تصعيد جديد من فرنسا تجاه الجزائر في ظل الأزمة الدبلوماسية غير المسبوقة التي تُخيم على العلاقة بين البلدين منذ أشهر، وجاء هذه المرة على لسان المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية التي كشفت عن إجراءات ستتخذها باريس ستطال هذه المرة جزءاً من الجالية الجزائرية التي تُعتبر الأكبر في فرنسا.
إذ كان الدبلوماسيون من البلدين ضحية للتوترات المستمرة بين باريس والجزائر خلال الأسابيع الماضية، عندما طرد البلدان موظفين دبلوماسيين من الجانبين، بعد أن وصلت الأزمة بين الجزائر وفرنسا إلى مستوى غير مسبوق إثر اعتقال دبلوماسي جزائري واتهامه باختطاف معارض مقيم في فرنسا.
من خلال هذا التقرير سنوضح المرحلة التي وصلت إليها الأزمة بين الجزائر وفرنسا، وطبيعة الإجراءات التي من المنتظر أن تتخذها باريس وتهم الجالية الجزائرية التي تعيش في فرنسا، وكيف يمكن أن تؤثر على مئات آلاف الجزائريين، وإلى أي مدى ممكن أن تتطور الأزمة بين الجزائر وفرنسا.
أزمة غير مسبوقة وتهديدات بإجراءات "عقابية"
في آخر تحديث للمستوى الذي وصلت إليه الأزمة بين الجزائر وفرنسا، قالت المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية، صوفي بريماس، الخميس 15 مايو/أيار 2025، إن "العلاقات مع الجزائر تزداد سوءاً وتسير في الاتجاه الخاطئ".
تعليق بريماس على تطورات الأزمة بين الجزائر وفرنسا يأتي بعد إعلان وزير الخارجية الفرنسي، جان-نويل بارو، أن فرنسا استدعت القائم بالأعمال الجزائري في باريس للتنديد بالقرار "غير المبرر" الذي اتخذته الجزائر بطرد دبلوماسيين فرنسيين، وإبلاغه بأن باريس سترد بإجراء مماثل.
وقال الوزير لقناة "BFM TV" الفرنسية، "ردنا فوري وحازم ومتناسب في هذه المرحلة (…) سيرحل حاملو جوازات سفر دبلوماسية الذين لا يحملون تأشيرة حالياً، إلى الجزائر". وأفاد مصدر دبلوماسي فرنسي بأن الأشخاص المعنيين هم موظفون في مهام إسناد مؤقتة، دون تحديد عددهم أو موعد تنفيذ قرار طردهم.
لكن المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية كشفت عن إجراءات "أكثر أهمية" ستتخذها باريس في ظل تفاقم الأزمة بين الجزائر وفرنسا، والمثير للاهتمام أن المسؤولة الفرنسية تحدثت هذه المرة عن إجراءات تهم جزءاً من الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا.
وقالت بريماس "اليوم، يعمل وزير الشؤون الخارجية، ورئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء على ترتيبات أخرى أكثر أهمية، لا سيما فيما يتعلق بجزء من الجالية الجزائرية، من أجل إحراز تقدم في مواضيع أخرى"، دون أن تقدم مزيداً من التفاصيل بشأن طبيعة التدابير المتوقعة.
هذه الإجراءات التي تحدثت عنها المسؤولة الفرنسية فسرتها وسائل إعلام جزائرية بأنها ستكون "إجراءات عقابية" للجزائريين في فرنسا، واعتبرته بأنه "تحول خطير" في الأزمة بين الجزائر وفرنسا، ويشير إلى تهديد باريس بتحويل سهامها إلى "جزء" من الجالية الجزائرية المقيمة بفرنسا.
كانت السلطات الجزائرية قد اعتبرت، في منتصف شهر أبريل/نيسان 2025، اثني عشر موظفاً فرنسياً من وزارة الداخلية كانوا يعملون ضمن البعثة الدبلوماسية الفرنسية في الجزائر، أشخاصاً غير مرغوب فيهم، وأُجبروا على مغادرة الجزائر خلال 48 ساعة.

وبرّرت السلطات الجزائرية قرارها آنذاك كردّ فعل على توقيف فرنسا، ثم حبس موظف قنصلي جزائري على خلفية قضية المعارض أمير بوخرص. وردّت فرنسا حينها بطرد اثني عشر موظفاً قنصلياً جزائرياً، واستدعاء السفير الفرنسي في الجزائر، ستيفان روماتي، للتشاور.
وتوترت العلاقات بين البلدين عندما اعترفت فرنسا بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية المتنازع عليها، حيث تدعم الجزائر جبهة البوليساريو المؤيدة للاستقلال. تفاقمت الأزمة بين الجزائر وفرنسا بعد توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 في الجزائر.
ما الذي ينتظر الجزائريين المقيمين في فرنسا؟
تجدر الإشارة إلى أنه حتى نهاية عام 2024، بلغ عدد الجزائريين المقيمين في فرنسا بشكل قانوني والحاصلين على تصاريح إقامة سارية المفعول حوالي 650 ألف شخص، مما يجعلهم أكبر جالية أجنبية من حيث عدد تصاريح الإقامة في فرنسا، وفق البيانات الصادرة عن وزارة الداخلية الفرنسية.
