“من المصالحة الدينية إلى التسوية السياسية: هل تعود العلاقات بين بيروت ودمشق بعد عقدين من القطيعة؟”

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/14 الساعة 22:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/14 الساعة 22:23 بتوقيت غرينتش
توتر على الحدود بين لبنان وإسرائيل/Reuters

منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان/أبريل عام 2005، عقب الزلزال السياسي الذي أحدثه اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري، دخلت العلاقة بين بيروت ودمشق في دوامة من القطيعة العلنية، والتواصل السرّي، والتوتر الخاضع لموجات المدّ والجزر الإقليمي.

على مدى عقدين كاملين، بقيت هذه العلاقة أسيرة الماضي، رهينة ذاكرة مشتركة مثقلة بالدم والنفوذ والتداخل الأمني والسياسي. ولطالما بدا أن المسافة بين الدولتين أكبر بكثير من حدودهما الطويلة، وأنهما تفترقان عند كل مفترق إقليمي، أو تفاوض دولي، أو منعطف داخلي في أيٍّ منهما.

لكن مشهد ما بعد العام 2024 فرض واقعًا مختلفًا. فالسقوط السياسي للنظام السوري القديم، وخروج بشار الأسد من المشهد بعد ما يقرب من ربع قرن في السلطة، فتح الباب أمام مقاربة جديدة للعلاقة بين البلدين، لا تقوم على مقايضة الضعيف بالقوي، بل على اختبار شراكة معقولة بين دولتين مكلومتين تتلمسان طريق النجاة من ركام الحروب والأزمات.

وينتظر لبنان الرسمي زيارة سيجريها وزير الخارجية السوري أسعد شيباني إلى بيروت خلال الشهر الحالي، وذلك في إطار ترتيب الملفات السورية–اللبنانية الشائكة، والتي تعمل أطراف متعددة على تسهيلها، وتحديدًا الولايات المتحدة الأميركية.

عودة العلاقات والتنسيق

ومع صعود الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، برزت إشارات أولى إلى أن العلاقة بين لبنان وسوريا لم تعد محكومة بذاكرتَي الوصاية أو القطيعة، بل بإرادة تأسيس جديدة تقرأ التوازنات لا الأوهام، وتُبنى على الاعتراف بالسيادة لا على تقاسمها.

في هذا السياق، جاءت زيارة رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام إلى دمشق، في نيسان/أبريل 2025، لتكسر جدار الصمت، وتطلق مسارًا حذرًا لإعادة تعريف العلاقة من فوق الطاولة.

أحد أبرز مظاهر هذا التحول يتمثل في انتقال العلاقة من حالة الانفعال إلى مسار التنسيق المرحلي. فبدلاً من ردود الفعل التي حكمت السنوات الماضية، وبدلاً من التعامل مع الملفات الثنائية كأوراق تفاوض إقليمية، بدأت تتشكّل في أروقة القرار بين بيروت ودمشق خطوط تواصل منهجية، ظهرت في الاجتماعات الأمنية واللقاءات الوزارية، وتُرجمت لاحقًا في الاتفاق على تشكيل لجان مشتركة تعالج ملفات دقيقة وحساسة، مثل ترسيم الحدود، وملف اللاجئين، والتنسيق الأمني في المناطق المتداخلة.

ملفات متشابكة

يُعد ملف ترسيم الحدود بين البلدين أحد أقدم وأكثر الملفات تعقيدًا، كونه يتجاوز الجغرافيا إلى بنية اقتصادية–اجتماعية ترعرعت على هامش الدولة، وارتبطت بقنوات تهريب وشبكات عشائرية ومصالح فئوية لم تكن تتصور أن للدولة حدودًا.

ويعود ملف ترسيم الحدود بين البلدين إلى عام 1943، حيث بقي من دون تسوية نهائية، واعتمد البلدان على "خط الحدود الإدارية" الذي وضعه الانتداب الفرنسي بين ولايتي بيروت ودمشق، دون أن يُستكمل كترسيم حدود دولية معترف بها.

ومع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان وتدخل القوات السورية داخل الأراضي اللبنانية عام 1976، زادت تعقيدات هذا الملف، حيث تداخل الأمن بالسيادة، وأُهمل أي مسار رسمي لترسيم الحدود.

