بالتزامن مع التكتّم الإسرائيلي عن الخسائر المتلاحقة في المعارك التي يخوضها الجيش مع المقاومة في غزة، تتزايد المعطيات الرسمية التي ترصد تصاعداً مُقلقاً لحجم المشاكل العقلية والاضطرابات النفسية التي أصابت عموم الإسرائيليين بسبب استمرار الحرب على غزة.
وعرفت عيادات الطب النفسي في إسرائيل توافداً مكثفاً، وسط انتشار مظاهر تعاطي المخدرات، والإقدام على الانتحار، وتفشّي مؤشرات الأمراض السلوكية، وتحوّلهم مع مرور الوقت إلى "مجتمع مريض"، يعاني أمراضاً لم تكن معهودة من قبل، وسط عجز الحكومة عن تفاديها، وزيادة المشاكل العائلية، والعنف المنزلي.
مؤشرات القلق والصدمة والشعور بالعزلة والاكتئاب
لم يعد بإمكان الإسرائيليين إخفاء تأثّرهم بما تركته حرب غزة عليهم من ضائقة نفسية واسعة، بسبب الصدمات التي يتعرضون لها على مدار الساعة منذ قرابة 600 يوم، حيث سُجّلت زيادة كبيرة في الإحالات لخدمات الصحة النفسية.
ورصدت منظمة "أران ERAN" للإسعافات الأولية النفسية أن 48% من المكالمات التي تصلها تتعلق بالشكوى من مؤشرات القلق، والصدمة، والشعور بالفقد، والعزلة، والوحدة، والاكتئاب، وصعوبة النوم، وهو رقم قياسي منذ تأسيسها عام 1971، حتى بدأت بتوصيف ما يحدث بأنه "تسونامي" نفسي عصبي.
مع العلم أن عدد مكالمات الاستغاثة التي تلقّتها منذ بداية الحرب زاد عن 300 ألف مكالمة تطلب المساعدة النفسية، 40 ألفاً منها وردت من الجنود وعائلاتهم، و58 ألفاً من المراهقين، وهذه معطيات كفيلة بأن تحرم صناع القرار في الدولة من النوم، لأن بعض الجنود لا يخفون في مكالماتهم أسفهم على أنهم لم يُقتلوا في غزة، في ظل ما يعانونه من ضيق نفسي رافقهم لدى عودتهم من ميدان المعركة.
أما جمعية "سَحَر للمساعدة والاستماع عبر الإنترنت"، فكشفت أن عدد المكالمات التي تأتيها على الخط الساخن ارتفع بشكل حاد منذ اندلاع الحرب، وشهدت زيادة بنسبة 245%، وبلغت بين المراهقين 430%.
يؤكد الخبراء النفسيون الإسرائيليون أن هذه الفترة تُعتبر الأصعب عليهم، وأكثرها تعقيداً، حيث كان للحرب على غزة، ولا يزال، تأثير عميق على الصحة النفسية للإسرائيليين، تُشعل أمامهم أضواء حمراء مُقلقة، لأن الحديث يدور عن الجيل القادم للدولة، وهذه الأعراض ستستمر لسنوات قادمة، وتشمل القلق، والخوف، والوحدة العميقة، والألم النفسي، والذكريات الأليمة، وأعراضاً لا تزال باقية.
في الوقت ذاته، كشفت وزارة الصحة عن مزيد من المؤشرات السلبية التي باتت ترافق الإسرائيليين منذ اندلاع الحرب، أبرزها قلّة النوم، وزيادة الوزن، واستهلاك الكحول، والعودة للتدخين، وارتفاع أعداد المصابين بالأمراض المزمنة بنسبة 43%، والشعور بقلّة التركيز والانتباه، واستمرار تدهور الصحة البدنية والعقلية.