وأمام هذه التطورات في الأزمة بين الجزائر وفرنسا، بدأت تدب المخاوف في صفوف الجالية الجزائرية في فرنسا من أن يتعرضوا لـ"إجراءات انتقامية" يكونون بسببها ضحية الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، وتبرز مجموعة من الإجراءات التي قد تتخذها فرنسا بحق الجالية الجزائرية للضغط على سلطات بلادهم.
المحلل السياسي، ورئيس تحرير مجلة كل العرب بباريس، علي المرعبي، قال إنه في ظل تصاعد التوتر غير المسبوق بين فرنسا والجزائر وتبادل بعض الإجراءات العقابية، قد تلجأ باريس إلى فرض قيود محدودة، نظراً لتشابك العلاقات والمصالح العميقة التي تربط البلدين منذ ما قبل الاستقلال وحتى اليوم.
المرعبي أضاف في تصريح لـ"عربي بوست" أنه من بين الخطوات المحتملة، قد تُشدد فرنسا شروط منح تأشيرات السفر لأفراد الجالية الجزائرية، وتفرض قيوداً على حاملي الجوازات الدبلوماسية الجزائرية الذين لا يتمتعون بإقامة نظامية. كما قد تلجأ إلى تقليص عدد الرحلات الجوية بين البلدين.
خفض تصاريح الإقامة:
وفق بيانات وزارة الداخلية الفرنسية، كان هناك ارتفاع في تجديدات تصاريح الإقامة للجزائريين بنسبة 24.3%، في المقابل انخفض عدد التصاريح الممنوحة لأول مرة عام 2024 بنسبة 9.1%، حيث بلغ عددها 29 ألفاً و100 تصريح إقامة فقط بعد أن منحت باريس أكثر من 32 ألف إقامة للجزائريين في 2023.
تقليص منح التأشيرات
في سبتمبر/أيلول 2021، أعلنت فرنسا عن تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين بنسبة 50%، وبررت ذلك بعدم تعاون الجزائر في إعادة مواطنيها الذين صدر بحقهم قرارات ترحيل، ما تسبب في أزمة بين البلدين.
هذه الأزمة الأولى انتهت في ديسمبر/كانون الأول 2022، عندما أعلن وزير الداخلية الفرنسي السابق، جيرالد دارمانان، انتهاء "أزمة التأشيرات مع الجزائر"، عقب استقباله من طرف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في مقر الرئاسة بالجزائر العاصمة.
لكن أرقاماً رسمية فرنسية كشفت عن عودة باريس لاستعمال ملف التأشيرات لـ"عقاب الجزائريين" خلال الأزمة الحالية، إذ قلصت فرنسا عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين خلال شهر يناير/كانون الثاني 2025 بنسبة 28% مقارنة بنفس الفترة من عام 2024.
التضييق على تحركات الجزائريين
في أواخر فبراير 2025، قال وزير خارجية فرنسا جان-نويل بارو إن باريس أقرت "قيوداً على حركة ودخول الأراضي الوطنية (تطال) بعض الشخصيات الجزائرية". وأوضح أن القيود المفروضة هي "إجراءات يمكن الرجوع عنها وستنتهي بمجرد استئناف التعاون الذي ندعو إليه".
وأشار الوزير الفرنسي إلى أن هذه الإجراءات اتُّخذت من أجل "تعزيز أو الدفاع عن مصالح الفرنسيين"، متحدثاً عن ملفات شائكة لا تزال عالقة مثل قضية بوعلام صنصال، أو "استعادة الجزائريين الموجودين في وضع غير نظامي".
مراجعة اتفاقية 1968 الخاصة بالهجرة
هددت فرنسا بمراجعة أو إلغاء اتفاقية 1968 التي تمنح الجزائريين امتيازات خاصة في الإقامة والعمل، وفي فبراير 2025، منح رئيس الوزراء الفرنسي السلطات الجزائرية مهلة تتراوح بين أربعة إلى ستة أسابيع لقبول إعادة مواطنيها المرحلين، مهدداً بإلغاء الاتفاقية في حال عدم الاستجابة.
مراجعة اتفاقية 1968 الخاصة بحركة الأشخاص والإقامة والعمل بين الجزائر وفرنسا قد تُحدث تغييرات جوهرية تمس مباشرة حقوق الجزائريين المقيمين في فرنسا أو الراغبين في الهجرة إليها، إذ تمنح الاتفاقية امتيازات فريدة للجزائريين مقارنة بباقي الجنسيات.
حالياً، لا يخضع الجزائريون لنظام قانون الأجانب الفرنسي العام (CESEDA) في كل ما يتعلق بالإقامة، ويتمتعون بمسارات أسرع وأقل تعقيداً للحصول على تصاريح الإقامة الطويلة، والإقامة العائلية، والإقامة الدائمة بعد 10 سنوات (بدون شروط صارمة).