وعقب انسحاب القوات السورية عام 2005، عاد الموضوع إلى الواجهة ضمن سياق إعادة تنظيم العلاقات بين البلدين، إلا أن دمشق في عهد الأسد تعاملت بحذر مع الأطروحات اللبنانية، معتبرة أن الحدود "ليست أولوية" في ظل الأوضاع الإقليمية.

ورغم محاولات متكررة من جانب الحكومات اللبنانية، خصوصًا فيما يتعلّق بضبط الحدود البرية ومكافحة التهريب، فإن الملف ظلّ عالقًا، مما أسهم في تفاقم الإشكالات الأمنية والاقتصادية، لا سيما مع ازدياد التوترات المرتبطة بالمعابر غير الشرعية وتدفّق اللاجئين السوريين.

ومن أبرز المشاكل في ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان هو التداخل الجغرافي والديموغرافي، فهناك قرى وبلدات تقع على الحدود، بعضها يتبع لبنان إداريًا لكن سكانها يحملون الجنسية السورية، والعكس صحيح.

وفي منطقة القصر في البقاع اللبناني، يعيش سكان يحملون الجنسية السورية ويتنقّلون يوميًا بين البلدين دون وجود نقاط تفتيش واضحة. وقد جعل هذا التداخل مسألة ترسيم الحدود حساسة، لأن أي تغيير قد يؤثر على حياة السكان المحليين.

كما أن هناك مناطق زراعية متنازعًا عليها مثل مزارع شبعا، التي تُعدّ نقطة حساسة بسبب موقعها الإستراتيجي على الحدود مع هضبة الجولان السورية المحتلة، ولأن الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني المحتل لم يشمل هذه المنطقة بزعم أنها أرض سورية.

وبسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة وفارق الأسعار بين لبنان وسوريا، نشط تهريب السلع الأساسية على الحدود في الاتجاهين، مثل المحروقات والطحين. وخلال الثورة السورية، زادت عمليات التهريب والتنقّل غير القانوني، سواء بسبب اللاجئين أو المجموعات المسلحة.

وإلى جانب التهريب، تكثر الأحداث الأمنية على الحدود اللبنانية-السورية، وآخرها الاشتباكات التي اندلعت يوم 15 آذار/مارس الماضي، حيث اتهمت وزارة الدفاع السورية حزب الله بنصب كمين وخطف ثلاثة عناصر أمنية عند الحدود، قبل اقتيادهم إلى داخل الأراضي اللبنانية وتصفيتهم، غير أن الحزب نفى أي علاقة له بالأحداث.

وبحسب مصادر أمنية لبنانية لموقع "عربي بوست"، فإنه وعلى امتداد الشريط الحدودي، لا سيما في البقاع الشمالي وعكار، نشأت منظومة من العلاقات العميقة بين السكان المحليين والقوى الفاعلة غير الرسمية، وعلى رأسها حزب الله من الجانب اللبناني، ومجموعات موالية للنظام السابق من الجانب السوري. وقد شكّلت هذه المناطق، طوال العقدين الماضيين، ممرًا للسلاح والمخدرات، وقناة تواصل غير رسمية بين أجهزة كانت أقوى من المؤسسات.

لكن التحوّلات الأمنية والسياسية الأخيرة دفعت نحو مقاربة مختلفة. فبفعل ضغوط دولية متزايدة لتجفيف شرايين الدعم اللوجستي لحزب الله، وتحت رعاية سعودية مباشرة، بدأت مؤشرات التنسيق الأمني بين الجيشين اللبناني والسوري تظهر إلى العلن.

ووفق المعلومات، فإن لقاءات متعددة عُقدت خلال شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو، بين العميد الركن ميشال بطرس ممثلًا عن قيادة الجيش اللبناني، ونظرائه السوريين في وزارة الداخلية وهيئة الأركان، جرى خلالها الاتفاق على تفعيل التعاون الميداني، وتبادل المعلومات، والبدء برسم خطوط تماس أمنية واضحة.

وقد أكّد رئيس الجمهورية اللبنانية، جوزيف عون، خلال استقباله المبعوث الأممي غير بيدرسن، أن هناك "اتفاقًا مبدئيًا على تشكيل لجان مشتركة لمعالجة ملفات الحدود"، مشددًا على أن "الهدوء القائم على الحدود يجب أن يُستثمر لترسيخ الاستقرار، لا أن يُعتبر دائمًا".