إحصائيات صادمة ومعطيات غير مسبوقة
أجرى "عربي بوست" جولة في العديد من الدراسات والأبحاث الصادرة عن جهات إسرائيلية رسمية، تكشف عن عمق الأزمة التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي بسبب تفشي الأمراض النفسية عقب اندلاع الحرب على غزة، ويمكن رصدها في المؤشرات التالية:
- أعلن صندوق التأمين الصحي عن زيادة بنسبة 150% في عدد المتقدمين للحصول على علاج للمخاوف المصاحبة لنوبات الهلع منذ بداية الحرب، وما يصاحبها من مشاعر التهيّج، والاكتئاب، ونفاد الصبر، والانسحاب، والعدوانية، والتغييرات السلبية في جودة النوم، وعادات الأكل، وقدرات التركيز، وكشفت وزارة الصحة أن 3200 إسرائيلي يدخلون شهرياً مستشفيات الطب النفسي.
- كشفت وزارة الحرب عن إصابة 7000 جندي وضابط وشرطي بإصابات عقلية ونفسية، عليهم أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة، وهناك 12% من جنود الاحتياط لديهم أعراض متعددة، ومن أصل 20 ألف جريح، يعاني ثلثهم من ردود فعل نفسية.
- أعلنت مؤسسة التأمين الوطني عن إصابة 65 ألف إسرائيلي بأعراض نفسية وعصبية بسبب الحرب، منهم عشرات الآلاف مصابون عقلياً، العديد منهم أُصيبوا بإصابات نفسية خطيرة، فيما يحتاج 30% من مستوطني غلاف غزة لعلاج صحي نفسي ودوائي لفترة طويلة، لأنهم باتوا مختلّين عقلياً، مرضى نفسيّاً، غير أكفاء.
- أكدت جمعية "كيشر لدمج الأشخاص ذوي الإعاقة" أنه منذ هجوم السابع من أكتوبر، أُصيب 100 ألف إسرائيلي بإعاقات مختلفة: حسّية، وحركية، وذهنية، وعصبية، ولم يتمكنوا من العودة لحياتهم الطبيعية، بسبب تبعات الهجوم والحرب من بعده.
- أكد المركز الوطني للصدمات النفسية أنه منذ اندلاع الحرب، سُجِّلت زيادة مُقلقة في عدد الإسرائيليين الذين يعانون اضطرابات ما بعد الصدمة والصدمات العقلية، وبلغت نسبة الجنود المصابين بهذه الأمراض 12%.
- كشف المؤتمر الدولي لجامعة تل أبيب للصحة النفسية للمرأة مؤخراً أن ثلث النساء اللواتي أنجبن في ظل الحرب، بنسبة 32.7%، أبلغن عن أعراض اكتئاب ما بعد الولادة، وهذه بيانات مُقلقة، وعانت 62% منهن من الكوابيس المرتبطة بالحرب، و73% عِشن في حالة توتر دائم، ومن السهل ترويعهنّ.
ظهور متلازمات نفسية نادرة
فيما بلغ عدد المرضى النفسيين في إسرائيل قبل الحرب 250 ألفاً، فقد زاد عددهم بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأبريل/نيسان 2024 قرابة 8700 مريض، وسط تقديرات بأن ما بين 13 ألفاً و60 ألف إسرائيلي سيظلّون يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة حتى بعد انتهاء الحرب، وأعراض القلق، والاكتئاب، واضطرابات أخرى، والحزن، والقلق الدائم، وانخفاض تقدير الذات، والشعور المزمن بالتعب، والإحباط، والتعرّض للعنف، والخوف، والفقد، وعدم الاستقرار، وانعدام السيطرة، واضطراب الإجهاد الحاد، والقلق، ونوبات الهلع، والأرق، والكوابيس، والذكريات المؤلمة، والانفصال، والعدوان، والجنون، والأفكار، والسلوكيات الانتحارية.
وكشف مستشفى "أسوتا أشدود" عن زيادة خطيرة بنسبة 100% في معدل الإصابة بمتلازمة "القلب المكسور"، وزاد الطلب على استهلاك الفيتامينات والمكمّلات الغذائية للاسترخاء والنوم بنسبة 31%، وزيادة بنسبة 15% في شراء الأدوية التي تُصرف دون وصفة طبية.
بالإضافة إلى ظهور أعراض لم تكن سائدة بين الإسرائيليين، تتمثل في "الجبائر الليلية" الناتجة عن الحرب بنسبة 20%، وهي أداة علاجية لشكاوى صرير الأسنان، والشد، وآلام المفاصل، وآلام عضلات الوجه، وغالباً ما تنتج عن التوتر والقلق بسبب الخوف من تبعات الحرب.