لكن في حال إلغاء أو مراجعة اتفاقية 1968، فإنه ستُطبّق على الجزائريين نفس القيود والشروط المعقدة المطبقة على الجنسيات الأخرى، مثل ضرورة التوفر على دخل قار وسكن واستيفاء المدة المحددة في قانون منح تصاريح الإقامة، وشرط الاندماج في المجتمع.
تسريع عمليات الترحيل
أمام استمرار الأزمة بين الجزائر وفرنسا، أعلنت الأخيرة في مارس/آذار 2025 نيتها ترحيل 60 جزائرياً تعتبرهم "خطرًا على الأمن العام"، إلا أن الجزائر رفضت استقبالهم، مما زاد من حدة التوتر إلى درجة أن باريس هددت بمراجعة اتفاقية 1968 مع الجزائر.
وفقاً لتقارير فرنسية، فإنه من بين 34 ألف جزائري صدر بحقهم أوامر ترحيل من فرنسا عام 2024، تم تنفيذ 3 آلاف فقط، أي بنسبة أقل من 10%. لكن أمام تصاعد حدة الأزمة، من المتوقع تصاعد عمليات الترحيل التي تستعملها باريس كورقة ضغط على السلطات الجزائرية.
عقوبات ضد الخطوط الجوية الجزائرية
هدد وزير الداخلية الفرنسي، برونو ريتايو، بفرض عقوبات على الخطوط الجوية الجزائرية، متهماً إياها بعرقلة عمليات الترحيل، مثل اشتراط تصاريح مرور قنصلية حتى عندما يكون المرحّلون يحملون وثائق هوية رسمية سارية المفعول.
وكشف عن مذكرة داخلية صادرة عن وزارة الداخلية الفرنسية في فبراير/شباط 2025 تؤكد أن الشركة الجزائرية "تمارس إجراءات اعتُبرت معرقلة لعمليات الترحيل"، مما دفع باريس إلى اتخاذ إجراءات جديدة أكثر صرامة.

إلى أين تتجه الأزمة بين الجزائر وفرنسا؟
أمام التطورات المتسارعة التي شهدتها الأزمة بين الجزائر وفرنسا خلال الأسابيع الماضية، تصاعدت بعض الأصوات تطالب بوقف التوترات الدبلوماسية، وسط تحذيرات من الوصول إلى نقطة اللاعودة، سواء في فرنسا أو الجزائر.
عضو في حزب فرنسا الأبية والمحلل السياسي زياد همدر قال لـ"عربي بوست" إنه بالنسبة للعلاقات الفرنسية الجزائرية، فإن أسباب التوتر معروفة، لا سيما من الجانب الجزائري، الذي لم يتقبل بعض القرارات والتصرفات الأخيرة.
وأوضح همدر أن أبرز هذه الأسباب تعود إلى الموقف الفرنسي من قضية الصحراء الغربية منذ يوليو/تموز 2024، إضافة إلى قرارات وتوجهات وزير الداخلية الفرنسي، الذي "استغل موضوع الجزائريين في فرنسا لأغراض سياسية داخلية، ومن الطبيعي أن ترد الجزائر حفاظاً على سيادتها وكرامة مواطنيها".
وحسب المحلل الفرنسي، فإنه من الواضح أن الجزائر لم تعد تتساهل مع فرنسا، خصوصاً في ظل سياسة مزدوجة يمارسها الجانب الفرنسي: وزراء يؤدّون دور "الشرطي السيء"، بينما يظهر الرئيس ماكرون بمظهر "الشرطي الجيد". ومع ذلك، لا يبدو أن الأمور ستصل إلى قطيعة تامة، لأن لا أحد من الطرفين له مصلحة في ذلك.
لكن الخلاف قد يُحل لاحقاً، خاصة في ظل المفاوضات الجارية حالياً، وأضف عضو حزب "فرنسا الأبية" أن "ما نراه الآن هو تبادل متوازن لطرد دبلوماسيين، وهو أمر يدخل في إطار الأعراف الدبلوماسية. لكن، لا يجب أن تصل الأمور إلى قطيعة كاملة، لأن لا الرئيس الفرنسي ولا الرئيس الجزائري يرغبان فعلياً في ذلك".
بدوره يرى رئيس تحرير مجلة كل العرب بباريس، علي المرعبي، أنه على الصعيد الاقتصادي، فهامش التحرك يظل ضيقاً، خصوصاً أن فرنسا تعتمد بشكل متزايد على واردات الطاقة، وفي مقدمتها الغاز الجزائري. من هذا المنطلق، يمكن القول إن هذا التوتر مرشح للانحسار تدريجياً، نظراً لما يُسببه من خسائر للطرفين على مختلف المستويات.
وحسب المرعبي، فإن فرنسا بحاجة إلى الجزائر في القارة الإفريقية، تماماً كما تحتاج الجزائر إلى الحفاظ على علاقة مستقرة مع باريس داخل المنظومة الأوروبية، رغم ما يشهده المشهد مؤخراً من انفتاح جزائري على شركاء جدد مثل إيطاليا.