الترسيم البحري… ملف صراعي مؤجّل

لا يقلّ ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وسوريا أهمية عن ملف ترسيم الحدود البرية، بل يُعدّ من أبرز القضايا العالقة بين البلدين، ويتسم بتعقيدات قانونية وسياسية واقتصادية متشابكة.
تعود جذور النزاع إلى عام 2011، حين أصدرت الحكومة اللبنانية المرسوم رقم 6433، الذي حدّدت بموجبه حدود لبنان البحرية، بما في ذلك حدوده الشمالية مع سوريا. في المقابل، اعتمدت سوريا خطًا مستقيمًا يؤدي إلى تداخل بحري مع لبنان بمساحة تتراوح بين 750 و1000 كيلومتر مربع، ما أدى إلى نشوء منطقة بحرية متنازع عليها.

في أعقاب التغيرات السياسية في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، شهد الملف تحركات دبلوماسية جديدة؛ ففي آذار/مارس 2025، وقّع وزيرا الدفاع اللبناني والسوري اتفاقًا في جدة برعاية سعودية، لتشكيل لجان قانونية وفنية مشتركة تبحث في ترسيم الحدود وتعزيز التنسيق الأمني.

في هذا السياق، يشير وزير البيئة اللبناني السابق ناصر ياسين، في حديثه إلى "عربي بوست"، إلى أن الخلاف البحري بين الجانبين يؤثر مباشرة على "البلوكين 1 و2" من المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان، واللذين يتداخلان مع "البلوك رقم 1" السوري.
وأضاف أن هذا التداخل يعقّد جهود التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط، وقد يُثني المستثمرين عن المشاركة في جولات التراخيص اللبنانية. أما من الناحية الأمنية، فإن ضبط الحدود البحرية والبرية يُعدّ خطوة ضرورية للحد من التهريب وتعزيز سيادة الدولة.

ويشير ياسين إلى أن التقدم الحاصل، رغم نسبيته، لا يزال يواجه تحديات قانونية، أبرزها أن أي اتفاق لترسيم الحدود يجب أن يُقرّ من قبل برلماني البلدين، وهو أمر غير متاح حاليًا في سوريا بسبب الوضع السياسي الراهن. كما أن غياب الاعتراف السوري الرسمي بلبنانية مزارع شبعا يعقّد مسألة ترسيم الحدود البرية، ويبقيها ورقة ضغط سياسية في يد دمشق.

اللاجئون السوريون في لبنان: العودة المؤجّلة ومعضلة التنسيق

يُعتبر ملف اللاجئين السوريين في لبنان أحد أبرز القضايا في مسار العلاقة اللبنانية–السورية، إذ يُقدّر عددهم بأكثر من مليون ونصف مليون لاجئ، وسط تراجع حاد في مستويات الدعم الدولي، وتصاعد حدة الاحتقان الداخلي في لبنان.

ويبرز التقارب اللبناني–السوري مؤخرًا كتحوّل نوعي في مقاربة بيروت لهذا الملف، بعدما باتت القناعة راسخة لدى المسؤولين اللبنانيين، ووفقًا لنائب رئيس الحكومة طارق متري، الذي يترأس لجنة العودة الطوعية للاجئين السوريين، فإن حل هذا الملف لا يمكن أن يتحقق دون تنسيق مباشر مع دمشق.

ويعكس هذا التوجّه قراءة واقعية، مفادها أن الإجراءات الأمنية وحدها غير كافية، بل لا بدّ من مسار سياسي واقتصادي موازٍ يضمن مقوّمات العودة المستدامة.
ويعتبر متري أن قضية اللاجئين تمثّل "أولوية وطنية"، مشيرًا إلى مؤشرات دولية مشجعة، أبرزها تخفيف الولايات المتحدة بعض العقوبات المفروضة على سوريا، ما يُمهّد نظريًا لمرحلة عودة تدريجية، خاصة إذا رافق ذلك تحسّن نسبي في الأوضاع الاقتصادية داخل البلاد.

وفي هذا الإطار، تتبلور مقاربة ثلاثية الأبعاد لمعالجة الملف، تدمج بين الاعتبارات الأمنية، والتحركات السياسية، والحوافز الاقتصادية التي من شأنها تشجيع السوريين على العودة الطوعية.
وفي ترجمة أولية لهذه المقاربة، أعلنت الحكومة اللبنانية عن "خريطة طريق مبدئية" تقوم على ثلاث ركائز:

  1. تعزيز التنسيق مع الدولة السورية، بصفتها الطرف المعني المباشر بملف العائدين.
  2. استمرار التعاون مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لضمان المعايير الإنسانية.
  3. تقديم حوافز مادية وخدمية للمشمولين بالعودة، بدعم من منظمات دولية وجهات مانحة عربية.

