية.
  • هذه المعضلة، كما يصفها خبراء آخرون، تتعلق بعدم حسم إسرائيل لسؤال محوري: هل تفضل دولة سورية موحدة ومستقرة، أم مفككة وضعيفة؟. الباحث إيتاي ميدينا من مركز شاشا في الجامعة العبرية، لفت إلى أن الدولة السورية، رغم اتصالات تل أبيب الأخيرة بها، لا تزال عاجزة عن بسط سيطرتها الكاملة على أراضيها، مما يبقي الشكوك حول قدرتها ونواياها.
  • في المقابل، فإن غياب سلطة مركزية فاعلة قد يؤدي إلى ظهور جماعات متطرفة خارجة عن السيطرة، ما ينذر بفوضى أمنية يمكن أن تتسلل إلى داخل إسرائيل. أما الخبير شاي غال فذهب إلى التحذير من سيناريو انهيار الدولة السورية بالكامل، واعتبر أن ما يحدث في الجنوب ليس استثناءً بل بداية لتفكك شامل إذا لم ينجح الحكم الجديد في تثبيت شرعيته.
  • وفي هذا السياق، دعا يوني بن مناحيم، ضابط الاستخبارات السابق والباحث في شؤون الشرق الأوسط، إلى انتهاج سياسة أكثر اتزاناً، تقوم على ثلاث ركائز: الحفاظ على الالتزام تجاه الدروز، وضمان الأمن الحدودي، وتجنّب التورط في صراع مفتوح مع دمشق. كما شدد على أهمية الحفاظ على تنسيق وثيق مع الولايات المتحدة، ودعم مبادرات المصالحة المحلية التي قد تفضي إلى تهدئة داخلية بين الدولة السورية ومكوناتها، خاصة الدروز.
  • في المحصلة، تبدو إسرائيل حائرة بين مسارين متضادين: دعم الاستقرار على أمل شراكة مستقبلية مع نظام مركزي، أو استغلال التفكك لتعزيز نفوذها الأمني الحدودي. لكن ما يتفق عليه خبراؤها أن أي مغامرة غير محسوبة، أو انزلاق غير مدروس، قد يعيد إنتاج "الورطة اللبنانية" في صيغة سورية أكثر تعقيداً.

شبح "الوحل اللبناني" وخشية حرب الاستنزاف: دروس الماضي تُطارد حسابات الحاضر

رغم التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد سوريا منذ نهاية عام 2024، إلا أن دوائر القرار في تل أبيب لا تُخفي قلقها من التورط في مستنقع طويل الأمد على الجبهة الشمالية، يُعيد إلى الأذهان تجربة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان بين 1982 و2000. هذا التخوّف المتزايد تعزّزه القناعة بأن إسرائيل لا تسعى لمواجهة مفتوحة، بل تُفضّل الحفاظ على توازن هش يُبقي إيران ووكلاءها بعيدين عن الحدود، حتى لو تطلب الأمر تفاهمات صامتة مع النظام السوري.

دان دايكر، رئيس مركز القدس للشؤون الخارجية والأمنية، حذر من أن الضربات الأخيرة في قلب دمشق قد تُضعف القيادة السورية وتُقوّض أي محاولة انفراج بين الطرفين. وأشار إلى أن المخاوف الأمنية الإسرائيلية لا ترتبط فقط بأحداث السويداء، بل تتجاوزها إلى تحركات ميدانية لجماعات مسلّحة سورية تتقدم جنوبًا نحو الجولان، ما يخلق "أزمة حدودية" قد تتحول إلى تهديد مباشر.

ويُعيد دايكر التذكير بـ"درس السابع من أكتوبر 2023″، حين فجّرت حماس جبهة الجنوب في غزة بضربة مباغتة. ويرى أن تل أبيب تبنّت بعدها عقيدة جديدة تُقدّم الوقاية على الرد، والردع على الاحتواء، ما يبرّر الضربات الاستباقية، حتى وإن جرّت عواقب دبلوماسية قاسية لاحقًا.

من جهته، يرى الكاتب اليميني أورلي غولدكلانغ أن المنطقة العازلة مع سوريا تشكل معضلة استراتيجية لإسرائيل: من جهة تُعد خط صد أمام إيران، ومن جهة أخرى قد تتحول إلى ساحة احتلال دائم كما حدث في لبنان. ويرى أن تل أبيب باتت تميل إلى فكرة إقامة مناطق عازلة عميقة تمتد إلى أطراف دمشق، كما أشار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي أمر بإبقاء التمركز العسكري في الجنوب دون سقف زمني واضح.

لكن، مع تزايد التحذيرات من الوقوع في فخ "الاحتلال المفتوح"، تصاعدت الدعوات داخل إسرائيل لتفادي سيناريو الجنوب اللبناني، خاصة أن تجربة حزب الله كشفت أن احتلال الأرض لا يمنع تطور تهديد غير متماثل وخطير.

مواجهة التمدد الإيراني: استراتيجية الاحتواء بالوكالة

منذ مطلع عام 2025، ارتفعت وتيرة التحذيرات الإسرائيلية من إعادة تموضع إيراني في الجنوب السوري. فقد أشار وزير الدفاع يسرائيل كاتس إلى ضرورة الاستعداد لأي سيناريو محتمل على الحدود، بعد تقارير تفيد بمحاولات تسلل لعناصر مدعومة من طهران نحو الجولان، ما يعيد إلى الأذهان مشهد هجمات أكتوبر 2023.

موقع ناتسيف نت العسكري نقل تقديرات أمنية تزعم أن هذه العناصر قد تنفذ هجمات باستخدام شاحنات صغيرة أو دراجات نارية، تستهدف مستوطنات وقوافل ودوريات، وسط تحذيرات من اختراقات من الجو أو عبر الأنفاق.

ولمواجهة هذه التهديدات، بنت إسرائيل استراتيجيتها على أربعة محاور:

  1. هجمات جوية مركّزة ضد البنية التحتية المعادية.
  2. منع تمركز حزب الله أو القوات الإيرانية قرب الحدود.
  3. استخدام أدوات ضغط غير مباشر عبر التنسيق مع الدروز المحليين.
  4. الانخراط في أي ترتيبات أمنية مستقبلية بشأن الجنوب السوري.

كما كشفت مصادر عسكرية لموقع ويللا أن الجيش الإسرائيلي بدأ فعليًا "الدفاع من داخل سوريا"، ببناء حواجز، وجدران إسمنتية، وخطوط مضادة للدروع، إضافة إلى تكثيف حملات الاعتقال وجمع المعلومات الاستخباراتية في القرى السورية المحاذية.

تحميل المزيد