في الوقت ذاته، أظهرت العديد من الاستطلاعات البحثية بين الإسرائيليين في مراحل مختلفة من الحرب نتائج لافتة؛ فقد رأى 49% فقط منهم أن صحتهم جيدة جداً أو ممتازة، مقارنة بـ59% قبل الحرب، وأكد 26% منهم أن حالتهم العقلية متوسطة أو سيئة، بعد أن كانت 13% قبل الحرب، وقلّل 53% منهم أنشطتهم الاجتماعية، وشعر 48% بانخفاض التركيز، و45% لديهم قوة أقل للتعامل مع الحياة اليومية، و20% أجّلوا أو ألغوا مواعيد الفحوصات والأطباء.
كما أرجأ كل إسرائيلي خامس خطط توسيع أسرته، وكل ذلك بسبب الحرب. كما اعترف 12% بشرب المزيد من الكحول، بمعدل يبلغ الضعف مقارنة بما كان قبل الحرب، وزاد 40% من استهلاكهم للتدخين بعد الحرب، وكل هذه النتائج تعطي اتجاهات مقلقة، مثل تدهور حالة المرضى المزمنين، مع توقّع بأن يزداد الوضع سوءاً مع استمرار الحرب.

هجوم السابع من أكتوبر.. العالق في أذهان الإسرائيليين
تكشف البيانات الإحصائية واقعاً كارثياً على الإسرائيليين على صعيد تدهور صحتهم النفسية، فقد أعلنت جمعية "ناتال" للمساعدة النفسية أنها طوال عام 2022 ساعدت بعلاج 15,400 إسرائيلي يعانون من اضطرابات نفسية؛ لكنها منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى يونيو/حزيران 2024، لمدة تسعة أشهر فقط، فقد تواصلت مع 43 ألف إسرائيلي، للغرض ذاته، وخلال الحرب قفزت الاستفسارات النفسية المقدّمة بشأن القلق، والصدمات النفسية، والفقد، والاكتئاب بنسبة 950% تقريباً.
تكشف هذه المعطيات، التي تجد طريقها للنشر لأول مرة، أن الحرب الدموية على غزة تسبّبت بزيادة تعرّض الإسرائيليين لأحداث صادمة، أثّرت على إصابتهم باضطراب ما بعد الصدمة، سواء الجنود على خطوط المواجهة في غزة، أو المستوطنين المصابين بهجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة، والهجمات الصاروخية المتواصلة على عمق الدولة، والتعرّض غير المباشر من خلال أفراد الأسرة والأصدقاء المقربين الذين تعرّضوا لأحداث صادمة.
لم يعد سرّاً أن التجارب الصعبة التي مرّ بها الإسرائيليون خلال الحرب على غزة وهجوم السابع من أكتوبر، أسفرت عن زيادة حادة في استهلاكهم لأدوية القلق، والحبوب المنوّمة، ومضادات الاكتئاب بنسبة 50%، ومضاعفة ثلاث مرات في شراء مسكنات الآلام المُخدّرة. أما سكان مستوطنات غلاف غزة جنوباً، والمستوطنات قرب حدود لبنان شمالاً، فجاءت النسبة 200% و250% على التوالي.
نتائج الإنذارات المتكررة بسقوط الصواريخ
تركت الحرب على غزة آثارها الكارثية على الإسرائيليين بسبب أحداثها الصادمة، وقدرتها الهائلة على التسبب بأضرار نفسية لهم، في ضوء التوترات المتزايدة بسبب أصوات الإنذار المتكررة من سقوط الصواريخ، وأصداء الانفجارات التي تُسمع في المستوطنات والمدن. وهذه أعراض مرضية مصحوبة باضطرابات شديدة في الروتين، وضرر واضح يلحق بجودة الحياة والرفاهية المباشرة، ما يسفر بدوره عن نقص المحفزات الإيجابية.
وبجانب الآثار النفسية غير المسبوقة التي تركتها الحرب على الإسرائيليين، فقد رافقها شعور بالخيانة من الدولة، وعدم الثقة بحكومتهم، وشعور 67% منهم بعدم الأمان. ورغم مرور قرابة عشرين شهراً على اندلاع الحرب، فإن من يعتقد أن أوضاعهم تتحسّن بالفعل سيكتشف أنه مخطئ.