ورغم وضوح ملامح هذه الخطة، فإنها لا تزال حبيسة التصريحات السياسية، في ظل غياب لجنة تنفيذية لبنانية–سورية مشتركة، تتولى مهمة تقييم الظروف الأمنية في مناطق العودة، وتصنيف الحالات وفق معايير دقيقة، وتوفير الضمانات القانونية والإنسانية التي تكفل حماية العائدين من التعسف أو الملاحقة، وهو ما يُعدّ شرطًا أساسيًا لتطبيق واقعي وناجح لأي خطة عودة.

من جهته، يشير مصدر دبلوماسي سوري لـ"عربي بوست" إلى أن دمشق أبدت انفتاحًا مبدئيًا على التعاون في ملف عودة اللاجئين، لكنها تشترط أن تتم العودة ضمن مقاربة مدروسة تضمن الحفاظ على الكرامة الإنسانية للعائدين، وتراعي التوازنات الداخلية وظروف الاستقرار الهشّ في البلاد.

وبحسب السلطات السورية، فإن نجاح العودة لا يُقاس فقط بالأعداد، بل بقدرة الدولة على استيعاب العائدين وتأمين الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة، وهو ما يتطلب وقتًا، ومأسسة حقيقية لهذا المسار، وتعاونًا دوليًا وعربيًا فعّالًا.

بالموازاة، يشير مصدر أمني لبناني لـ"عربي بوست" إلى أن عمليات العودة لا تزال حتى الآن محدودة ومتقطّعة، وتُنفّذ عبر مبادرات محلية أو أمنية ذات طابع تنسيقي جزئي، وغالبًا ما تفتقر إلى الإطار المؤسّسي المدروس الذي يضمن استدامتها ويعزز الثقة بها.
ويُضاف إلى ذلك التراجع الملحوظ في المساعدات الدولية، لا سيما تلك المخصّصة للبنية التحتية في المجتمعات المضيفة.

زيارة دريان: مصالحة السنة مع سوريا

ضمن هذا المسار، جاءت زيارة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى دمشق، في مشهد حمل من الرمزية الدينية والسياسية أكثر مما بدا للعيان. فأن يظهر المفتي في المسجد الأموي محاطًا بعلماء الشام، بعد عقدين من القطيعة، يعني أن شيئًا ما يُعاد ترميمه، لا فقط على مستوى العلاقة بين المؤسسات الدينية، بل في عمق المزاج السني في المشرق. وقد التقى دريان الرئيس السوري أحمد الشرع، ووزير الأوقاف، وتم الاتفاق على تفعيل التعاون العلمي والديني، عبر إرسال طلاب سوريين إلى الكليات الإسلامية اللبنانية، في مؤشر إلى أن "الدين" قد يعود جسرًا لا سيفًا، ورمزًا للتفاعل لا مادة للاحتقان.

الموقوفون السوريون في لبنان.. انزعاج سوري

يُعدّ ملف الموقوفين السوريين في لبنان أحد الملفات التي تطالب سوريا بمعالجتها بشكل فوري، حيث أبدت السلطات السورية استياءً شديدًا من أداء الحكومة اللبنانية في هذا الملف، معتبرة أن "البطء والتسويف في معالجة هذا الملف الحساس يفاقمان التوتر بين الجانبين، ويعكسان غياب الجدية في تحسين العلاقات الثنائية".

في هذا الإطار، تشير مصادر دبلوماسية سورية لـ"عربي بوست" إلى أن الحكومة السورية تدرس اتخاذ خطوات للرد على ما تعتبره "تجاهلًا لبنانيًا لملف إنساني من الدرجة الأولى"، مشيرة إلى أن هذه الخطوات قد تشمل فرض رسوم إضافية أو قيود جديدة على حركة الصادرات اللبنانية التي تمر عبر المعابر البرية مع سوريا، في إجراء قد يشكّل ضغطًا مباشرًا على الحكومة اللبنانية.

وسيكون لهذا القرار تداعيات سلبية كبيرة، خصوصًا أن لبنان يمرّ بظروف اقتصادية بالغة الصعوبة، وتعتمد شرائح واسعة من قطاعاته الإنتاجية على التصدير البري عبر الأراضي السورية للوصول إلى الأسواق الخليجية والأردنية.