هذا ما يؤكده عالم النفس يوسي ليفي بلاز، رئيس مركز دراسات الانتحار، الذي يؤكد أنه لا توجد بداية للشفاء حتى الآن، لأن الأسوأ لم ينتهِ بعد؛ فالحرب أسفرت عن معاناة ثلث الإسرائيليين من اضطراب ما بعد الصدمة، وعانى 45% من الاكتئاب أو اضطراب القلق.
اليوم، ما زال الجمهور الإسرائيلي قلقاً للغاية، ويواجه صعوبةً في أداء مهامه، حتى أفاد 60% منهم بتدهورٍ كبيرٍ في خصائصهم الاجتماعية والنفسية، و50% نومهم مضطرب ولا يتحسّن، وباتوا يفقدون صبرهم، ويغضبون بسرعة، ما يخلق قدراً كبيراً من العدوانية بينهم، ويولّد الكثير من العدائية تجاه أنفسهم، وقد باتوا "يغلون" فعلاً، وقدرتهم على إدارة حواراتهم شبه معدومة.
بل اعترف 65% منهم أن شعورهم بالانتماء للدولة انخفض بشكل كبير، وأكد 67% أنهم يُفكّرون بالانتقال إلى دولة أخرى، وهذه أرقام لم تُشاهد من قبل، لكنهم يبرّرونها بأنهم "ليسوا مضطرين للعيش هنا".
أسفرت حرب غزة عن تحديات جديدة غير مسبوقة للإسرائيليين على صعيد تدهور صحتهم النفسية، لا سيما الجنود الذين يمرّون بأزمات عصبية، لعدة أسباب: أولاها الحزن على فقدان جزء من أجسادهم، وعدم القدرة على التكيّف مع الحياة بدونها، والنتيجة أنهم يعانون أذىً نفسياً عميقاً، وإصابات عصبية ذات تأثير نفسي، مثل صدمة الانفجارات بسبب عبوات المقاومين في غزة، أو قصف الطائرات.
وثانيها شعورهم بالعجز والذنب لعجزهم عن إنقاذ المستوطنين من منفّذي هجوم أكتوبر، وخوضهم معارك غير مستعدّين لها، وتركهم وحيدين في الميدان لعدة أيام، وإجبارهم على الاختباء والفرار.
آثار المعارك في غزة على زيادة مؤشرات انتحار الجنود
تتحدث معطيات وزارة الصحة أن عدد من يُعالجون حالياً في مشافي الأمراض النفسية بلغ 3200 مريض، ومنهم مُعرّضون للانتحار، رغم أنها لم تجمع بعد معلومات كاملة عن حالات الانتحار خلال الحرب؛ لأن إطالة أمد الحرب، وعدم وجود نهاية لها في الأفق، يُعدّ عاملاً محفّزاً يزيد من التوتر والهشاشة النفسية للإسرائيليين، حيث ازداد شعورهم بانعدام الأمل، لاعتقادهم بأن الحرب تخدم مصالح السياسيين التافهة.
رغم كل هذه الإحصائيات الإسرائيلية المزدحمة، فإن حجم الضرر النفسي الناجم عن هجوم السابع من أكتوبر والحرب التي تلتها في غزة غير واضح، لكن هناك أمراً واحداً مؤكداً، وهو أن أحد المجالات التي تلقت الضربة الأشد تدميراً، وستظل عواقبها على إسرائيل لسنوات عديدة قادمة، هو الصحة النفسية.
لأنه قبل الحرب كان هناك 300 ألف إسرائيلي يعانون من أمراض نفسية خطيرة، ومليون آخر ينتظرون في طوابير العيادات النفسية، وتشير المؤشرات الواردة إلى أن عدد الإسرائيليين الذين سينضمون لهذه الدائرة قد يزداد بمئات الآلاف، ما يزيد الصعوبات الكامنة، وآثاره الاقتصادية الهائلة.