وترى دمشق أن تسريع معالجة هذا الملف يُعد مدخلًا أساسيًا لإعادة بناء الثقة بين البلدين، وفتح المجال أمام تعاون أوسع في ملفات أخرى عالقة، بما فيها الترسيم الحدودي وعودة اللاجئين. وتشير المعلومات إلى أن الملف مطروح بجدية على طاولة الاتصالات اللبنانية–السورية الجارية منذ زيارة رئيس الحكومة نواف سلام إلى دمشق، كما يُشكّل أحد البنود التي تتابعها اللجنة الوزارية اللبنانية الخاصة بالعلاقة مع سوريا، برئاسة نائب رئيس الحكومة طارق متري.

لكن حتى الآن، لم تتبلور أي آلية واضحة لمعالجة هذا الملف، وسط تباين في المواقف داخل الحكومة اللبنانية، بين من يدعو إلى مقاربة قضائية وقانونية دقيقة، ومن يفضّل حسم الملف تحت عنوان "التعاون الأمني المتبادل".

الموقف الأميركي والتطبيع السوري–الإسرائيلي

وسط هذا كله، يبرز موقف الولايات المتحدة بوصفه العامل الأكثر تأثيرًا في رسم حدود المسموح والممنوع في العلاقة بين بيروت ودمشق. ففي مقابلة مع المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، أكد أن بلاده لم تعد ترى في رسم الخرائط وفرض الحدود وسيلة لحفظ الاستقرار، بل باتت تعتبر أن عهد التدخل المباشر قد انتهى، وأن على الدول المعنية أن تدير شؤونها ضمن أطر من الشراكة والاحترام.

لكنه، في الوقت ذاته، وضع ثلاثة شروط ضمنية لأي تطبيع محتمل مع سوريا ولبنان: نزع السلاح غير الرسمي، ضبط الحدود، وإنهاء النفوذ الإيراني العابر للحدود.

في هذا الإطار، يعتبر نائب مديرة مركز كارنيجي، مهند الحاج علي، أنه مع تزايد التسريبات في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية الغربية حول مفاوضات تجري بين سوريا وإسرائيل برعاية إقليمية وأميركية، يجري بحث إمكانية التوصل إلى اتفاق تطبيع يشبه نماذج سابقة وقّعتها دول عربية مع تل أبيب.

ورغم أن هذه المفاوضات لا تزال في مراحلها الأولية وغير المُعلنة رسميًا، إلا أن هناك تقارير متقاطعة بدأت تتحدث عن استعداد إسرائيلي للانسحاب من المناطق السورية التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد، في مقابل تفاهمات سياسية وأمنية تشمل أيضًا الاعتراف بسورية مزارع شبعا، وهي المنطقة الحدودية المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل والتي لطالما اعتبرها لبنان أرضًا لبنانية محتلة، بينما امتنعت سوريا تاريخيًا عن تقديم وثيقة رسمية تؤكد تبعيتها للبنان.

وعلى الرغم من تقليل الحاج علي من جدية الأمر، إلا أنه يعتبر إمكانية حصوله أمرًا غير هامشي على الإطلاق بالنسبة إلى لبنان، خصوصًا أن مشروع "حزب الله" لطالما استند إلى الاحتلال الإسرائيلي لشبعا وكفرشوبا كمبرر لاستمرار السلاح خارج سلطة الدولة. وفي حال اعترفت سوريا رسميًا بأن هذه الأراضي سورية لا لبنانية، فإن ذلك سيشكّل ضربة قوية للشرعية السياسية والدستورية لسلاح الحزب، كما سيُحرج الدولة اللبنانية، التي طالبت مرارًا بترسيم الحدود مع سوريا لإثبات لبنانية تلك المنطقة، دون أن تلقى استجابة واضحة من دمشق.

جهود دولية وعربية.. علاقة ندية

في موازاة الحوارات الرسمية المستأنفة بين بيروت ودمشق، تنشط مجموعة من الأطراف الإقليمية والدولية للعب أدوار داعمة تسعى إلى تيسير مسار التفاهمات الثنائية وتذليل العقبات العالقة بين لبنان وسوريا. ووفق مصدر رفيع في وزارة الخارجية اللبنانية لـ"عربي بوست"، فإن دولًا عربية مؤثرة تبذل جهودًا ملموسة في سبيل احتواء الخلافات المتراكمة بين البلدين، والدفع نحو بناء أرضية تعاون منهجي تفتح المجال أمام معالجة تدريجية للملفات الشائكة.

وفي طليعة هذه الأطراف، تبرز المملكة العربية السعودية، التي تتابع، من خلال لجنة ثلاثية تضم وزيري الدفاع في كلٍّ من لبنان وسوريا، مسار المعالجة التقنية للأزمات الحدودية العالقة، وبخاصة ما يتعلق بالحدود البرية التي لا تزال تشكّل نقطة ضعف أمنية للطرفين. فعمليات التهريب المتواصلة للأشخاص والبضائع عبر المعابر غير الشرعية، تستند إلى واقع جغرافي متداخل، وتفتقر إلى آلية ترسيم واضحة ومثبتة دوليًا، وهو ما يتطلب تفعيل دور الأمم المتحدة في هذا المسار، وفق المصدر ذاته.

أما قطر، فتؤدي دورًا محوريًا في ربط الدعم السياسي واللوجستي بمسارات الاستقرار الميداني، حيث تُسهم بفعالية في تعزيز صمود الجيش اللبناني، عبر تقديم دعم مباشر للمؤسسة العسكرية بهدف تمكينها من الانتشار على امتداد الحدود مع سوريا، لا سيما في المناطق الشمالية والشرقية. وتواكب الدوحة هذا الدور بمساعٍ سياسية وإنسانية موازية تشمل التنسيق مع الحكومتين اللبنانية والسورية ومع الوكالات الدولية، لإطلاق آلية مدروسة تُفضي إلى عودة طوعية منظمة للاجئين السوريين.

وتأتي هذه التحركات القطرية ضمن إطار تفاهم ثلاثي مع الرياض وأنقرة، يسعى إلى خلق ظروف سياسية واقتصادية مواتية في سوريا، من خلال الدفع باتجاه تخفيف العقوبات الأميركية والأوروبية وتوفير حوافز لعودة الاستقرار.

على خط موازٍ، انخرطت باريس بفعالية في الدفع نحو صياغة مقاربة دبلوماسية بين البلدين، حيث رعت الرئاسة الفرنسية لقاءً افتراضيًا جمع الرئيس اللبناني جوزيف عون ونظيره السوري أحمد الشرع، بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في خطوة عكست الرغبة الفرنسية في استعادة زمام المبادرة في الملف اللبناني–السوري ضمن استراتيجية أوسع لتفعيل الدور الأوروبي في شرق المتوسط.

في الوقت نفسه، تُواصل بريطانيا أداء دور تقني حاسم في ضبط الحدود بين البلدين، من خلال الإشراف على أبراج المراقبة التي أُقيمت بدعم بريطاني على الحدود اللبنانية–السورية. وتشكل هذه الأبراج إحدى الأدوات الأساسية في الرصد الأمني ومكافحة التهريب وضبط التحركات غير النظامية، في إطار رؤية بريطانية تُعطي الأولوية للدعم المؤسساتي والتقني للدولة اللبنانية، في مواجهة تحديات أمن الحدود والهجرة غير الشرعية.

فرصة جديدة أم فخّ متجدّد؟

يُظهر هذا التداخل العربي والدولي أن مسار التطبيع التدريجي بين بيروت ودمشق لا يُبنى فقط على الاعتبارات الثنائية، بل هو نتاج شبكة مصالح ووساطات وموازنات إقليمية متشابكة، تسعى إلى إعادة ترتيب العلاقة ضمن معادلة تحفظ استقرار البلدين وتراعي توازنات ما بعد الحرب السورية.

باختصار، فإن موضوع التطبيع السوري–الإسرائيلي، في حال تبلوره، لا يُعد شأنًا سوريًا داخليًا فحسب، بل هو ملف إقليمي يمسّ مباشرة الأمن القومي اللبناني، ويعيد خلط الأوراق في الجنوب، ويضع الحكومة اللبنانية أمام معادلة معقدة:
إما الانخراط في تسوية شاملة تشمل الترسيم، والسلاح، والعلاقات مع دمشق،
أو الوقوف أمام واقع إقليمي جديد يتشكّل من دونها، وقد يفرض عليها قرارات صعبة لم تستعد لها بعد.

علامات:
تحميل المزيد