ولأن معظم الإسرائيليين يعانون من ضائقة نفسية، فقد ارتفع عدد الإحالات للعلاج النفسي، وممّن يعانون من القلق، بنسبة مئات في المائة، كما طرأ ارتفاع حاد في استخدام المهدّئات، والكحول، والمخدرات. والفئات الأكثر إصابة هم الجنود، والنازحون، وعائلات القتلى والجرحى، وسكان المناطق الحدودية شمالاً وجنوباً.

وقد أدت الحرب إلى وضع غير مسبوق، والحديث يدور عن زيادة بنسبة تقارب 900% في عدد من يتلقّون الرعاية الصحية النفسية السريرية منذ اندلاع الحرب، ما يعني تضاعفها 15 مرة على الأقل منذ بدايتها.
وعند الحديث عن الجنود المصابين بأمراض نفسية بشكل خاص، تؤكد البيانات المنشورة أنه منذ السابع من أكتوبر، عُولج قرابة 3000 جندي ممّن يعانون من مشاكل نفسية، وصدمات عصبية، والشعور بالفشل والضعف.
وهذه أضرار نفسية غير مرئية، لكنها تبقى معهم؛ فهناك من شمّوا رائحة رفاقهم وهم يحترقون في غزة، ولم يعودوا قادرين على شمّ رائحة اللحم، وآخرون باتوا لا يرون قيمة للحياة المدنية بعد العودة من القتال في غزة، وفريق ثالث يجدون صعوبة في التحدّث مع زوجاتهم، وأطفالهم، وآبائهم، وأصدقائهم، لأن العشرات من رفاقهم في الجيش قُتلوا أمام ناظريهم، ناهيك عن الجرحى.
الأضرار النفسية لا تقلّ خطورة عن الخسائر البشرية
أكدت يوميات الحرب على غزة أن الجنود والضباط عموماً باتوا يدفعون أثماناً نفسية، وعائلية، ومهنية باهظة، لأنهم عاشوا في حالة حرب لفترات طويلة، والدولة بأكملها مرّت بصدمة، وما زال العديد منهم لا يستطيعون تحمّل المزيد من المعاناة المترتبة على تلك الحرب، بعد أن فقد العديد منهم أغلى ما لديهم، من المختطفين، والجنود، والنازحين.
ولا تزال دوائر عديدة منهم في صدمة أولية، عاجزة عن البدء في عملية معالجتها، والتعافي منها، بل يعانون توتراً مستمراً، ما يجعلهم يعيشون حالة اضطراب ما بعد الصدمة، وباتوا يُبلّغون عن صعوبة إعادة الاندماج بمكان العمل، والانخراط في حياتهم الجديدة، وصعوبة التواصل مع الأسرة والأصدقاء.
كما أن الجنود العائدين من المعارك في غزة، وشاهدوا مشاهد صعبة للغاية، وشاركوا في معارك مؤلمة، وفقدوا أصدقاء، وكانوا في خطر وجودي يهدد حياتهم، باتت الأفكار الوسواسية تغمر أذهانهم، وأسئلة عديدة تطرح نفسها في كل ساعات النهار والليل، بما يصعّب عليهم العودة إلى الحياة الطبيعية، والقدرة على الاستمتاع، واستثمار طاقتهم لمحاربة مظاهر التوتر.
وهذا ما يجعل صعوباتهم في إعادة نسج استمرارية حياتهم الموجودة قبل الحرب مسألة مزمنة، وقد تصل إلى حالة من اضطراب ما بعد الصدمة، ولا يمكن القول بأن العودة ستكون بلا عواقب أو تكاليف، بل إن العديد منهم لن يتمكنوا من تحقيق هذا التحول بمفردهم.
ومع دخول العدوان الدموي شهره التاسع عشر، فما زالت تبعاته وآثاره بادية على جمهور الإسرائيليين، ممّن تحوّلوا إلى مزيد من القسوة، وغير الإنسانية، ويسير مئات الآلاف منهم دون خدوش على أجسادهم أو وجوههم، لكن أرواحهم مليئة بالندوب، أرواحهم مجروحة، ومُحطّمون في الداخل، لا ينامون ليلاً، ويبكون نهاراً، ولم يتمكنوا من العودة إلى حياتهم الطبيعية لأكثر من عام ونصف.